مذكرات زائر إلى مدينة صنعاء 1-2
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 3 أشهر و 16 يوماً
الجمعة 09 أغسطس-آب 2024 08:52 م
 

غادرنا قطر عصر الجمعة ١٢/٧/٢٠٢٤م ، وفي الطريق إلى منفذ سلوى الحدودي، ذات المسارات الخمسة، والجسور المرفوعة والحدائق المتزينة على جنبات الجسور والطرقات، في وسط الصحراء.

 في منفذ سلوى تمّت إجراءات العُبور إلكترونيًا وسريعًا، في نحو خمس دقائق، حيث تتولى أجهزة إلكترونية محترمة قراءة لوحة السيارة وسيرتها الذاتية، وتُفتح بوابة المغادرة إلكترونيا، بعدة مسارات بعدد فئات المسافرين.

وما كان ينبغي ليَ إقحام هذه الجزئية الصغيرة في هذا السياق، لولا ما رأيتُه من أهوالٍ في منفذ الوديعة اليمني من تكدس آلاف المسافرين والعائلات والعجزة والأطفال والنساء والمرضى والزمنى، لبضعة أيام، تصل إلى خمسة أيام أو أسبوعًا، وأكثر - فيما بالإمكان اختصار هذه الأيام الخمسة أو تزيد في خمس دقائق - في صورة مزرية تنبيك عن مأساة طويلة لوطنٍ وشعبٍ ظلمه القريب قبل البعيد، كما سأوضحه فيما سيأتي.

 

وصلْنا مدينة الهفوف ليلًا، وفي ظهيرة اليوم التالي وهو السبت ١٣/٧/٢٠٢٤م، أقلّنا القطار في نحو ساعتين من الهفوف (الأحساء) إلى الرياض، والقطار مزودٌ بكل وسائل الراحة والاطمئنان والمتعة، وأماكن الصلاة والعبادة، تحيط بك الرّمال الذهبية، ومنشئآت آبار النفط ومداخنها وتقاطع السيارات، ومُلكًا كبيرًا من الشركات والمكاتب والحدائق والنخيل والجامعات، وزيناتٍ لا تكاد توصف.

في غضون ساعةٍ تقريبًا قطعنا نحو ألف كم بالطائرة نحو مدينة شرورة، حيث المطارات والطائرات التي تُقلّ المسافرين إلى أنحاء العالم، في غاية من السلاسة والسرعة. 

 

وحين وصولنا منفذ الوديعة اليمني، وجدنا العلَم اليمني مهترئاً، تكسوه وتعلوه آثار الأغبرة والأتربة والتمزق والبؤس والفاقة والمسغبة، وكل من في هذا المنفذ البائس الحزين، هذا حالهم المقروء والمنطوق، ويمكنك قراءة تاريخ اليمن القديم والحديث من خلال مطالعتك صورة ذلك العلَم البائس، المسمى اصطلاحًا علَم الجمهورية اليمنية، الذي مزّقه أمراء الحرب وزعامات البغي وسماسرة الأوطان .

 

يضطر كل زائرٍ لليمن السعيد للنزول في هذا المنفذ بنفسه إلى الضابط المناوب لإنجاز إجراءات الدخول أو العبور غير الآمن، من وإلى المنفذ.

وحين مغادرتنا منفذ الوديعة كان على اليسار منا طوابير طويلة من السيارات والعائلات تمتد لبضعة كيلوميترات تنتظر دورها للولوج إلى المنفذ اليمني ومنه إلى دول الجوار. 

 توجهنا صوب مأرب الحضارة والتاريخ، وفي الطريق كنّا كلما اقتربنا من مدينة مأرب النفطية بل الغنية بالنفط والمعادن، تزداد الطريق تكسرًا وحُفرًا، لذا تركنا الطريق المسمى بالمسفلت، وسلَكنا الطريق الترابي، مع وعثائه وعذاباته، ثم عَبرنا من مدينة مأرب نحو العاصمة صنعاء، وكلّنا شوق واشتياق ولهفة لرؤيتها والاستمتاع بأجوائها الساحرة والماتعة والماطرة، وصار كثيرٌ من السواح اليمنيين المقيمين في الخليج يقصدون صنعاء وما حولها، للزيارة أو للسياحة، رغم طريقها الوعرة جدا، وأحوالها هي الأخرى البائسة والباكية.

 بعد مغادرة مدينة مأرب الواقعة تحت السلطة الشرعية، إتجهنا نحو الضفة الأخرى للحوثيين، تمت إجراءات العبور وكأنك تعبر من دولة إلى دولة، ويتم استلام رسوم الجمارك مرتين، مرة في منفذ الوديعة، التابع لما يسمى بحكومة الشرعية، ومرةً في موقع قريبٍ من منطقة رداع لما يسمى بحكومة الحوثيين، وبالطبع يتم تحصيل الجمارك بالعملة الخليجية، حيث يتفق الطرفان على أخذ الإتاوات والمكوس والضرائب ليس بالعملة الوطنية كأخف الضررين، وإنما تُستلم كل الرسوم الباهضة بالعملة الخليجية، لكونها عملةً طيبةً ومباركةًَ ومحترمةً، لدى جميع الأطراف، مهما اختلفت تلك الأطراف أو تصارعت أو تقاتلت، إلا أنها تتفق على العمل بالعُملة الخليجية، بخلاف العملة اليمنية غير المحترمة لدى أيّ طرفٍ من الأطراف!!!. 

