الملالي والدعاية وخداع النظرية التي أخرجت إيران من العصر
بقلم/ نجيب غلاب
نشر منذ: 14 سنة و 8 أشهر و 29 يوماً
السبت 27 يونيو-حزيران 2009 11:16 م

إيران بارعة في مخاطبة عاطفة الشارع العربي والإسلامي لذا فإن قادتها وأدواتها الإعلامية يعتمدون على خطاب أعلامي ثوري في الترويج للنخبة الحاكمة وانجازاتها، وفي عرض قضايا المنطقة، والخطاب عادة ما يسوق إيران كنموذج إسلامي متقدم ويقوم بتحسين صورتها بطرح معالجات مثالية في مظهرها العام لمشاكل المنطقة، ورغم أن الخطاب يقدم رؤى تبدو عقلانية إلا أنها غير واقعية لأنها تركز على إثارة الغرائز وممارسة الخداع ولأن مآلاتها تقودنا إلى الفوضى.

ومن الواضح أن الخطاب في ظل غياب العقل قد تمكن من أعاد صياغة آراء جزء من العرب بل أن بعضهم أصبح على قناعة أن الخلاص بيد ملالي إيران، متناسين أن الهدف النهائي يركز في جوهره على المصالح الوطنية الإيرانية والتي تتجسد في بقاء الملالي وفكرهم الديني باعتبار ذلك كما يوحي الخطاب طريق لخلاص الأمة، فحكمهم هو المقدمة لظهور المهدي.

ومع نجاح الخطة الإعلامية والتي تعمل وفق نسق متماسك ومنظم توسعت دائرة الأفراد والجماعات المنخرطون بعاطفة عمياء وراء مقولات الملالي ورؤيتهم للأحداث، مع ملاحظة أن الفعل الإيراني على مستوى الواقع وعند بروز تهديد قوي يصبح أكثر واقعية، ويتحول الخطاب الإعلامي إلى أداة مهمة في التأثير ومد النفوذ ولتخفيف الضغوط على طهران وبهدف تقوية أوراقها التفاوضية التي تتعامل معها وفق حسابات سياسية دقيقة وعقلانية،.

وإيران في خطابها الإعلامي لا تختلف عن الدولة الأخرى التي تؤسس شرعية نظامها على الإيديولوجيات الشمولية في ما يخص تحويل الخطاب الإعلامي إلى بوق دعائي لترسيخ شرعية النخبة باعتبارها المجسد الفعلي لإرادة الناس، والدعاية مهمة لتعبئة الجماهير والتأثير عليها بما يرسخ وجود النخبة وهيمنتها، وللترويج للإيديولوجية في محيط الدولة الحيوي لأهمية ذلك في الصراع مع الأعداء، ولتهيئة المحيط مستقبلا لهيمنتها، والدول التي تستند على الإيديولوجيات الشمولية تتبع نفس الآليات الدعائية وأن اختلفت طبيعة الخطاب الإعلامي من حيث المقولات والأفكار التي يستند عليها فمثلا الدول الشيوعية والنازية والفاشية اعتمدت على استراتيجيات إعلامية غرائزية في تثبيت الإيديولوجية والترويج لها في الداخل والخارج، وهذه الدول تمكنت من تعبئة شعوبها وفي إقناع الكثير من الأفراد والجماعات خارج الحدود بالأفكار التي تستند عليها وبالرؤى السياسية التي تنتجها، بل وتمكنت من إقناع الأتباع بأن حركة الدولة المركز ونخبتها لا هم لهم إلا مصالح الآخرين وأن الدولة تبذل تضحيات كبيرة من أجل إحقاق الحق ومقاومة الظلم.

فمثلا سنجد أن الشيوعيين في روسيا قد تمكنوا من بناء قوة داعمة للهيمنة السوفيتية في كافة المجتمعات، وكان المعجبون بالتجربة السوفيتية يقودون قتال شرس حتى ضد أبناء أوطانهم استجابة لرغبة الاتحاد السوفيتي في مواجهة أعدائه، وببراعة تمكنت الدعاية من اختراق العقول والقلوب وإقناع الأتباع أن أعداء الاتحاد السوفييتي هم أعدائهم وأعداء الإنسانية جمعاء.

