إرادة الشعوب في التغيير لا تكتمل بدون مشاريع حقيقية
بقلم/ أسامه حسن ساري
نشر منذ: 13 سنة و 11 شهراً و 7 أيام
الأربعاء 19 يناير-كانون الثاني 2011 08:18 م

حقق الشعب التونسي ثورته الناعمة ، وإرادة الشعوب هي التي تقهر كل المستحيلات ، لكن هل يتمكن هذا الشعب الذي بهر العالم وسرق الأضواء وأيقظ الشعوب الأخرى الرازحة تحت وطأة الظلم والطغيان والجوع والبطالة ، هل يتمكن من الوصول بثورته إلى الاكتمال والمثالية التي تجعل منها نموذجاَ للأمة العربية والإسلامية؟!..

الملاحظ أن الأوروبيين – وهم الألد عداءً لكل مسلم - دسوا أنوفهم في الشأن التونسي بل وحركوا تنظيمات وقوى عميلة للتحدث عن التغيير والمشاركة في الحكم الائتلافي.. مما يعني أن الشعب التونسي ليس لديه مشروعاًَ مكتملاً ، فـ \" الرجال الذين بالأمس قاموا أيقظوا حولنا الذئاب وناموا \" كما قال الشاعر عبدالله البردوني.. وهذا بالتحديد ما تريده أمريكا ، التخلص من الحكام الحاليين بإرادة الشعوب وبلا مشاريع بديلة سوى المشروع الأمريكي الإنقاذي المزعوم..

من المهم جداً أن يؤمن الحاكم أن الشعب يمتلك إرادة التغيير ، ومن المهم أن يدرك الشعب أن إرادته لا تكتمل إلا ضمن مشروع يتحرك في ضوئه.. وأن هناك من يتربص بهذه الإرادة ويستغلها تحت شعارات وطنية زائفة..

نلاحظ أن مشكلة الأحزاب التونسية هي التعديلات لإصلاح القانون.. وأي مشروع يلجأ من وقت إلى آخر إلى تعديل قوانينه ودساتيره وادعاء الإصلاحات فيها حتى تنسجم مع التطلعات والآمال فإنه مشروع سياسي فاشل..

كون القوانين هي أطر عامة لتنظيم حياة المجتمع وتقنين آليات العمل وتنفيذ فروض الثواب والعقاب في الإطار العام للحياة السياسية والاقتصادية والثقافية ، وبما يكفل مسيرة ووعياً سلوكيا معتدلا وصائبا في توجهاته واتجاهاته.. ومثل هذه المثالية لم يكفلها ويضمنها للناس إلا القرآن الكريم ، كونه لمن ينطلق على أساسه المشروع الإلهي الأمثل للحكم وتقرير المصائر وبناء النفوس وتمتين أواصر المحبة والتعاون بحيث يرسخ ثقافة إيجابية واحدة قانونيا وسياسيا ومعرفيا واجتماعيا ويعطي الناس تقييما مبكرا واستباقيا لكافة التغيرات والمناخات ويحدد سبل مواجهتها والاستعداد للتغلب عليها أو الاستفادة منها منذ وقت مبكر..

أما الفشل ، في مشاريع الدول العربية والإسلامية ، القائم حاليا فهو ناجم عن الركون المطلق إلى القوانين الوضعية والتي تستند في معظمها إلى ثقافات ورؤى أوروبية وأمريكية تقدم شعارات فضفاضة ومصطلحات حقوق وحريات وقيم عائمة وتمويهية.. وقد لوحظ مؤخراَ فشل كافة المشاريع السياسية -حتى في دول أوروبا - التي تستمد قوتها وطاقاتها من القوانين والثقافات الوضعية..فالانهيارات الاقتصادية والسياسية والتوحشات العسكرية وشيوع ثقافة القتل وتحويل المجتمع إلى عصابات مافيا تخدم المشاريع الصغيرة الشخصية للرموز ، وغير ذلك من السلبيات والممارسات الارتجالية التي تخلق التكتلات الجانبية والأحادية ، وتمزق الشعوب ، هي نتيجة انعدام التوازن وغياب الاستقرار في الأرضية التي عليها تُبْتَنى الأنظمة والتشريعات المتباينة والمرتعشة..

