الفضيلة الغائبة!
بقلم/ أ.د سيف العسلي
نشر منذ: 12 سنة و 10 أشهر و 12 يوماً
الجمعة 03 يونيو-حزيران 2011 05:44 م

 في خضم التغيرات الكبيرة التي يعيشها اليمنيون في هذه الايام يجب ان لا ينسوا ان ذلك يرجع على الاقل جزئيا الى فقدانهم للفضيلة الغائبة. و لذلك يجب عليهم ان يعترفوا بذلك حتى يتم تجاوز ما يحدث و منع تكراره مستقبلا. المقصود هنا بالفضيلة الغائبة غياب الصدق بالقول و الفعل و غياب الوفاء بالعهود و المواثيق. و لقد ترتب على ذلك تفشي الكذب بشكل واسع و قول الزور و نقض العهود.

 الصدق هو التوافق بين القول و الفعل و كذلك التساوي بين الظاهر و الباطن. اما الكذب فهو عكس ذلك. و لا شك ان الله قد حظ على توخي الصدق و تجنب الكذب. فالصدق هو صفة لله و ملائكته و العلماء. شهد الله انه لا اله الا هو و الملائكة و الوا العلم قائما بالقسط. يا ايها الذين امنوا اتقوا الله و كونوا من الصادقين. و قل رب ادخلني مدخل صدق و اخرجني مخرج صدق و قل جاء الحق و زهق الباطل ان الباطل كان زهوقا. و الصدق هو كذلك ما يميز المؤمنين من غيرهم لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذي صدقوا و ليعلمن الكاذبين. من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه و ليجزي الله الصادقين بصدقهم.

اما الكذب فهو من صفات الشيطان و اوليائه. انهم سماعون للكذب الكالون للسحت. و لذلك فانهم لا يفلحون. قل سيروا في الارض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين. لا شك انه يترتب على تفشي الكذب التحاكم الى الطاغوت. و اذا قيل لهم تعالوا الى الصدق رايتهم يصدون عن ذلك صدودا. فيتصدر الموقف الفاسدون اي الكذابون و المنافقون و المجرمون و الفاسقون و يختفي منه الصادقون و الصديقون و المتقون و الصالحون.

و لذلك فانه يجب على كل مؤمن ان يمارس الصدق اولا مع نفسه و مع اقاربه و مع ابناء بلده و حتى يكون قادرا على ممارسته مع اعدائه و من يكرههم. يا ايها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط و شهداء لله لو على انفسكم او الوالدين او الاقربين. اي انه لا يجوز اللجوء الى الكذب حتى لو كان يعتقد ان الصدق سيجلب الضرر و ان الكذب سيدفعه.

و من اجل ذلك كان صدق الشخص مع نفسه و اقاربه و محبيه هو اعلى مراتب الصدق. اما الزور فهو الكذب لصالح الاخرين و قد يكون المتضرر من ذلك الاخرون ايضا. و بذلك فهو يمثل اعلى مراتب الكذب.

يمثل الوفاء بالعهود احد اهم مرتكزات الحياة الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية. يا ايها الذين امنوا اوفوا بالعقود. و من صفات المتقين الوفاء بالعهد. و اعلى مراتب الوفاء بالعهد ما يكون من الوفاء بتلك العهود التي تعقد بين المتخاصمين او المتعادين.

و اذا ما حاولنا تطبيق هذه القيم على حياتنا في اليمن فانه و لسوء الحظ سنجد انها غائبة تماما منها. و من لا يصدق ذلك فما عليه الا ان يراقب نفسه لمدة ساعة من الزمن و يسجل كم مرة مارس الصدق بكل انواعه و الكذب بكل اشكاله. التعرف على كل من الصدق و الكذب بسيط و بالتالي فانه لا يحتاج الى تعريف فلسفي و لا معجمي. فالصدق في ابسط معانيه هو كل ما توافق بين ما يعتقد و ما يقال و بالتالي فان كل شخص قادر على معرفة ما اذا كان صادقا او كاذبا. فالله تعالى قد مكن الانسان اي انسان من ان يكون قادرا على التعرف على افكاره و مشاعره و معتقداته. و من ثم فانه يستطيع اذا اراد ان يميز بين الصدق و الكذب قد تبين الرشد من الغي. فعلى سبيل المثال ان ما يعتقد اي انسان تصرفا معينا على بانه رشد و تكون ممارساته و تصرفاته وفقا لذلك فانه يكون صادقا و اذا ما اعتقد ان تصرفا معين هو غي و لكن يمارسه على اساس انه رشد فانه يكون كاذبا. انني على ثقة ان هذا الشخص سينبهر بالحجم الكبير للكذب و الندرة الكبيرة في الصدق.

 و نفس الشيء يمكن عمله من اجل التعرف على مقدار الزور في حياتنا. و من يشك بذلك فما عليه الا ان يراقب ما ينسبه لنفسه و ما ينسبه لغيره من صفات حميدة و ذميمة. فسيجد ان ما ينسب لنفسه من صفات حميدة اكثر مما يستحق و من صفات ذميمة اقل مما فيه. و في نفس الوقت فان ما ينسبه لغيره من صفات حميدة اقل مما يستحقون و من صفات ذميمة اكثر مما فيهم و خصوصا اذا كان يكرههم او بينهم و بينهم سوء فهم او اختلاف.