اعتمد الإتحاد السوفيتي على الإعلام والقوة العسكرية لإثبات قوته وهيبته وتسويق نفسه، وهي الأدوات نفسها التي تستخدمها إيران وهي آليات هتلر وآليات صدام حسين، فالدول التي تسيطر عليها الإيديولوجية الشمولية المتطرفة تستخدم أساليب متقاربة ومتشابهة. وغالبا ما تتمكن تلك الدولة في لحظات الانطلاق من تعبئة غرائز الناس وتحقيق بعض الانجازات، وهذا يساعد خطابها على التوسع، ولكنها مع الوقت تنطفئ ويضعف الإبداع، فالواقع واستنزاف الطاقات في الدعاية والعسكرة ينهك المجتمع ويجمد العقل، وعادة ما تسقط النخب وعقائدها بمجرد وجود قوة خارجية تتحداها وتضغط عليها أو تحاربها، والعامل الخارجي مهم بعد أن تمكنت النخبة من تدجين الناس وتزوير أرادتهم وحاجاتهم لصالح مقولات متعالية عن مطالب الواقع وتحولاته لصالح النخبة وعقائدها.

وفي المنطقة العربية كان القوميين خارج العراق كمثال يتعاملون مع صدام كمقدس والبعث كقوة جبارة ومعبرة عن حاجات الناس وكان البعثي على قناعة أن نهوض الأمة لن يتحقق إلا عبرها وبقيادة صدام لا غيره، وأتذكر أني أثناء غزوه العراق للكويت حاولت في نقاش عام تبيين مخاطر الغزو على مستقبل الأمة العربية، وأوضحت أن صدام ليس إلا طامع غبي ولن ينجو من فعلته، وعندئذ كاد قومي متطرف ومهووس أن يقتلني بعد أن اتهمني بكل التهم وصرخ في وجهي قائلا: عليك أن تدرك أن صدام صلى الله عليه وسلم (هكذا) هو منقذ الأمة وموحدها لا محالة تحت قيادة البعث العظيم وسوف يحرر فلسطين.

لا فرق بين المهووسون بإيران وهتلر ولينين وصدام فالعاطفة والتطرف ونفي الآخر وتجاوز الواقع والعقل والرضوخ لأحلام طوباوية في معالجة المشاكل هي اللغة السائدة، ولأن التابع للفكرة وللذات المعبرة عنها يرى فيها النموذج والمنقذ فإنه يكرر العقائد والمقولات التي ينتجها الخطاب الإعلامي بغباء وسذاجة ويلغي عقله ويفهم الواقع من خلال المتبوع دون أدراك لطبيعته ومصالحه وواقعه الفعلي لا المتخيل الذي ينتجه الخطاب بشكل دائم.

والمتأثر بالدعاية ومنتجات الفكر لا يمكنه أن يقبل التحولات التي تصيب المركز فمازال صديقي الذي ذاب عشقا وهوسا بالتجربة الشيوعية يضع صنم لينين في مجلسه مؤكدا ان لينين لم تمت أفكاره وأن الشيوعية قادمة، أما صديقي القومي المعجب بسيد قطب!! فإنه على يقين أن إيران لا محالة منصورة وأنها ليست إلا أية من الآيات العظيمة والمعجزة الربانية التي تهيئ العالم لانتصار الإسلام.

ويروج الكثير من المتأثرين بالدعاية أن إيران دولة إنسانية ديمقراطية متناسين أن نخبتها الحاكمة قد حولت إيران إلى دولة عنصرية بوجه مذهبي مناقض للفكر الإنساني في أبسط قيمه كالمساواة وحرية الفكر، فدستورها مثلا لا يجيز لأي إيراني لا يؤمن بولاية الفقيه ان يمارس حقه في الترشيح وتولي المناصب العامة، وتداول السلطة يتم في المحيط النخبوي المؤمن بولاية الفقيه، وديمقراطية إيران أن سلمنا بوجودها هي أشبه بالديمقراطية في الدول الشيوعية التي كانت لا تقبل إلا الشيوعي، مع ملاحظة أن العقائد المؤسسة للديمقراطية الدينية تنتج الثيوقراطية بكافة أبعادها.

مع ملاحظة أن إغراق إيران في خطابها الدعائي الغوغائي ليس إلا محاولة لتجاوز مشاكلها الداخلية وإخفاء لواقعها الذي أخفقت الثورة في أحداث نهوض حقيقي فيه، ورغم إعلانات الرئيس نجاد أن إيران دولة عظمى ومتقدمة إلا أن تطبيق معايير القوة التي أنتجها علم السياسية على إيران سنجد أنها دولة عادية كما أن معايير التقدم وبأي نظرية علمية لا تنطبق عليها بل إيران مازالت دولة متخلفة مثلها مثل باكستان التي تمتلك سلاح نووي.