ومن نتائج ذلك أيضاً أن الشعوب العربية جميعها ثارت ضد الظلم والاستبداد وضد المستعمرين ، لكنها ثورات بلا مشاريع حقيقية ، فهاهي الشعوب تضطر مجدداً إلى الثورة والتغيير ولم تقتطف بعد ثمار ثوراتها السابقة بسبب غياب المشروع البديل الأمثل والأضمن.. فالمستعمر عاد بشكل أقوى والظالم يتجدد كل يوم \" السراب القديم صار جديداً والخواء البديد صار ميتناً\" \" البردوني\"..

ولو نلاحظ أن كل ذلك الاضطراب والانهيار هو نتيجة نسيان شامل لهويتنا الثقافية الاسلامية وتجاهلها واستبدالها بالارتهان للرؤى الغربية ، والتي تخدم فقط الصهيونية العالمية وما يتفرع عنها من تنظيمات ماسونية ومافوية الواجهة الرئيسة لها هي أمريكا ، وأدواتها التنفيذية هي الأنظمة العربية الحاكمة والمتسلطة القائمة على التعددية أو الملكية،.. فَتَحوُّلُ الأنظمة إلى ديكتاتوريات أسرية ضيقة واحتكارية تقوم على سفك الدماء واختلاق الأزمات والإقصاء والتهميش لشركاء الحكم، هو نتاج الأخذ بتلك الرؤى الغربية.. و من أبرز الرؤى الغربية هي أن قدمت مشاريع للحكم تفصل الدين عن الدولة والسياسة..بالتالي انعدمت القيم والمثاليات في كافة القنوات الهرمية للحكم..وحل محلها الخداع والغش والتزوير والفساد القيمي والأخلاقي وخيانة الأمانات وتحويل المال العام إلى غنائم وفيد ، والنظر إلى مراكز الحكم على أنها تشريفات لا تكليفات ومسئوليات..

بينما الثقافة القرآنية هي تعالج هذه السلبيات وتقدم الحاكم على أنه رحمة للناس ، وتعاقب المفسد ، وتجتث جذور الظلم والطغيان من الأرض.. وتغني الشعوب عن الحيرة في اختيار الحاكم المناسب والتخبط بحثاً عن شخصيات لا يعرف ظهرها من أمامها ، وذلك بوضع القرآن لمعايير ثابتة في الشخصية القيادية المناسبة والمثالية..

لكن عندما لجأ المستعمر الأوروبي قبل الثورات العربية الأخيرة إلى تدجين المجتمعات العربية وربطها بالقوانين الوضعية والثقافات الارتجالية والرؤى الطموحة الخالية من الأسس والقائمة على بناء غير سليم فإنه استعان في ترسيخ توجهاته تلك لتحقيق استعمارات غير مباشرة من خلال توظيف رموز ووجاهات عربية وترميزها وتلميعها في دائرة محاطة بعلماء السوء الدينيين الذين يقدمون الإسلام وفق خدمة الدفع المسبق بطريقة بشعة ومسيئة تولدت عنها مواقف جماهيرية رافضة لفكرة الحكم الإسلامي ومؤيدة للنظرية الغربية \" فصل الدين عن الدولة\"..