اما فيما يخص التعرف على مدى التمسك بقيمة الوفاء بالعهود فما على اي انسان الا ان يراقب كم مرة وعد بالقيام بعمل ما او التصرف بطريقة معينة و هو ينوي عدم الوفاء ذلك. و كم مرة حرص على الوفاء بالتزاماته حتى و ان لم يفي الاخرون بالتزاماتهم.

و اذا ما صدق هذا الوصف على الافراد فانه يصدق على المجتمع ككل. فمن يتابع ما تتناقله وسائل الاعلام على مختلف انواعها سيلاحظ ذلك بكل وضوح. و لسوء الحظ فان ما تسطره اقلام الكتاب يحتوي على قدر كبير من ذلك. و الاكثر اشمئزازا ان منابر العديد من المساجد لا تجد اي حرج في ممارسة ذلك. اما الاحزاب السياسية فحدث و لا حرج.

فما من شك ان غياب هذه الفضيلة قد تسبب فيما نعاني منه في الوقت الحاضر. الا ترون اننا لو كنا صادقين ما قبلنا كذب حكامنا علينا و اذا ما اصروا على ذلك لقاومناهم في بداية امره و لكان ذلك سهلا و لتم اخراجهم من السلطة باقل تكلفة من قبل ان يتمكنوا من تضليلنا و تقوية انفسهم و تسخير كل مواردنا لقمعنا. و لكن تساهلنا مع الكذب قد شجعهم على ذلك بل انهم قد نجحوا في استدراكنا الى هذا المستنقع و على وجه الخصوص احزاب المعارضة.

 الا ترون ان القبول بممارسة الزور قد سهل تزوير الانتخابات. فالعديد منا لا يكترث لمن يصوت لأتفه الاسباب. و ما من شك بان التصويت لمن لا نعتقد انه يستحق اعطاءه اصواتنا هو من اشهر انواع ممارسة الزور. فاذا ما تم انتخاب رئيس لا يستحق ان يكون رئيسا فانه سيختار رئيس حكومة لا يستحق ان يكون كذلك و وزراء لا يستحقون ان يكون كذلك و قادة جيش لا يستحقون ان يكونوا كذلك و موظفين عمومين لا يستحقون ان يكونوا كذلك.

فاذا اوصلنا من لا نعتقد بأحقيتهم بتمثيلنا فإننا نكون قد اعطيناهم مبررا لان يزوروا في اعمالهم فيوافقون على برنامج الحكومة التي لا تستحق ان تمنح الثقة و يجاملون الرئيس في قضايا اساسية تضر بالمصلحة العامة. و نتيجة لذلك فان مجلس النواب يتحول بدلا من مؤسسة رقابية الى مؤسسة مزورة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.

و اذا ما كنا لا تقدر قيمة الوفاء بالعهود و نمارس النكوث بها فإننا بذلك نعطي رسالة للرئيس فيبادر الى اعطاء الوعود مع نيته عدم الوفاء بها. و اذا كنا لا نقدر قدر من يتحمل عناء الوفاء بالعهود و نفضله على غيره و لا نعاقب من بالغ بالوعود و نكث بها فإننا بذلك نشجع الفساد السياسي. ففي هذه الحالة فانه لا مكان لمن يتمسك بالفضيلة الغائبة في العملية السياسية. و من ثم ان المجال ينفتح و يخلوا لكل من يمارس الكذب و التزوير و التضليل و الخداع. و تكون النتيجة ان الحزب الفائز هو الحزب الاكثر ممارسة للتضليل و الرئيس الفائز هو كذلك و قيادة الدولة يستولي عليها من لا يخجل من ممارسة ذلك.

و في هذه الحالة يسيطر الاحتكار و يتفشى اختلال الموازين و انتشار التطفيف و غياب المعايير و تركز الثورة في ايد القلة و تقل الوظائف و تنتشار الامراض وتصبح الحياة تعاسة و تقل الامانة و نختفي الثقة و يزيد الاستغلال. الذين يتربصون بكم فان كان لكم سلطة و ثروة قالوا ان معكم و ان خرجتم منها قالوا لم نكن معكم. انهم مذبذبين بين ذلك لا الى هؤلاء و لا الى هؤلاء.

 و في هذه الحالة يندر قول الحق و الامر بالمعروف و النهي عن المنكر و يلتبس الحق بالباطل و تضيع الحقوق و يتخذ البعض البعض اربابا من دون الله و ينتشر التعصب و تظهر الشلل فيتفرق المجتمع فرقا و اشياعا متناحرة. و اذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا انما نحن مصلحون.

انني على ثقة بان الكثيرين منا اذا كانوا صادقين سيكتشفون حجم هجرانهم لفضيلة الصدق وتلبسهم لما يناقضه. و اذا ما ثبت ذلك فانه سيكون من السهل تفسير ما نعانيه من مشاكل و ازمات. و في هذه الحالة فان التغلب عليها لا يمكن ان يتحقق الا من خلال إحياء هذه الفضيلة الغائبة سواء من قبل الافراد او من قبل المجتمع ككل.