دموع على سفوح صعدة
بقلم/ طارق عثمان
نشر منذ: 14 سنة و 5 أشهر و 8 أيام
الأحد 18 أكتوبر-تشرين الأول 2009 07:22 م

كان واضحا أن الشمس التي بدأت تهبط خلف الجبال تفعل ذلك بتثاقل شديد وكأنها متلهفة لسماع بقية الحوار الذي كان يدور هناك عند التلة الصغيرة المقابلة لها فشرعت تهبط بروية وعلى مهلها ... كانت تتبادل النظرات مع العجوز التي جلست القرفصاء أمام خيمتها وتسترق السمع لما يدور بينها وبين حفيدتها التي كانت تشاركها طريقة جلوسها وكأنها هي الأخرى عجوز لكن في السابعة من عمرها ...

كانتا تجلسان على حجرين متجاورين إختارته العجوز بعناية للتستقر عليه وتثني ركبتيها وتسند ذقنها إلى راحتيها وبقيت الصغيرة تستبدل حجرها كلما بدأ يتدحرج من تحتها وتسوي له الأرض وتعود لتجلس بجوارالجدة وقد قلدتها تماما في جلستها وتجهمها ...

كانت العجوز تناجي حفيدتها الصغيرة وتبثها همومها وكأنها نسيت أو تحاول أن تنسى الخمسة والخمسين سنة التي تفصل بينهما فتتعامل معها وكأنها جارتها القديمة أم هادي التي فرقت بينهما الحرب وأبعدهما التشرد ...

كانت تستشير حفيدتها وتتكلم معها وتنسى أنها كل قليل تأخذ طرف ثوبها لتنظف به أنف هذه الصغيرة الذي عبث به البرد...

لكن ماذا تفعل !!! فلا أحد يشاركهما هذه اللحظات سوى عنزتهما التي كانت لا يعنيها شىء مما يجري حولها فتقضي تلك اللحظات بالقفز هنا وهناك تحك جسدها عرض عمود الخيمة أوفي نتوءات الصخرة الكبيرة المطلة عليها.. كانت العنزة هي المخلوق الوحيد الذي تغمره السعادة في تلك الأرجاء كلها ، فلم تكن تعير صوت المدافع الذي يأتي من بعيد من خلف الهضاب أي إهتمام ولم تكن تكترث للظلام الذي بدأ يتنزل على الأوديه وينسكب على المنحنيات العميقة في الجبال ، و لا لصوت أزيز الرصاص الذي تردد القمم صداه ، لكن كانت تطرب لحفيف الاشجار التي تعبث به ريح الاصيل الباردة ، كانت الرهبة تغمر المكان كله وتتسلل إلى قلب العجوز وحفيدتها وهي لا تبالي ..

فلا شىء يعنيها !!! فولداها لا يقفان على خط النار كما هو حال صاحبتها التي تجلس الأن مع إبنة أحدهم ..

لم تكن الحرب تعنيها ولا تثير التساؤلات في ذهنها كما تفعل في ذهن صاحبتها التي لم تجد من تتوجه إليه بالسؤال سوى رفيقة دربها وحفيدتها الصغيرة ..

- أي حين شتنتهي الحرب يا شريفة ؟

أرجحت الصغيرة جذعها الى الامام والى الخلف فوق الحجر البيضاوي الذي تجلس عليه وقالت وكأنها أحد قيادات هذه الحرب وبكلمة مقتضبة ..

- قريب ياجدة قريب ...

- إن شاء الله يكون قريب يا بنتي ...

كانت تقول هذا والدمعة تجول في عينها وصوتها يتهجد وكلماتها تختلط بالحشرجة الحزينة ...

كان من حقها أن تحزن أكثر من كل نساء العالم ..

فابنها الكبير جندي في الجيش ، والذي يصغره في صفوف الحوثيين والموت يتربص بالاثنين ..

وهي هنا لا تعرف سببا للحرب ، وهما كذلك ....

كانت تسأل نفسها لماذا عليها هي وحدها أن تدفع ثارات مئات السنين لماذا عليها هي أن يكون شطري كبدها على قمم الجبال ينتظران الموت في حرب لا طائل منها ولا مبرر لماذا هي الوحيدة التي إذا انتصر أي طرف في هذه الحرب فلن تبتهج ...

لم يكن حزنها على بيتها الذي تناثرت أحجاره أطراف الجبل في قريتها ولا حزنها على مفارقة ديارها التي عاشت فيها كل هذه السنين ، ولا على بعدها عن ذويها هو ما يفطر قلبها بقدر ألمها وهي تتخيل إبنيها وهما يتبادلان صليات من الرصاص والموت ..

