القضية الجنوبية .. حقائق وأرقام (2 5)
بقلم/ احمد طلان الحارثي
نشر منذ: 11 سنة و 8 أشهر و 14 يوماً
الخميس 12 يوليو-تموز 2012 07:51 م

تمثل القضية الجنوبية حجر الزاوية في نشاط كثير من القوى السياسية والأنظمة المختلفة ، ليس على المستوى الوطني والإقليمي فحسب ، ولكن على المستوى الدولي أيضاً ، إلاّ أن النظر إلى جوهرها ومنطلقاتها الأساسية يختلف من جهة لأخرى ، وهذا الاختلاف مبني على كثرة الجوانب التي تظهر بها هذه القضية بين الحين والآخر من جهة ، ومن حيث تعدد الأشخاص والتيارات الحاملة لها من جهة ثانية ، ومع هذا كله فإن القضية لا تخرج عن كونها قضية حقوق فردية خاصة في حدها الأدنى ، أو أن تكون حقوق جماهيرية عامة في حدها الأعلى ، أو ربما مزيج من هذا وذاك وهو الأغلب والأعم.

وعلى هذا الأساس وجب علينا أن نعيد إلى الأذهان كل ما يتردد من المفردات الكلامية التي تندرج في إطار الحديث عن هذه القضية لكي يتسنّى لنا الغوص في أعماق المشكلة من خلال العودة بها إلى جذورها التاريخية وبالتالي بيان حجم الأضرار التي نجمت عنها ومن ثم الانطلاق إلى آفاق واسعة لوضع المعالجات الصائبة وفق رؤية وطنية شاملة تضمن لكل ذي حقٍ حقه وبما يضمن عدم العودة إلى الوراء بعد أن وصلنا إلى القمة العالية والتي دفعنا في سبيل الوصول إليها تضحيات جسيمة لا يستهان بها ومن هذه المفردات : الإقصاء والتهميش والضم والإلحاق ونهب الأراضي ونهب المساكن والمواطنة غير المتساوية والاحتلال والتقاعد القسري والطرد والإبعاد ... الخ .

وإذا كان لمستخدمي هذه المفردات ما يبرر لهم استخدامها كوسائل وحجج يعتمدون عليها لإثبات حقهم في طلب الانفصال أو فك الارتباط أو التمسك بمبدأ حق تقرير المصير والعودة إلى ما قبل 22 مايو 1990م كما يقولون ، فإن هناك من مورست ضدهم هذه الوسائل ذاتها خلال العقود الماضية من عهد الثورة والجمهورية ، وبات من حقهم التمسك بما تحقق لهم من إنجازات وحدوية باعتبارهم طرف أساسي يجب أن تؤخذ وجهة نظرهم بعين الاعتبار.

وبالاستناد إلى معايشتنا لفترة طويلة من عمر هذه القضية وعلى ما حفظته ذاكرة الوثائق عن تلك الفترة ، سوف نقدم بعض الشواهد على عمق المشكلة وامتدادها على مدى زمن طويل وعبر سلسلة من الصراعات والأحداث التي شهدها الشطر الجنوبي من الوطن ، وذلك من خلال نصوص منقولة كما جاءت عن مصادرها ومعبرة تعبيراً صحيحاً عن ذاتها وفق منطقها المطابق لواقع حدوثها ، ونعتذر سلفاً لكل الجهات والأفراد على السواء ، فليس غرضنا الإساءة أو التشهير إطلاقاً ، ولكن الغرض هو توضيح الحقائق وسرد الوقائع المتعلقة بموضوعنا هذا ، وسنبتعد عن ذكر الأسماء بقدر المستطاع ـــ وإن كان في ذكرها فوائد كبيرة ــــ ولن نذكرها على الإطلاق إلاّ ما تحتم ضرورة السياق ذكره ، لأن شاهدنا هنا الأحداث بمجملها وليس الأشخاص ، ولكي تسهل عملية الإعداد والمتابعة سوف يكون النشر على شكل حلقات متتالية وهذه هي الحلقة الثانية تحت عنوان :

(الصراع الطبقي والأيديولوجي)

