آخر الاخبار
لذلك لا يفكر صالح بالعودة
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 13 سنة و 5 أشهر و 6 أيام
الجمعة 17 يونيو-حزيران 2011 10:39 ص

توافرت العناصر المخلقة للثورة بالنسبة للزمن. أكمل النظام اليمني توفير الجزء الخاص به من عناصر الهدم: اختطاف الجمهورية، مشروع توريث، تحرسه خطوط نار وشبكات معلومات، تعمل جهات مالية ضخمة من داخل النظام وأخرى متعاونة مع النظام على رعاية هذه التركيبة. حاول النظام، من دون أن يكترث للزمن العالمي النوعي الذي نعيش فيه، أن يمنح هذا الشكل من الحكم معنى ديمقراطيّاً كواحد من شروط الاستمرار الحديثة؛ فوقع في متتالية من الأخطاء أكملت بدورها طاقم 'عوامل الهدم الذاتي'. كانت اللعبة تحاول أن تبدو كما لو أنها منتهية، وكما لو أن النظام دخل في طور الهضبة، أي ذلك الطور الزمكاني المستوي الذي يعني في الأخير: أن الفاعل عبّد طريقه القادم لمسافة كافية. وأن الصعوبات الحقيقية أمكن السيطرة عليها. وفي الغالب أصبحت التحديات الجادة جزءا من قصة الماضي.

فالصناديق لا تصنع تغييراً، ولا يمكن أن تفعل ذلك في مجتمع يعيش خارج مسارات الحداثة بالمجمل. إذ تكفي السيطرة على مفاتيح المجتمع للاستحواذ على العملية السياسية برمّتها. ولكي تكون هناك عملية سياسية تصلح لأن تمثّل قنطرة للتحول السياسي، أو مناخاً للفعل السياسي البحت، لا بد أن تختفي المفاتيح وأن يتحوّل الأمر برمّته إلى لعبة أشبه باليانصيب. وبدلاً من المفاتيح 'الشخصيات الاجتماعية المهيمنة، على سبيل المثال' فإنه من المفترض أن تتأكد الفردانية المفضية إلى الاختيار الحُر، بحيث يبدو المواطن الفرد هو الوحدة التصويتيّة الحرّة التي يصعب اختطافها بالطرق التقليدية. في بلد، مثل اليمن، وبغض النظر عن سائر كوابح العملية السياسية، تتجلى الأسرة والعشيرة كوحدة تصويتية متجانسة، بحيث يصعُب أن تجد تمايزاً في الاختيار السياسي لأفراد أسرة مكوّنة من خمسين شخصاً، مثلاً. هذه الظاهرة تحوّل التصويت من فعل سياسي إلى فعل اجتماعي. وحتى هذا الفعل الاجتماعي فهو غير مستقل، أي أن هذه الوحدات التصويتية الضخمة يمكن اختطافها عبر قوى هيمنة ونفوذ واستحواذ. بدورها تبيع هذه القوى المحلية الصغرى مكتسبها، سلة التفاح هذه، لأصحاب القوة الأكبر في المنطقة الأعلى من الهرم. هُنا نحصل على تعريف معجمي للحاكم البطريرك، ذلك الذي تنتهي إليه خيوط كل شيء، ذلك الذي تصدر عنه خيوط كل شيء. هل من المناسب أن نتذكر أن النظام البطريركي هو جزء من الماضي البشري السحيق؟

دعونا نتخفف من هذا الحديث ونعُد مرة أخرى إلى هذه الحقائق، يوجد في البرلمان اليمني 124 شيخاً، يكسبون عملية التصويت قبل تدشينها، أي 41'. عند هذه الواقعية الضخمة اعتقد النظام أن اللعبة انتهت على المدى المتوسّط والطويل. وحتى عندما فكّر في إلغاء المادة 112 من الدستور، المتعلقة بتحديد فترة الرئاسة، فإنه اعتقد لوهلة أنه يقدم على هذه الخطوة الفاصلة بعد أن استكمل تحصيناته على نحو يمكن تسويقه خارجيّاً ويصفّحه ضد الاقتحام داخلياً. ومهما كانت المعارضة التي سيواجهها بينما هو ينصرف لإجراء تخريبات حقيقية في المستقبل السياسي اليمني فإنه سيتعامل معها بلغة سياسية صالحة للتسويق دولياً: خصومي هم أولئك الذين اختاروا بن شملان. لم يتنبه رجالات النظام إلى تجليات السياسة، ففي الأخير سيفسّر بائع الطماطم في وادي الضباب كساد بضاعته بحسبانه 'انتكاسة سياسية' لنظام صالح. وقد يكون من المؤكد أن بائع الطماطم هذا ليس من مؤيدي الراحل بن شملان.

