مذبحة...
بقلم/ جمال انعم
نشر منذ: 18 سنة و شهرين و 22 يوماً
الخميس 07 سبتمبر-أيلول 2006 09:19 م

صبيحة الثلاثاء المنصرم كانت عمران على موعد مع فيصل بن شملان في مهرجان جماهيري غير مسبوق.

في ذات الوقت كان منافسه مرشح المؤتمر الشعبي العام علي عبدالله صالح في حجة -المحافظة- وسط حشد هائلٍ باعثٍ على الثقة مبشرٍ بخطاب أكثر حصافة وطمأنينة فإذا به أكثر تخويناً وعصبية وتشنجا.

ألقاه على رؤوس معارضيه تهماً ثقالاً تتأجج غضباً ونقمة.

بدا غير سعيدٍ البتة، مجافياً قوله:" أشعر بسعادة بالغة لهذا الحراك السياسي الديمقراطي.."والذي اعتبره في فائض غبطة "..رائعٌ ومظهر حضاري.." فسرعان ما أسفر الضيق عن نفسه وارتفع صوت الحنقِ عما عداه.

كانت الكاميرا متجهة صوب الجمهور تكاثر السواد وكان الخطاب ذاهباً إلى غير وجهة، تلاشى الجمهور في الحدقات الضيقة للخطاب، ولاح المشتركُ كبعبعٍ مخيفٍ وبدا الاستحقاق القادم مبعث همٍ ومصدر تعاسة.

كان بن شملان في عمران إثر 8 مهرجانات وبعد يومٍ من وفاة أخيه "فائز" يحيي الجماهير الغفيرة عارضاً عليهم بأناة وهدوءٍ واتزان بعضاً من تفاصيل برنامجه، مؤكداً - في البدء- على وجوب إحداث التغيير في سبيل "دولة المؤسسات لا دولة الفرد" دون أن ينسى قضايا إنسانية ملحّة كالثأر والمهور وقضايا المزارعين مشيراً إلى أننا"..لا نريد دولة جباية تجبي الأموال دون أن نعلم مصارفها.." متسائلاً في غمرة الشعور بكثافة البؤس: "..أين تذهب موارد هذا البلد؟!".

في اليوم الأول كان بن شملان في ميدان "حورة" الذي اكتظ بالمحتشدين لاستقباله وكانت كلمته ملامسة للأوجاع، دعوة للتغيير، أعادت إلى ذاكرة حجة أصوات حرة ما زالت تسكن حجة، أراد الحاكم أن تكون لها معتقلاً فكانت المنطلق.

مرشح المؤتمر بدأ تصعيده من صعدة بلغة "الأجرة" والتأجير وهو ما حاول تجاوزه في المهرجانات التالية ومع تصاعد الاهتمام الشعبي بمرشح المشترك وأصداء مهرجاناته الضخمة بدأ خطاب منافسه أكثر قلقاً رغم وقوفه على كل إمكانات الدولة.

"ميدان حورة" استحال إلى مذبحٍ للديمقراطية والتعددية، عُلّقت فيه الأحزاب على أعواد المشانق وفتحت لها مقابر خيانية في كرنفال إعدام مستعاد حشر فيه الشهداءُ أسماءً ليشهدوا على صيرورة أحلامهم ودماءهم إلى مجردٍ عدم وندم ولئن استُدعوا قسراً هناك فإن أرواحهم لحظتها كانت ترفرف فوق عمران حيث يمتدون في نسيج مشترك النضال. كانوا هناك في موكب التغيير صرخة في الضمير، وجوهاً حيةً وأسماءً بالغة السمو، ألقاً في صباحٍ جديد " حسين بن ناصر الأحمر، حميد بن حسين الأحمر، القردعي، الموشكي.." وأحياءُ آخرون.

إلى ما قبل خطاب "حَوْرَة" وأنا أشارك الرئيس صالح غبطته مؤملاً خوض تنافسٍ شريف ربما تشكل رعايته له أكبر الانجازات في تاريخه لولا خطاب "حَوْرَة"، البيان الفجيعة، إعلان حرب، قصف عشوائي من مكانٍ يستدعي اجترار رمزيته التاريخية بكل ما تحمله من كثافة القهر.

"..من يريد إعادة النظام الشمولي الإمامي؟..من يريد إعادة عقارب التاريخ للوراء؟" من يعيد إنتاج الماضي بإرثه المستفز؟ من يعيد حكاية الأسياف والأخلاف؟.