لقد كان لقرارات المؤتمر العام الخامس للتنظيم السياسي الجبهة القومية المنعقد خلال الفترة من 2 ـــ 6 مارس 1972م دوراً كبيراً في تجذير بنية الصراع الطبقي والأيديولوجي أو بمعنى آخر الفرز المجتمعي على أساس الانحدار والانتماء الطبقي للفئات المكونة للنسيج الاجتماعي ، إذ أنه خلال فترة الكفاح المسلح لم يرتبط تنظيم الجبهة القومية بالاشتراكية العلمية وأيديولوجيتها الفكرية وهذا ما يؤكده أحد منظري الجبهة القومية بقوله (أما الثقافة التي تستمد أصولها من نظرية الاشتراكية العلمية فلم تكن تقليداً في الحياة الثقافية الداخلية لأعضاء الجبهة القومية ، وظلت الصلة بأفكار الاشتراكية العلمية تعتمد على الاجتهاد الذاتي لهذا العضو أو ذاك) وحتى في الجانب الطبقي للثورة من وجهة نظر الجبهة القومية فإنه لم يكن مطلوباً ، بل وغير وارد في ذلك الحين ، وهذا ما تعترف به الجبهة القومية بالقول (وكل حركة تحرر وطني في العالم يقوم أساس نضالها الوطني في مرحلة الثورة الشعبية المسلحة على كل القوى المعادية للاستعمار ، وربما تتدخل في هذه المرحلة فئات من الرأسمالية الوطنية والإقطاع ، لكنها بعد الحصول على الاستقلال السياسي تصطدم بمهمة حل التناقضات الاجتماعية وتحقيق الأهداف التي يناضل الكادحون من أجلها في مرحلة التحرر الوطني) وهذا ما حصل بالفعل وتجسد عملياً في الخلافات الحادة قبل وبعد المؤتمر العام الرابع للجبهة القومية وما تلاه من إجراءات متبادلة بين أقطاب الصراع الطبقي والأيديولوجي وهذا ما تؤكده إحدى الوثائق الحزبية بالقول (وعند تحديد المفاصل الرئيسية للاتجاهين يمكن القول بأن اليمين قد اعتمد من الناحية الطبقية على شرائح البرجوازية وبعض فئات البرجوازية الصغيرة والفلاحين بما فيهم بعض الكولاك وشبه الإقطاع وممثلي البرجوازية البيروقراطية في جهاز الدولة المدني والعسكري ، ومن الناحية الأيديولوجية فقد استند اليمين على الأيديولوجية القومية البرجوازية ولم يكن اليمين من الناحية التنظيمية والسياسية تياراً موحداً ، بل كان يظم مجموعات تلتقي فيما بينها في الاتجاه العام للتطور وفي مواجهة اليسار ، غير أنها تتناقض فيما بينها حول مراكز السلطة ومواقع التأثير والنفوذ ، أما اليسار فقد تشكلت قاعدته الاجتماعية من البرجوازية الصغيرة والعمال والموظفين والفلاحين والمثقفين ، وتأثر من الناحية الفكرية بأفكار الاشتراكية العلمية من جهة وببعض الأفكار الفوضوية والمغامرة من جهة ثانية) وعلى هذا الأساس جاء برنامج مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية محدداً أهداف وأيديولوجية الثورة وقواها الطبقية والذي جاء فيه (ومن الطبيعي أنه في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية يصبح تحالف العمال والفلاحين والجنود والمثقفين الثوريين والبرجوازية الصغيرة مسألة ضرورية لمجابهة الأعداء الطبقيين) وفي هذا الاتجاه فقد اتخذت العديد من الإجراءات الثورية الهادفة إلى تحقيق هذا البرنامج على أسس طبقية ، فكان من بين تلك الإجراءات مواصلة تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي رقم 27 لعام 1970م من خلال التخطيط والتنظيم لإجراء الانتفاضات الفلاحية ، حيث نظمت أول انتفاضة فلاحية في المديرية الجنوبية من المحافظة الثالثة في 7 أكتوبر 1970م وكانت بمثابة معركة طبقية حقيقية بين الإقطاع والفلاحين الفقراء في هذه المديرية التي يعتبرها التنظيم السياسي الجبهة القومية من أعتى القلاع الإقطاعية في البلاد ، وقد جاءت الكثير من الانتفاضات الفلاحية كامتداد لهذه الانتفاضة شملت المحافظات الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والتي قيل عنها (فحركة الفلاحين وانتفاضاتهم بعد المؤتمر العام الخامس بقيادة التنظيم السياسي الجبهة القومية من أجل مواصلة تنفيذ قانون الإصلاح الزراعي لم تمكن الثورة من دك علاقات الإنتاج الإقطاعية والاستيلاء على الأرض فقط ، وإنما مكنت الفلاحين بالمقابل من دخول ميادين الصراع السياسي والاقتصادي وعززت من تحالفهم المتين مع العمال) ،

