صباح بضفائر بنات المظفر
بقلم/ جمال انعم
نشر منذ: 13 سنة و أسبوع
الخميس 17 نوفمبر-تشرين الثاني 2011 04:55 م

كل ثورة تتقدمها الشهيدات ،منتصرة لا محالة،وفادياتنا حفيدات الشهيدة الأم سمية أولى الثائرات ،أم عمار زوج ياسر،الشهيد الكبير الشاهد على كبرياء روح اليمن منذ البواكير,هي أسرتنا الرائدة،في درب الفداء،ونحن بنوها الأوفياء.

أي امرأةٍ أنتِ أيتها الحبيبة ،أتشبث بإهابك كلما أرتجف القلب ،و سرت فيه رعدة جبن ، أرنو إلى هامتكِ العالية ،فتنبت لي أجنحة تطير بي نحو السماوات .

كيف نسام أو نوسم بالخوف والخور وأمنا سمية ؟ معلمتنا معنى السمو والارتفاع ،ما زلتِ واقفة ملء القلب والدرب ،تضيئين الطريق إلى العظمة ،لا أقرب منكِ إلي ولا أحب من أبائي جوارك رفقة الألم والاصطبار ،الآباء المؤسسين،فرسان المستهل ،جسر العبور الأول ،حملة النور ،وروافع البناء ،ندين لهم بنعمة الأبد ،ونوالي شكرهم بغير إنقطاع ،نحن نحيا في قلب السر الكبير الذي حموه وأفتدوه ،نحيا في المعنى الكريم الذي ضحوا من أجله .

هو ذا الحبيب المصطفى يلتحف بردته وأشجان الغربة،هو ذا في ظل الكعبة، يستصرخه خباب ،لكن عن أي عذاب يحكي خباب ؟

ما كان جواب المختار ،إلا قطعاً بالمنشار ،كانت لحظة فاصلة ،وكان المنشار إجابة قاطعة , تفصل بين زمنين ،تفصل بين الشك واليقين ،بين العتمة والنور ،بين خيارين ،بين أن تكون أولا تكون ،بين أن تتحمل كلفة الحرية كاملة ،أو تبقى أسير عبوديتك ،لاح الوصف الصادم لمثال التضحية المستحقة جزءاً من الدرس ،قطعاً للضعف والوهن , إعلاءً من شأن الروح وتهويناً من جراحات البدن ، درس النبوة من قديم ،خوض الإمتحان حتى منتهاه ،الإنقذاف في قلب النار ،على برد راسخٍ من يقين النجاة .

كانوا قلة من مهمشي مكة مدينة السطوة والجبروت ،أراد بهم الله كسر النسق المهيمن في تصور القوة والمنعة ونسف كل المواضعات القديمة المحددة للكينونة والمكانة ،خباب ،صهيب الرومي ،بلال , ياسر القادم من اليمن وزوجه سمية إمرأة من موالي بني مخزوم ،وعمار الإبن ،هؤلاء البسطاء الأحرار الخارجون للتو من بيئة القهر والإستلاب ،حديثي إيمان ،عراة ،لا قبيلة تحامي عنهم ،ولا أسباب تدفع عنهم البطش والتنكيل .

كان المسلم يعلن عن نفسه ،إنساناً جديداً طالعاً من خارج السياقات السائدة ،إنسان القيمة ،المؤمن المتعالي ،الحر المتأبي على الخضوع للأصنام والأوهام والإستسلام لغير الله ،بدت مواجهة غير متكافئة هم فيها الحلقة الأضعف .

أستعيد صورة هؤلاء في وجه العالم كله لا قريش وحدها ،موقف يبعث على الرهبة ،يبدو جنونياً غير قابل للتصديق ،ثورة مستحيلة ضد مواريث جاهلية حاكمة شديدة الصرامة والبأس ،ثورة ضد سلطة صنمية مركبة ،ومن مجموعة خرجت فجأة من الهامش غير المنظور ،ومن أقصى الفكر والتصور ،متحدية ،معلنة إيمانها بالله ،كافرة بكل ما يعبد من دونه ،مغيرة معادلات القوة ،فارضة معايير إعتقادية وقيمية وأخلاقية جديدة ،تتحدد على أساسها الهوية ويتأكد الوجود.

ولتكون هذه العصبة هي النواة الصلبة ،كان لا بد من أن يخوضوا تجربة الإنصهار الأولى حتى النخاع ،كان لا بد أن يجتازوا الرهان ،وأن يعلنوا عن حريتهم بالإستعداد المطلق لدفع ثمن إختيارهم مهما بدا باهظاً وموجعاً ومكلفاً .

إستنجاد خباب لحظة تعب وضعف إنسانية ،وبالنظر لحداثة التجربة يبدو الإشفاق متطلباً بإلحاح لكنها اللحظة الفارقة ،والتي يمتد فيها النظر والشعور النبوي صوب البعيد ،هنا تسلك النبوة منهاجها في التربية ،هنا ” المحبة العظمى تتعالى على إشفاقها ” بحسب الفيلسوف” نتشيه ” ،لا هدهدة ولا تربيت ،الإشفاق قد يكون محض إهانة ،قتلاً حانياً للروح ،نشفق على أنفسنا فنقطعها عن معالي الأمور ،نشفق على أطفالنا ،نخاف عليهم أن يكابدوا أو يعانوا أو يواجهوا ما يشق عليهم فنورثهم الخوف ،ونسلمهم إلى حياة الرخاوة والتكسر ونتسبب لهم بإعاقات نفسية ملازمة ،حمل بلال صخرته ببسالة ،حتى تكسرت على رأس السادة المعذبين ،وعلى تلك الصدور العارية إنهارت قريش بكل صلفها وغرورها وخيلائها ،تهاوت كل الأصنام ،سقطت الخرافة الزائفة .

كانت البداية نضالاً سلمياً ،إعتمد القوى اللينة سلاحاً في المواجهة ،الإيمان ،الثقة ،الصبر ،التضحية ،والجسارة ،نبالة الغاية ،عدالة القضية ،كل ذلك تحول إلى طاقة جبارة هزمت قريش بكل جبروتها وطغيانها ،وفي صدارة هذا المشهد الفدائي المهيب كانت سمية سيدة الأحرار ،قامة فارعة ،شهاباً صاعداً نحو السماء ،تتقزم دونها سادات الكفر ويتلوى تحت قدميها كبرياء قريش الجريح ،لتجيء الطعنة بقدر الشعور بالإهانة والإنجراح .

شهيدات تعز الغالية عزيزة ،زينب ،تفاحة ،ياسمين ،والأخريات الباسلات ،هو ذا الصنم المحروق يهوي تحت أقدامكن العالية ،هو ذا يسقط مهاناً ممرغاً بالعار ،تلعنه الأرض وتمقته السماء .

شموسنا أنتن،و كل النساء ،وكل الرجال ،وكل السعيدة .

هو ذا صباحنا الضافر يلوح بضفائر بنات المظفر .