هل كان يوم "حَوْرَة" نشوة مكانٍ مسكونٍ بالسطوة أم هزة احتشاد؟

ما زال يجرجرهم في خطاباته العابرة للمهرجانات ملقياً بهم في كل مهوىً سحيق موزعاً عليهم الشبه، ناظماً إياهم في قوائم اتهام كحاقدين ومتآمرين وأشرار وفي حجة كانت الدامغة بيان مطلعٍ على النوايا أوغل في صدر المعارضة بكف عفيف لينتزع مخططات جرائم مستيقنة حال وصولها إلى السلطة.

وكأشد ما يكون التحريض والتعامل اللا مسئول قال فخامته للناس بقصد تخويفهم من المعارضة:"..إن من ضمن مهامهم المستقبلية والنضالية للوصول إلى السلطة عدة حاجات: السطو على البنك المركزي السطو على وزارة النفط والمعادن، الاستيلاء على وزارة الاتصالات لتأميم كل الشركات وما يسمى بوسائل الاتصالات لصالح أحزاب المشترك، وزارة الكهرباء...".

هذا حديث عن "نهّابة" وقطاع طرق، ما فيا، لصوص، عصابات منظمة لكنه لا يصلح حديثاً من حاكمٍ معمر، مرشحٍ نفسه لعمارة سبعٍ أخرْ عن شركائه في الحياة السياسية، منطق "الفيد" والسلطة الغنيمة تختلط فيه الأوراق وتصفية الحسابات.

الحاكم العربي انحنى قسراً لرياح الديمقراطية معللاً نفسه بقدرته على الإمساك بخيوط اللعبة وتدجين التجربة بحيث لا تفرخ إلا شخصه الكريم ولا تفقس إلا في فمه العظيم.

ظن أن بإمكانه مسايرة الركب والاحتفاظ بها كإجازة أخلاقية تشهد له لدى الخارج فقط بحسن السيرة والسلوك في شعبٍ هو من يمنحه حسن السيرة وسوء السلوك.

ظن الحاكم العربي أن قبضته أشد من كل التطلعات وأن أقدامه أثبت من كل تجربة منبتة وأن عزل الوطن عن حركة الكون ممكنة.

ليكن لدينا ديمقراطية لكن بشروط الحاكم وبمقاساته المفضلة، لتكن أحزاباً معارضة لكن كواجهة عرض لبضائع الحكم المغشوشة، الفاسدة، لتكن صحافة لكن بما لا يزعج النظام ويقلق النوم العام، لتكن انتخابات لكن لاختيار الحاكم.

الحاكم متسامحٌ مع الديمقراطية ما دامت في خدمته لكن حين يبدأ الشعب في استخدامها - كشرط حرية- تصبح بمثابة تهديد وفي سبيل التيئيس منها يهيئ لها كل أسباب الفشل.

لم يحسب الحاكم يوماً أنه سيواجه بتحدٍ حقيقي يفضح أخلاقياته المدعاة.

جبل الإنسان على رفض المنّة وأسوء ما يمن به الحكام على شعوبهم الحرية ولقمة الخبز.

لقد ظل الحزب الحاكم زمناً طويلاً يهرب من الكذب إلى الكذب حتى غدا أكذوبة شاملة ودائمة.

ظن الحاكم أنه قادرٌ على تسويق نفسه والترويج لأكاذيبه حتى النهاية، اعتقد أن بإمكانه الاستحواذ أبداً على الدولة والشعب وأن بمقدوره تزييف وتزوير الوعي والقناعات وإعادة إنتاج البهتان لكنه فوجئ بصحوة تجاوزته، صحوة أججتها أوجاع سنوات مرة، فوجئ أن الشعب جادٌ في نشدان التغيير، مؤمنٌ أن الديمقراطية خياره لا الحاكم.

والأحزاب في نضالها السلمي تدرك أن أول خطوة على الطريق مكافحة "الأفكار الشريرة" ومن الكلام ما كان عنفاً وتحريضاً على القتل والفساد ومن الكلام ما كان جرماً يعاقب عليه القانون.

ضد أن تتحول البلاد إلى ساحة حرب، ضد الكراهية لأنها عقم وتدمير للروح.

"..نحن فدائيو المحبة، نحب المحبة ونعادي العداوة" بحسب النورسي لا خصومات شخصية

بيننا ورموز الفساد وطنٌ يستحق المحبة.