أثناء عبورنا إلى صنعاء بعد الظهيرة، شعرنا بارتياح كبير، فمعظم النقاط الأمنية في حالة استرخاء شديد، مع أغصان شجرة القات، وأثناء مرورنا بمدينتي رداع وذمار، دُهشنا لبعض المشاهد العجيبة والغريبة جدًا منها : 

١. صور القتلى المزدحمة والمرصوصة على جنبات الطريق على طول خط مأرب البيضاء صنعاء، ومن كل البيوتات اليمنية من الأسر الهاشمية وغير الهاشمية، وبقوة مذهلة، بل وعلى كل الطرق التي زرناها بدءًا من مأرب وحتى خط صنعاء وخط الحديدة، وهذا ملف يطول شرحة فمعظم الصور لقتلى من صغار السن، بل كلهم أو جلهم!!!.

وفي الجانب الآخر في مأرب تَقلّ صور الاحتفاء بالشهداء، حتى أنك لا تكاد ترى صور حتى السياسي / محمد قحطان، مع أنّ له بُعدَه الدولي والإقليمي والوطني والشعبي، لكن لا ترفع سوى صورَ قليل من القادة الكبار أو المشاهير!!!.

٢. العمران الباذخ سيما في ريف محافظة ذمار، وبيوت الحَجَر الفاخر والمزارع الجميلة وشتى أنواع وألوان الفواكة والثمار وأطايب المطاعم والنّعم، مع انعدام الموارد المالية، وهو ما اضطر القطاع الخاص للنشاط المبهر، في العاصمة صنعاء، وبشكل جنوني وعشوائي.

 في مداخل صنعاء تستقبلك الفنادق الشامخة والبيوت والعمارات الفارهة، المرصّعة بأفخر الأحجار الملونة.

سررنا لتلك الحكمة اليمانية حتى في أشد وأفتك الحروب، فقد ظننا أنّنا سنرى أنقاض مدينة صنعاء، عبارة عن مدينةٍ مدمّرةٍ، أو كتلةً من الركام مثل حمص أو حلب، بل لم نجد طوال رحلتنا بيتًا مدمرًا بشكل كلي، إلا نادرًا جدًا، فمعظم الحروب اليمنية تتم في الجبال أو الصحاري، وتتجنب أطراف الحرب المدن السكنية، أو بتعبير أدق، عقلاء المتحاربين، إلا في بعض المناطق السكنية كتعز. 

٣. لحظنا قوة عقيدة الحوثيين الصلبة وحرصهم على نشر الفكر المذهبي، وبقوةٍ جنونية، فتجد الشعارات والصرخة، فوق كل حجرٍ وشجرٍ ومدَرٍ ووبرٍ ومنبرٍ ومدرسةٍ ونقطةٍ وفي محاريب المساجد، وحتى الإشارات تجدها بصورة رجل حوثي أو امرأة زينبية، في مشهد تراجيدي مؤلم وحزين.

وأثناء سيرنا وسط ذلك الحشد الهائل والخيالي من الكتابات والشعارات والصور والمشاهد الضاربة في عمق التاريخ، كان يخيّل إلينا أنّ الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله عنه وأرضاه، سيخرج إلينا من وسط تلك الأحراش أوالمزارع والبنيان، ما يدلك على مخاطر تحول فكر الجماعة إلى نظام دولة، وهو ما تشاهده كل عين وأذن، في الطريق الماربية الصنعانية.

 

وقد يقول قائل أنّ هاتيك الشعارات تعكس الالتفاف الشعبي ودور الإرادة الشعبية في حماية الثورة وقائدها الملهم، ولكن الصحيح والمؤكد أنّ تلك الإعلانات واللوحات العظيمة والشعارات الطائفية هي من عمل الجهات الحكومية، وليس للجهود الشعبية دور ، فيما شاهدناه، بسبب أنّ معظم أبناء الشعب اليمني تحت خط الفقر، كما لا يخفى.

ومن الجدير بالذكر أنه أثناء مرورنا بمدينة مأرب لم نجد أي شعارٍ ثوري لأي طائفة أو حزب، رغم أنها باتت مأوى كل الأحزاب، سوى شعارات الدولة والوحدة والثورة والجمهورية، وشهدائها.

٤. ثمة فرز يجب الإشارة إليه لاحظناه في الطريق إلى صنعاء، وهو أنّ ما يسمى بحكومة الشرعية هي أكثر تبعية واستجابةً للضغوط والتدخلات الخارجية والأجنبية من حكومة صنعاء، وأنّ حكومة الحوثيين أكثر تبعية فكرية وعقدية من الحكومة الشرعية، وبالتالي فكلتا الطائفتين تمثل امتدادًا سياسياً أو فكريًا لمن وراء الحدود، أو لمن وراء المحيطات، بدليل مرور أكثر من عشر سنوات والقضية اليمنية تراوح مكانها، بل تزداد سوءًا وتفريخًا وتشرذمًا وتعقيدًا، فيما يزداد أطراف النزاع تخمة وبيوتًا واعتمادات، وفندقةً، وأضحت القضية اليمنية موردًا هامًا لكروش المتنازعين والمتصارعين، ولا أمل يلوح في الأفق لحل النزاع في أي شكلٍ من الأشكال، رغم كثرة المفاوضات والوجبات والضيافات، إلا أن يأذن الله، وما ذلك على الله بعزيز .

 

ألقاكم بعون الله في الجزء الثاني والأخير، في تتمة لهذه المذكرات، للحديث عن مشاهد من صنعاء والحديدة، وباجل، وخطبها المنبرية، ونختم الحديث بالحديث عن أهوال منفذ الوديعة اليمني، وحديث ختامي عن المسألة اليمنية وآفاقها المستقبلية، والله الموفق والمستعان.