خواطر عابرة عن الدولة المدنية في الدستور الجديد!
بقلم/ نصر طه مصطفى
نشر منذ: 12 سنة و 8 أشهر و 6 أيام
الأحد 18 مارس - آذار 2012 12:42 م

يتصور الكثير من اليمنيين أن بلادهم قد لا تحتاج إلى صياغة دستور جديد خلال العامين القادمين بقدر ما هي محتاجة لتعديلات دستورية معمقة في عدد من القضايا بحيث تحقق مطالب شباب الثورة في ضمان صياغة أسس متينة لدولة مدنية تقوم على أساس الحكم الرشيد وسيادة القانون وبسط العدالة الاجتماعية وتعزيز قيم الحرية والمساواة... إلا أن القرار النهائي فيما يتعلق بالدستور سيتم اتخاذه عبر مؤتمر الحوار الوطني وفق ما سيتوصل إليه المتحاورون خلال الفترة القادمة، ولا أظن أنه ستحدث تغييرات جوهرية في البابين الأول والثاني من الدستور الحالي فيما ستتركز التعديلات في الغالب على بقية الأبواب المتعلقة بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والمحلية... وسيتركز الحوار بالتأكيد على معالم الدولة المدنية التي يصبو إليها ملايين اليمنيين الذين عانوا الأمرين من أحوال الفوضى وأنظمة العسكرتاريا المنصهرة بالنزعات القبلية والمناطقية التي ظلت تعتبر أن دولة القانون ستحول بينها وبين الاستمرار في الحكم.

وتسود مفاهيم في بعض الأوساط بأن الدولة المدنية ليس لها سوى معنى واحد وهو أنها دولة علمانية وهو أمر يسبب القلق لدى هذه الأوساط، رغم أن شباب التجمع اليمني للإصلاح – أكبر الحركات الإسلامية اليمنية – في مقدمة الداعين للدولة المدنية وهم بالتأكيد لا يقصدون الدولة العلمانية... وبالتأكيد فنسبة قليلة من دعاة العلمانية هم من يعلنون رأيهم صراحة بالدعوة إليها – وهذا حقهم بلاشك – مع أن أي حوار جاد بين الأطراف المعنية يمكنه الوصول إلى مفاهيم متقاربة ومشتركة لهذه القضايا الشائكة قد يفضي إلى ما يمكن اعتباره (علمانية إسلامية) لا تمس مكانة الشريعة الإسلامية كمصدر لجميع التشريعات – كما هو منصوص عليه حاليا – ولا تمس الحريات العامة والحريات الشخصية في الوقت ذاته ولا تتعدى عليها، بمعنى أنه لا يصبح لأي جهة مثل علماء الدين مثلا سلطات استثنائية باسم الدين على المواطنين وحرياتهم الشخصية كما هو الحال في البلدان التي لديها هيئات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما أساليبها تفضي إلى التمسك بالمنكر وتجنب المعروف كرد فعل على تضييق الحريات الشخصية للمواطنين بصورة فجة تتناقض مع أصول الدين ومقاصد الشريعة... وعلى كل حال فليس هذا موضوعنا حاليا بقدر ما هو التركيز على مفهوم الدولة المدنية بما هي دولة يسودها القانون ويتساوى فيها المواطنون ولا يحكمها العسكر ولا يكون فيها أي نفوذ استثنائي لأي من مراكز القوى الاجتماعية التي عرفها الناس طوال العقود الخمسة الماضية.