 ونتيجة لهذه الانتفاضات فقد استولى الفلاحون على حوالي 135 ألف فدان تم توزيعها على حوالي ثلاثين ألف أسرة ، وقد اتسمت مرحلة الانتفاضات الفلاحية بإجراءات العنف الثوري المنظم ضد أعداد كبيرة من ملاك الأراضي بما فيهم أصحاب الحيازات الزراعية الصغيرة جداً ، كما رافقتها أعمال عنف ضد أعداد كبيرة من السكان ممن لا يملكون أي أرض زراعية ، بالإضافة إلى استهداف الكثير من العلماء والدعاة والمصلحين تحت مسمّى (سحق الكهنوت واجب) وقد سحب العديد منهم مقطورين خلف السيارات والحراثات حتى الموت ،وأعدم البعض منهم مباشرة على يد الفلاحين أثناء تنفيذ الانتفاضات ، وانتشرت بشكل كبير أعمال الاغتيالات للعناصر التي لا يروق للتنظيم بقاءها في إطار المجتمع وقد اشتهرت تلك الأعمال بما عرف بـ (إعدامات الجواني والحبال والآبار المهجورة) من كثرة من يتم العثور عليهم جثث هامدة بإحدى هذه الوسائل ، ويمكن القول أن أعمال التصفية الجسدية للمعارضين لسياسة التنظيم قد تعدت الداخل لتصل إلى اغتيالهم خارج البلاد باستخدام بعض العناصر المشهورة بأعمال الإرهاب وارتباطها بأمن الدولة وحصول البعض منها على جوازات سفر من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، وقد شملت أعمال الانتفاضات الفلاحية تأميم ومصادرة جميع الآلات الزراعية والحراثات والجرارات وحتى السيارات الصغيرة في ذلك الوقت ، ولا ننسى انتفاضة الأيام السبع في أغسطس 1972م الشهيرة التي دفع الناس إليها دفعاً لتحقيق عدد من الشعارات الثورية ، مثل تخفيض الرواتب واجب ، تأميم الإسكان واجب ، تحريق الشياذر واجب ، تحرير المرأة واجب ، حتى أنه تبعاً لهذا الشعار أجبر الكثير من الأهالي على تسليم بناتهم للعمل ضمن مجمعات نسوية تحت طائلة التهديد والاعتداء على من لم يستجب ، وقد اعتبرت هذه الانتفاضات وما رافقها من أعمال العنف بمثابة ثورة طبقية جديدة قادها التنظيم السياسي الجبهة القومية وباركها بقوله (وقد كانت هذه الانتفاضات ضد الإقطاع التي شملت مختلف المحافظات الثورة الطبقية التي أنهت الإقطاع وبقايا الرق الطبقي ، وأعلنت تأسيس الملكية الطبقية الجديدة القائمة على التعاون والملكية الاجتماعية) وإزاء هذا العنف الثوري المنظم ضد قطاعات واسعة من فئات الشعب الذين لم يكن لهم من ملجئ أو نصير سوى الهروب خارج الوطن عبر الحدود مع الشطر الشمالي ليواجهوا الظروف القاسية والعيش في حالة يرثاء لها نتيجة لعزلهم عن جميع ما يملكون هرباً بحياتهم دون غيرها ، وقد واجهتهم سلطة حكومة الثورة بمزيد من الإجراءات القمعية حتى أن البعض منهم ظل يعيش تحت نظام الكفالة المالية والكفالة الحضورية ، إلاّ أن من زادت لديه حالات المضايقة والاستفزاز يضطر للهروب خارج البلاد وبالتالي يصبح الضامن عليه بين فكي كماشة ، فأما السجن أو دفع مبلغ الكفالة المالية ،