ورغم أن إيران في طفرات الخداع التي يمارسها خطابها الإعلامي تعرض نفسها كنموذج للدول الإسلامية ويروج المخدوعين بخطابها لذلك إلا أنه يمكن القول أن إيران لا يمكنها ان تنقل نموذجها خارج مجتمعها في حالة استمراره، لأنها مخنوقة بتجربة عنصرية مذهبية وفكر ثيوقراطي يحاصر نفسه بأوهام تتناقض مع القيم الإنسانية وحتى مع الفكر الديني المنفتح لذا فإن الفكر الشيعي التحرري خارج إيران وداخلها سوف يسقط الأوهام الإيرانية بالتعاون مع الفكر التحرري وهو ينمو لدى للإيرانيين بوتيرة عالية ويلقى قبول لدى الشباب وبعض الإصلاحيين يروا في عقائد ولاية الفقيه وتطرف نخبتها حبل مشنقة لطموحات إيران في بناء علاقات إنسانية وعقلانية مع العالم المحيط بها. وفي تصوري ان النظرية الخمينية التي تستند عليها شرعية النخبة الحاكمة مناقضة ومناهضة لعظمة الإيرانيين ولتاريخهم وهذا ربما يفسر تماهيها بالقومية حتى تتجاوز انغلاقها المناهض للقيم الإنسانية.

مع ملاحظة أن جمود وثبات النموذج الإيراني في الحكم والمناهض لروحية العصر وديناميكيته والقسر والجبرية المفروضة على المجتمع سوف تنهي حكم الملالي مهما مارست من دعاية، فأي تغيير حقيقي في الداخل لصالح الحرية وممارسة النقد المنهجي على الايدولوجيا ربما يقود إلى انتهاء نظرية ولاية الفقيه.

والمتابع للتجربة الإيرانية سيلاحظ أن الإصلاحيين كادوا أن يقضوا على نظرية ولاية الفقيه رغم أنهم كانوا يتحركوا في ظلال شرعيتها، فبمجرد الانفتاح وظهور ملامح الحرية أستطاع العقل أن يفقد النموذج هيبته ولم يجد حامي النظرية إلا الإرهاب الديني والإرهاب الإعلامي، وأمام زحف العقل لم يجد حامي حمى النظرية إلا الذبح ـ قتل عدد من المثقفين والمفكرين ـ في عهد خاتمي وتم محاصرة كل المنابر المنفتحة.

وأخيرا نسأل هل نظرية ولاية الفقيه الخمينية جزء من الفقه الشيعي؟ من يقرأ تاريخ المذهب سيجد أنها بدعة سياسية لا علاقة لها بالمذهب، بل أن النظرية أفقدت المذهب قدرته على تجاوز إشكالية الدين والدولة لأنها دمجت الدين بالدولة وورطت المذهب في إشكالية غير قابلة للحل إلا بنسف النظرية، وأن لم تتمكن إيران من تجاوز هذه النظرية فإنها ستكون القنبلة التي ستفجر إيران بعد أن أخرجتها من العصر.

فمتى يفقه المخدوعون أن إيران وخطابها الدعائي ليس إلا وهما هدفه النهائي حماية مصالح الملالي وحكمهم الثيوقراطي وأيضا تجاوز تناقضات النظرية مع الواقع وتغطية لفشلها في تحقيق النهوض الإيراني؟

الانتخابات الإيرانية كشفت الحجاب للجميع واحبطت المتشيعين لإيران وهم في ساحتنا كثر وهم كالعميان في بحر لجي من التناقضات لا يفقهون شيء سوى تعصبهم وعواطفهم المتفجرة بالسذاجة، فعادة ما كانت تلقى التهم لكل من قدم رؤية نقدية للنظام الإيراني.

أحداث إيران الأخيرة تؤكد أن أوضاع إيران الداخلية مجهولة للكثير وأن أعلامها هو مكياج لتغطية أزماتها الداخلية، كما أن ولاية الفقيه هي أساس الأزمة وجوهرها وقد تصبح الورطة القاتلة لثورتهم، ولن يتمكن الإيرانيون من الانخراط في العالم وحماية بلدهم ما لم يتحرروا من نظرية ولاية الفقية وغيبياتها المدمرة لإيران قبل غيرها.