هذا الواقعية السحرية كانت واحداً من أهم عوامل الإحباط وفقدان الأمل لدى الجماهير. الجماهير بدورها أكملت مصفوفة الوعي العام. لقد عملت المعارضة من جهة، والإعلام من جهة اخرى، فضلاً عما استطاع المواطن البسيط أن يستلهمه من تجارب الأمم والشعوب عبر شاشات التلفاز والراديو، أن تلخص عجزها وعوزها بمقولة سياسية. المعارضة اليمنية، والجيل الجديد من الشباب اليمني، تمكنوا من صياغة جملة سياسية مكثفة ودالة. استطاعت هذه الجملة السياسية، عبر حركة موجية عالية الكثافة، أن تهدم ساقية صالح إلى الأبد.

دعونا نستعرض هذه القصة من كتاب 'ذكاء المشاعر' لعالم النفس الأمريكي دانيال غولمان، 'ينهار جسر فتسقط السيارات والعربات في البحر. تحاول فرق الإنقاذ التقاط رجل وامرأته من سيارتهما فيصر الزوجان على الدفع بابنهما الرضيع من شباك السيارة ناحية فريق الإنقاذ. تغرق السيارة في البحر، ويكبُر الرضيع بلا أبوين'. تساءل علماء النفس، الذين اطلعوا على هذه الحادثة، كثيراً حول الغريزة اللاوعية، والأكثر تحكماً، للجنس البشري: الحياة، أم التناسُل. يرجّح كثيرون أن أهم غريزة لدى النوع البشري هي التناسُل واستمرار السلالة في المستقبل. يمكننا هُنا الاعتقاد بأن الثورة اليمنية التي خرّبت مشروع 'استمرار سلالة صالح في المستقبل السياسي اليمني' قد حسمت النتائج جميعها. وحتى بالنسبة لصالح، الذي هوى من على الجسر مع أعمدة مشروعه، فقد حُسِم المستقبل السياسي لأسرته، على النحو الذي رآه وتحقق منه، وبقي أمامه خيار وحيد، أن ينجوا جميعاً. إنها هوة سحيقة. أعني تلك التي تفصل قصة الهيمنة عن قصة النجاة. وفيما يبدو، فهي أكثر فداحة من مجرد السقوط عن الجسر. صالح يدرك ذلك جيداً، الآن، لكنه يدركه بسيكولوجية المقامر! يعترف بالهزيمة بالتقسيط الممل.

لماذا حدث كل هذا لجسر صالح المتين؟ في دراسة علمية نشرت في كلية الهندسة، جامعة القاهرة، قبل ثلاثة أعوام توصل الباحث، وهو عضو هيئة تدريس في الجامعة، إلى نتيجة مفادها أن الأنظمة السياسية، والمجتمعات، تنهار بنفس آلية انهيار المباني والمنشآت. فقد صنع صالح دولته الخاصة، لكنها تلك الدولة المؤسسة على التناقضات المستعصية، بالتعبير الماركسي، أو تلك البنية التي تتمتع عناصرها الداخلية بطاقة كمون غير كافية لحفظ قوامِها بالنسبة لمتغيرات الزمن، بالتعبير الفيزيائي الصرف. إذ بدا أن نظام صالح كان يستحوذ، لكنه لم يكن ينتصر، كان يخطف مكاسب عاجلة، لكنه كان يترك خلفه بحيرات ضخمة من الكراهية، أو على الأقل الإحساس بالغبن. في تقرير قديم لقناة الدويتشه فيللا الألمانية: لقد كسب صالح حرب 94 لكنه خسر الناس في الجنوب. أسس صالح دولته الخاصة في وسط حديقة الديناصورات، سماهم الثعابين، وهي تسمية تحدد، بدرجة واضحة، ملامح دولة صالح، أو جزيرته. جزيرة الألدرادو، أرض الكنز، المحاطة بالسّم من كل جانب 'الثعابين'. يروي فيصل أمين أبو راس: قلت للرئيس 'الشعب تعِب' فرد عليّ: الشعب له الله. يفكّر صالح بأن يترك للذين يعيشون خارج جزيرته تميمة إيمانية 'الله' على أن يعيش هو وشبكاته في الجزيرة بلا تمائم ولا يقينات سوى امتلاك عناصر السيطرة والتحكم والتأكد من ذلك كل صباح.