لم يقطع حبل تساؤلاتها غير صوت صفيح الماء وهو يتدحرج بفعل الريح الذي هبت فجأة والذي حاولت الصغيرة عبثا اللحاق به لكن هوى في الجرف أسفل التل ..

عادت الصغيرة إلى الجدة خائبة فلم تفلح في منع سقوط الصفيح ... وسألتها

- من تحبي أكثر يا جدة ...

- أحبك أنت أكثر يابنتي حتى لو راحت التنكة ...

- لا لا قصدي تحبي من أكثر الرئيس والا الحوتي ..

إلتفتت العجوز إلى الطفلة تأملت في إتجاهها طويلا كانت نظراتها زائغة كانت عيناها تحدقان في الفراغ وليس في وجه الفتاة التي كانت مشدوهة الى جدتها تتأمل التجاعيد الغائرة التي تزداد يوما بعد يوم قطعت العجوز تبادل النظرات تلك ووضعت يدها على ركبة الصغيرة ، وفوق العروق النافرة في ظهريد الجدة وتشققات الجلد الرفيعة وضعت الصغيرة يدها وأخذت تمسحها برفق وكأنها تريد محو آثار السنين أحست العجوز أن وراء هذا السؤال مغزى أخر فالصغيرة تريد أن تعرف هل تحب جدتها اباها الجندي أكثر أم عمها التابع للحوثي لكن لم تكن تريد أن تسألها مباشرة ..

ردت الجدة وقد تعمدت أن تحرم البنت من النيل منها.

- يابنتي أني احب أبوك وعمك أكثر من الدنيا كلها ابوك عيني هذه واشارت لإحدى عينيها وعمك عيني هذه واشارت للعين الاخرى وأني ما اقدرش استغني عن واحدة منهم ، أحبهن كلهن سوى ياشريفة ...

ثم سكتت برهة وأردفت

أما الرئيس والحوثي مش عارفه يابنتي من اكره أكثر ...

- واني تحبيني ؟

تبسمت العجوز

- أنت عيوني الثنتين قالتها وهي تضم راس الصغيره الى كتفها ..

- طيب ليش عندنا حرب يا جده ، مافيش مدرسة مافيش قراية ، كنت اشتي أقرا السنة ...

- أيه ... أيه ... تنهدت الجده وأخذت عودا صغيرا وشرعت تخط به على الارض وتحثو به التراب ثم قالت - - - حتى أني يا بنتي كنت أشتي أتعلم ،

- ليش ماتعلمتيش كان عندكم حوثي ...

- لما قامت الثورة، كنت ناوي اتعلم ، لكن يا بنتي ما استفدناش حاجة ، خمسين سنة والثورة ما وصلتش عندنا زي ما كان جدك الله يرحمه يقول ..

- ليش الثورة ما تجيش عندنا ياجده ..

- تبسمت العجوز وقد أحست أنها أقحمت نفسها في حوار عميق لم يكن يقوى عليه إلا المرحوم ...

- الثورة يابنتي خطفوها في صنعا

- من خطفها

- خطفوها الثوار

- ليش

- علشان يستفيدوا منها هم

- واحنا ما لناش ثورة

- إحنا لنا حرب يابنتي ما حناش عارفين أي حين تنتهي ...

- اشتي الحرب تنتهي ياجدة علشان يرجع أبي واروح أقرا

- واني اشتيها تنتهي يابنتي علشان اروي عطشي من ابوك وعمك .. اشتي أولادي يرجعوا سالمين ياشريفة ... اشتي أموت وهم جنبي ، لو جرى لواحد منهم حاجة اني شرجم بنفسي للوادي ...

أني خلاص مش حق تعب واهانات وصدقة من الناس ...

كانت الشمس تحس بالحزن على العجوز التي بدأت تنتحب و الصغيرة تشاركها الدمع وقد وقفت أمامها تمسح دموعها بيدها الصغيره وتقبل يدها.

- لا تبكيش ياجده ابي وعمي شرجعوا اني دارية شرجعوا والحرب باتتوقف كان هذا أخر عهد الشمس بهما فقررت الرحيل فلم تعد تحتمل كل هذا القهر الذي يصنعه اليمنيون لأنفسهم ، وأما البنت فقد جرت يد جدتها لتنهض فقد خيم الظلام وتوجهت بها إلى الداخل ...

استمرت العجوز في نحيبها وترجيعات صوتها والطفلة تربت على كتفها في حالة تبادل أدوار لا يتكرر... ومن خارج الخيمة كان دوى المدافع الرهيب يعبر كل هذه الهضاب ويأتي إليهم من بعيد من بعيد ليزيد من وحشة لياليهم البائسة ويخبرهم أن حمود ويحي يتقاتلان الآن .