واندفاع الشعوب العربية والإسلامية واستجابتهم السريعة لتلك الاستخلافات الأوروبية في أوساط بلداننا نتج عنها حلقة مفرغة ولا متناهية من التغييرات والعودة مجددا إلى نقطة الصفر ، ثم التغيير فالفشل ، وهكذا.. وكان الأحرى بالناس أن يدركوا أن مشروع الحكم القرآني ، هو يتيح مجالاً واسعاً للقوانين الوضعية ولكن سقوفها محددة.. فالتشريعات القرآنية هي أرضية مستقيمة وثابتة للمبادئ والقيم والثوابت العامة للعمل ، ويأتي دور الحكمة ووضع القوانين – كقنوات لمسارات العمل - ولوائحها التنفيذية في إطارات مرحلية ـ تتغير لتواكب التطورات والمستجدات ولكنها تستمد ضوءها من الوعي القرآني ، الذي يُقَيِّم السلوكيات العامة والخاصة ويكشف الاعوجاجات ويحدد مسارات العلاقات مع الآخر وينظم التعاملات الخارجية مع غير أهل الملة المعروفين بالغدر والخداع والتآمر والكيد، بالتالي يفترض أن تكون استجابة الشعوب سريعة جداً لرفض كل اعوجاج يتعارض مع الأرضية القرآنية.. وهذه الحالة تتطلب وعياً جماهيرياً بثقافة القرآن الكريم وفهماً لأسس وثوابت تشريعاته.. ولو نلاحظ أن الأوروبي الذي سحب جيوشه من المستعمرات العربية وحكمها بالوصاية في دول المغرب العربي ومصر والسعودية والخليج والعراق و\"فارس التي حررها الخميني \" ، فإنه ركز بشكل رئيسي على تدجين الشعوب وغزوها بثقافات مختلطة وتعددية انحرافية أفضت إلى إثارة الفوضى الخلاقة وتمهيد أرضية جديدة وأكثر صلابة لعودة المستعمر الغربي وتثبيت قوائم إسرائيل في الوطن العربي ثم غزوه وتدميره، والعراق نموذجاً ، الصومال ، أفغانستان ، اليمن حالياً.. واليمن بالذات مهيأة بشكل كبير لعودة البريطانيين والأمريكيين.. كون الشعب اليمني الذي بيده التغيير وهو صاحب الإرادة الحقيقية لعمل ذلك ، لا يمتلك مشروعاً فعلياً للحياة التي ينشدها.. مثله مثل التونسي ، تتناهبه الآيادي العابثة التي تحركها أمريكا ودول أوروبا عبر منظماتها العالمية أو معسكرات دول الاعتدال ،.. والرموز والحركات السياسية الموجودة على الساحة اليمنية تستغل مشاعر وعواطف الشعب اليمني بينما هي صاحبة مشاريع فاشلة ، تخدم الأمريكيين فقط.. وتعجل بدخول قواتها إلى أراضينا.. فهم في الحقيقة ليسوا أصحاب مشاريع تخدم الشعب ، بقدر ما هم خبراء بورصات ومشاريعهم لا تتجاوز كونها صفقات سياسية لتحقيق مكاسب خاصة لا وجود لمصلحة المواطن بينها.

الحالة القائمة ، والتجربة التونسية خير مثال ، نجد أنها فوضوية من الدرجة الأولى ، فعندما عبر الشعب التونسي عن إرادته ورفضه للظلم وأنجز التغيير ، وجد نفسه شعباً حائراً في الشوارع ، فاقداً حتى للأهلية في اتخاذ القرار التالي بشكل صحيح، ومنتظراً لما سيقرره أولئك السياسيون الذين كانوا جزءً من الفساد الذي ثاروا ضده ويفترض أن تشملهم الثورة وتخرجهم من البلاد.. فالموقف التونسي الواحد الذي تجاوز الانتماءات السياسية والدينية وألقى بثقله كله لإنجاح قضيته، هاهو يتجزأ بين الصراعات الحزبية وعودة الأصوات الطائفية ، ولو لاحظناها جميعاً سنجدها تحمل شعار الوطنية ، شعار واحد متفق عليه كأحاديث أبي هريرة ، لكن لكلٍّ وجهته وكيده وتطلعاته ، فتشكيل حكومة إئتلافية ليس إلا خطوة ظرفية سرعان ما تتحول إلى مناحرات ولـ\"لبنان\" تجربة قريبة من هذا فيما ينتهي إليه الحكومات الائتلافية من صراع وفشل كونها لا تمثل ثقافة واحدة.. لأن الشعب التونسي ليس محصناً وموقفه ملئ بالثغرات السياسية والثقافية ، بسبب التعددية والاضطرابات الاقتصادية التي تجعل بعض المؤمل فيهم يتحولون إلى نسخة من الرئيس المطرود ومن حاشيته..