وفي لقطة تاريخية مهيبة خرجت الديناصورات من مكامِنها، يسوقها دافع شديد الضخامة بوضع حدّ لـ'احتقار العالم لها، بتعبير نيويورك تايمز في وصفها للثوار في إيران'. كانت دولة صالح المستقلة، المؤسسة على هيئة شبكات غير متناهية من العلاقات والمصالح والجرّافات، بالكاد تتسع لمليوني نسمة. بينما يعيش حوالي 23 مليونا خارج هذه الدولة. بعيداً عن مكاسبها وخساراتها، عن قوانينها وعلاقاتها، عن سواقيها وضواحيها. هذه الدولة هي مشروع صالح الذي عكف عليه ثلث قرن من الزمن وأراد أن يسلمها كجزيرة صغيرة يعيش عليها أبناؤه بنفس الطريقة، على أن يتعايشوا مع الديناصورات الواقعة على الحدود بآليات عمل أبيهم، ولا يمنعهم ذلك من ابتكار وسائل تعايش جديدة، عند الضرورة، يمكن استخدامها على هيئة كوابح ضد 'يقظة الديناصور'، مثلاً ما إن يحرك الديناصور ذيله سنبادر إلى إعلان تحويل النظام السياسي إلى نظام برلماني، بحكم محلي واسع الصلاحيات. سيأتي الدور بعد ذلك على الحديث حول 'كيف سنجعل من هذا الطريق الجديد مسلكاً آمناً'. يقول صالح لأولاده: عليكم أن تجيدوا مثل هذه المناورات، انهكوا الديناصور ولا ترتطموا بِه. أوهموه ولا تقولوا له 'لا' أبداً، لكي تتمكنوا من خلق هدوء يليق بنوعية الحياة على الألدرادو!

كان من الممكن أن يستمر جسر صالح في الحياة، أن تقاوم جزيرته عوامل الفناء، أن يستمر أولاده في المستقبل في ما لو وجدت الديناصورات الواقعة على الحافة أمرين حاسمين: مقداراً كافياً من اللذة، وتفسيرات غير سياسية لمشاكلها اليومية العويصة. وهو ما لم يحدُث، نظراً لاستحواذ الجزيرة على كل ممكنات 'العيش السعيد'. ويا للمصادفة! لقد صنع نظام صالح، بالفعل، اليمن السعيد. لكنه ذلك اليمن الذي لم يكن يتسع لأكثر من 5' من السكّان!

كان النموذج المصري والتونسي مليئاًَ بعناصر الإلهام. انتهت اللعبة، قررت الملايين الكثيرة أن تخرّب، وتجرّف، جزيرة النخبة وأن تطردها إلى خارج الحدُود. هذه ليست مسرحية من فصل واحد، ولا هو مشهد بلا كلمات، كما هي أحداث واحدة من أشهر مسرحيات بيرتولت بريشت. إنها قصة الثورة في اليمن، وحسب.

بناءً على هذه الصورة، التي أحب أن أتخيلها هكذا، فقد تأسست لدي قناعة عميقة بأن المشروع السياسي لصالح قد انتهى تماما، وأن جزيرته قد جرى تخريبها على نحو مريع. صالح يدرك هذا تماماً، الآن، وتدركه أسرته. لذلك تبدو فكرة الاستمرار في مواجهة الأطوال الموجية العالية للثورة ضرباً من العبث. لن يعود صالح من السعودية بحثاً عن جزيرة الألدرادو، التي خربتها الكارثة. لكنه قد يعود لكي يلعب فصلاً قصيراً، ومحسوباً، مدفوعاً بنفسية مقامر قديم يعترف بخساراته الكبيرة متأخّراًُ ويتقبلها بصعوبة بالغة. وفي الغالب لا يتخيلها إلا بعد أن يعمد مالك الكازينو إلى إطفاء النور، وتغطية طاولة القمار بملاءة بيضاء مخططة، لكن هذه النفسية المقامرة لم تحجب عن نظام صالح رؤية الجزيرة وهي تتفكك، والجسر وهو يهبط إلى قاع المحيط. وبلغة نفسية، بعيداً عن لغة التحليل السياسي الفقيرة، فإن صالح يقاوم الآن بلا دوافع بعد سقوط مشروعه الكبير. يناور ضد غريزته اللاوعية. أعني تلك الغريزة التي تبحث دائماً عن سكنٍ آمن للسلالة. حتى وهو يفكّر بالعودة من المنفى القهري، فإنه يتساءل بألم قابض 'ولكن من أجل ماذا؟ لقد انتهى كل شيء، كل شيء' يقول صالح لنفسه، بينما يطلق أتباعه النار في الهواء ابتهاجاً بقرب عودته.

' صحافي وشاعر من اليمن

*القدس العربي