تلك هي الركائز الأساسية لمفهوم الدولة المدنية الذي ينشده شباب الثورة والذي خرجوا من أجله ولن يعودوا قبل أن يصبح نصوصا واضحة صريحة حاسمة في الدستور وواقعا يعيشونه ويتمتعون بالأمن والأمان في ظله... ويدرك الشباب أن إنجاز مشروع الدولة المدنية لازال محفوفا بالمخاطر في ظل الأمزجة القائمة وفي ظل الصراعات التي خلفها نظام صالح... فالعسكر الذين ظلوا يمارسون السياسة من ثكناتهم ومعسكراتهم قد يجدون صعوبة في التعامل مع وضع جديد مطلوب منهم فيه أن يتركوا السياسة لأهلها ويقوموا بالدور الدستوري الطبيعي وهو حماية السيادة الوطنية من أي عدوان خارجي وليس حماية الشرعية الدستورية كما كان يحلو للنظام السابق أن يروجه... فقد حاصر النظام السابق ولازال العاصمة صنعاء ومعظم المدن اليمنية بمعسكرات الجيش بحجة حماية الشرعية الدستورية وفي ظني أن هذا الأمر لم يعد مطلوبا بعد أن انتهى مشروع الحكم العائلي بمكوناته المتمثلة في التمديد والتوريث لأن الشرعية الدستورية يحميها المواطنون بوعيهم كما هو الحال في بلدان الغرب الديمقراطي... وفي الحقيقة لم يكن مسموحا في عهد الرئيس صالح لأي من العسكريين ممارسة السياسة عدا القادة العسكريين المقربين منه والذين هم محل ثقته، وفي ظني أن هذه مشكلة قد تم تجاوزها بالانتخابات الرئاسية المبكرة، ولذلك يجب أن تكون نصوص الدستور الجديدة صريحة وواضحة في الحيلولة دون أن يأتي رؤساء الجمهورية أو الحكومات من المواقع القيادية العسكرية مباشرة إذ عليهم أن يكونوا قد تقاعدوا من الجيش والأمن منذ عشر سنوات على الأقل قبل أن يحق لهم الترشح لأي من المواقع السيادية في الدولة بما فيها رئاسة مجلسي النواب والشورى... وهنا لابد من التوقف عند مسألة تتعلق بمنصب دستوري رمزي هو منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة المرتبط شكليا بمنصب رئيس الجمهورية، فكما هو معروف في العالم كله أن منصب القائد الأعلى مرتبط بالرجل الأول في الدولة حتى لو كان موقعه بروتوكوليا كملكة بريطانيا أو تنفيذيا كرئيس الولايات المتحدة لكن لا يترتب عليه أي تدخل فعلي في شئون الجيش وإدارته إلا من خلال موقعه كرئيس للدولة وليس كقائد أعلى... وهذا الربط بين الموقعين في دول الغرب كان من أجل حالات نادرة مثل إعلان الحرب، لكنه تم توظيفه في عهد الرئيس صالح للالتفاف على منصب وزير الدفاع وأصبح منصبا تنفيذيا تصدر عنه قرارات وله إدارات ومكاتب ويتولى فعليا إدارة شئون الجيش وهذا أمر مخالف للدستور الذي يجعل الحكومة هي السلطة التنفيذية العليا في البلاد... وبالتالي فإن النصوص الجديدة في الدستور لابد أن تحسم هذه النقطة وتؤكد على أن هذا المنصب هو منصب رمزي لا يصح أن تتبعه إدارات وتصدر عنه قرارات بصفته تلك حرصا على عدم الالتفاف على بنية الدولة المدنية المنشودة، وحتى لا يتم الإيحاء بأن الرجل الأول في الدولة لا ينبغي إلا أن يكون عسكريا.

وسيتطلب مشروع الدولة المدنية إنهاء أي نفوذ للسلطة التنفيذية سواء من خلال رئيس الجمهورية أو الحكومة على القضاء... ومن المهم أن يستغل القضاة هذه اللحظة التاريخية التي تم فيها إنجاز أهم تغيير في تاريخ اليمن فيبادروا إلى تبني نصوص دستورية تنهي أي نفوذ عليهم وترجمتها على الفور إلى نصوص قانونية تعطيهم الاستقلالية التامة لأن القضاء سيكون الضمان الحقيقي لمشروع الدولة المدنية وهو الذي سيعكس مدى جدية مختلف الأطراف في تحريره من المصالح السياسية والنفوذ الاجتماعي والهيمنة الحزبية وأي نوع من أنواع التأثيرات التي ظلت تتحكم فيه طوال العقود الماضية.

وبالتأكيد فإن مشروع الدولة المدنية سيمضي إلى الأمام عندما يتراجع دور القبيلة ويتقدم دور الدولة التي تحكم بالقانون بدلا عن الأعراف ويسود فيها العدل والمساواة فلا اضطهاد يمارسه المشايخ على رعيتهم ولا ابتزاز يمارسه الرعية على مشايخهم القبليين، ناهيك عن أن يكونوا سواسية أمام القانون... وكلما نشط العمل السياسي والحزبي في أوساط القبيلة فإنه سيخفف بالتأكيد من حجم العصبية القبلية، كما أن العمل على نشر التعليم والنشاط الثقافي كفيل مع الوقت بدمج القبيلة في الدولة المدنية ورسوخ مفاهيم القانون لديها بدلا عن اللجوء للأحكام الجائرة في أحيان ليست بالقليلة.