وفي اليمن ، الموقف أشد خطورة ،.. نجد بعض الأحزاب والتكتلات السياسية المشبعة بالفاسدين ، يحاولون إلهاب مشاعر الشعب وتوجيهها بصورة استغلالية ، فهذه الكيانات السياسية حتى وإن تظاهرت بتوحيد رأيتها في وجه السلطة ، فإنها لا تزال تلبس نفس قميص الحاكم ومن تحته ذات الجلد وذات لون البشرة المليئة ببثور الفساد والمواقف النفعية والمشاريع الربحية..

وينبغي أن يفهم الشعب أن القوى السياسية المعارضة أو المؤتلفة مع الحاكم والتي تتحدث باسمه ومصلحته ، كان ينبغي أن يكون لها موقف علني رافض ومتصدي ، بل وثائر ضد الموافقة الرسمية على إدخال قوات أمريكية وبريطانية إلى أربع محافظات نفطية يمنية ، فما هي المصلحة الاقتصادية أو السياسية التي تبقى للشعب اليمني إذا عاد المحتل.. هناك خطورة بالغة في دخول قوات يهودية للسيطرة النهائية على النفط اليمني وعلى ثروته السمكية وممراته المائية الدولية.. لو نظر الشعب اليمني جيداً إلى الوضع في العراق لأدرك أن التغيير لا يكون عاطفياً بل وفق منطلقات رؤيوية سلوكية تحمي السيادة الوطنية وتمنع استلاب الثروات والمصالح العامة.. ولأدرك أن صمت القوى السياسية المتواجدة على الساحة تحت راية معارضة وحزب حاكم ومشترك جميعها متفقة على صفقة واحدة وهي \" اعطيني حقي أعطيك حقك \" أو كما يقولون \" خلي لي حالي وأخلي لك حالك \" وأضافوا إليها - \" ونخلي للأمريكيين حالهم .. و طز في الشعب\" - بعد الوساطة الأمريكية والأوروبية لهيلاري كلينتون التي تدخلت بمشروع أمريكي لانجاز الصفقة بين بعض قيادات المشترك والحاكم مقابل الصمت السياسي اليمني من كافة الأطراف على المشروع الأمريكي في اليمن.. ولو نلاحظ أن كلينتون بعد انتهائها من الرئيس صالح ، عقدت جلساتها مع قيادات حزبية أخرى يعرفها الشعب جيداً ، وقابلوها بالحفاوة المبالغ فيها كأنها آلهة عظيمة ، وعقدت معهم صفقات أخرى كلها تحقق مصالح هذه القيادات وتضمن استمراريتهم في الوجاهة لكنها صفقات على حساب حرية الشعب اليمني وكرامته.. وكان حرياً بهم أن يعلنوا موقفاً صارماً من الصفقة الأمريكية اليمنية لإدخال قوات عسكرية يهودية وإعادة المستعمر إلى البلاد ليؤكدوا للشعب أنهم يحملون تطلعاته ويحرسون مصالحه وكرامته ولا يخدعونه أو يستغلونه لتحقيق الثراء والبقاء على العرش لأنفسهم،..

وكما تحدث الثورات الناعمة بإرادة الشعوب التي يستغلها المرتزقة السياسيون ، فإن الاحتلالات الناعمة تحدث أيضاً بإرادة الشعوب التي يخدعها السياسيون المحترفون في الخداع وفي أداء المسرحيات المتباكية بدموع التماسيح عياناً بياناً.. وكل مشروع غير مشروع الله تعالى \" القرآن الكريم وتشريعاته \" بلا شك فاشل ويحقق ويعود على الناس بالألم والخسران فقط.