ومن الطبيعي أن يفتدي الشخص نفسه بتحمل أعباء مالية باهظة سداداً لضمانته وفكاً لإساره من ورطة كبيرة ، وقد لوحظ ازدياد حالات الهروب على هذا المنوال ، ومرد هذه الظاهرة طمع الجهات الأمنية في الحصول على الأموال من هذا الباب وبالتالي الإثراء غير المشروع لكثير من المسئولين نظراً لعدم دخول تلك الأموال في حسابات الدولة النظامية ، ولكنها ظلت غنيمة ولقمة سائغة في يد المتاجرين بالمبادئ الثورية والنضال الثوري والمدعين ـــ زوراً وبهتاناً ـــ حماية المكتسبات الثورية للعمال والفلاحين وسائر الكادحين ، في حين يدخلون إطار البرجوازية والاستغلال من أوسع الأبواب.

وهكذا تعمق الصراع الطبقي في مجتمع قليل العدد محدود المدد كان أمله في الثورة أن تحرره من نير الاستعمار وتتقدم به إلى أعلى درجات التطور والرقي ، وكان يحلم بالعيش في ظل أخوة ووئام على أنقاض مبدأ (فرّق تسد)الذي كرّسه الاستعمار البغيض ، غير أنه وجد نفسه مضطراً للعيش في إطار هذا المبدأ ، ولكن بطريقة ثورية ديمقراطية تبادل خلالها أفراد المجتمع المواقع والدرجات الاجتماعية فيما بينهم ، وكأنه كان حتماً على الغني أن يصبح فقيراً والعزيز ذليلاً والآمن خائفاً والمستقر مشرداً ..الخ.

وأود أن أعزز ما ذكرته بشهادة أحد الكوادر الوسطية نقتطف منها بعض العبارات (فكثير من كلام القياديين في محاضراتهم ولقاءاتهم هو انعكاس خفي لممارساتهم وفي كثير من الجوانب التي يدعون فيها الآخرين إلى التقشف وتطوير أسلوب العمل والإنتاج والمثابرة في الأعمال الأخرى ، ولكن عند التطبيق لا يريد أولئك تطبيق ما يقولونه في واقع حياتهم ، فهم يتاجرون بممتلكات الشعب وهمومه وآماله لأغراض ومصالح شخصية ، لذلك يجب أن ننتقد ذلك الإنسان الذي ينسب انتماءه الطبقي إلينا نحن الفقراء قولاً وقد أصبح في حقيقة الأمر ينتمي إلى طبقة غيرنا).

ونختم هذه الحلقة بما جاء عن أكبر المنظرين لتأجيج الصراع الطبقي والأيديولوجي حيث أكد بالقول(إن أمام الثورة طريق واحد فقط .. أي ليس ثمة من خيار لثورتنا سوى أن تؤمن وتلتزم بالنهج الاشتراكي العلمي ، كدليل نظري وأداة نحلل بواسطتها واقعنا بهدف تغييره باستمرار نحو الأفضل .. وطالما أننا نلتزم لهذا الفكر فمن الخطاء أن نفهم العمل الوطني فهماً تقليدياً ، كما لا يمكن أن نسمح باستمرار تجزئة العمل الوطني باعتباره امتداد للغرور البرجوازي الصغير .. إذ أن الاشتراكية العلمية ـــ كدليل نظري ـــ حدد معالم الطريق بشكل واضح ، وفي ضوئها ليس من عمل سياسي ثوري إلاّ ما كان مرتبطاً بموقفها الأيديولوجي بالقوى الطبقية للثورة من عمال وفلاحين ومثقفين ثوريين وبرجوازية صغيرة .. وبالتعزيز المستمر للدور القيادي للطبقة العاملة وحلفائها الفلاحين كلما تقدمت الثورة وتعمقت في المجتمع جذور تحولاتها الاقتصادية والاجتماعية).