من ماضي الفاشية إلى حاضر التحولات الجنسية
بقلم/ الجزيرة نت
نشر منذ: 3 ساعات و 52 دقيقة
الأربعاء 05 فبراير-شباط 2025 09:02 م

بينما كانت طائرة الفاتيكان تحلق في سماء البقاع المقدسة، في مايو/أيار 2014، كان البابا فرنسيس الذي كان قد مضى عليه في سدة البابوية عامٌ ونيف، يرسل نظراته من نافذة الطائرة مستندًا بذقنه الحليقة على يده في تفكر ملحوظ.. رأى الأرض التي لا يدرك مَن يرى اتصالها من الأعلى أنها في الحقيقة مقطعة الأوصال بالجدر والحواجز العسكرية والدماء، فخليفة المسيح على الأرض، كما يؤمن المسيحيون الكاثوليك، وهم أكثر من 1.4 مليار ينتشرون في أرجاء المعمورة؛ كان على وشك الهبوط على مرمى حجر من بيت لحم، و"أورشليم" (القدس)، حيث وُلد المسيح وحيث حورب وحوكم.

 

كان البابا يدرك أنه لن يرى حكام مدينة المسيح من الرومان، ولا المشانق التي عُلق عليها المؤمنون من تلاميذه وحوارييه، فقد جاء حكام جدد، حيث غاب الحاكم الروماني بيلاطس البنطي الذي حاكَم المسيح، وحضر نتنياهو، واندثر ملك الجليل أنتيباس، أمير الربع، كناية عن حكمه ربع فلسطين، ولكن يوجد عباس رئيس السلطة الفلسطينية، الذي يحكم أقل من ربع فلسطين.

 

لم تكن هذه الزيارة الأولى التي يسافر فيها الرجل إلى القدس. ففي الأسبوع الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1973، زار المدينة، وفي اليوم التالي لوصوله اندلعت حرب "10 رمضان" على الجبهتين السورية والمصرية مع إسرائيل، ليقضي الأب خورخيه ماريو بيرغوليو (وهو الاسم الذي وُلد به البابا وعاش يُعرف به) أيامه في الفندق يقرأ ويتأمل في الكتاب المقدس، قبل أن يعود إلى الأرجنتين من غير أن يُتم حجّه.

 

لكن هذه المرة يعود خورخيه، بعدما أصبح البابا فرنسيس، إلى أرض المحشر، وإلى الجليل، حيث وُلد تلميذ المسيح بطرس، الذي قُتل في روما لتتأسس على قبره بعدها بقرون؛ الكاتدرائية التي تحمل اسمه لتكون قلب الفاتيكان، والتي يجلس البابا فرنسيس على سدة كرسيها خليفة لبطرس الرسول، أول البابوات عند الكاثوليك وأول أساقفة روما.

 

وقبل أن تنتهي الزيارة، سيدعو البابا عباس وبيريز إلى لقائه في الفاتيكان للصلاة والدعاء من أجل السلام.

 

إنهم يحرقون الزيتون

لعل هذه الذكريات مرت بذهن البابا بينما كان ينصت لتلخيصات مساعديه عن الأوضاع في فلسطين بعد اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة. ففي مساء الأحد، 22 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد مكالمة استمرت 20 دقيقة مع الرئيس الأميركي جو بايدن، كان يعدّ لمكالمة أخرى مع مكتب الأب الكاردينال بيتسابالا، رئيس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية في أسقفية القدس، في مقرها بكنيسة القيامة، في تمام الساعة السابعة، لإطلاعه على المجريات في فلسطين، كعادته منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول.

 

وفي القدس، لم يكن بيتسابالا وحده، فقد كان معه لمحادثة البابا فرنسيس؛ الأب غابرييل رومانيلي، كاهن كنيسة العائلة المقدسة، التي تخدم طائفة صغيرة من الكاثوليك في قطاع غزة. كان رومانيلي، الأرجنتيني مثل فرنسيس، قد عُين أسقفًا للكنيسة في غزة قبل ذلك، غير أن قراره تأجيل عودته ليوم واحد من السادس إلى السابع من أكتوبر، حبسه في القدس لسبعة أشهر. فقد سعّرت إسرائيل حربها، ليشهد الفلسطينيون لياليَ لا تقل ألمًا وبشاعة، بل لعلها تزيد، عما عاشه آباؤهم في القدس حين دخلها الصليبيون قبل 900 عام.

   

أراد البابا أن يطمئن على رعيته، وكذلك على الفلسطينيين الذين يحتمون بكنيسة العائلة المقدسة للاتين في غزة، والذين بلغ عددهم أكثر من 700 شخص في الأسابيع التالية للحرب.

 

فقبل خمسة أيام بالضبط من هذه المكالمة، كان سلاح الجو الإسرائيلي قد أغار، في السابعة مساء أيضًا، على المستشفى الأهلي المعمداني، أحد أقدم مستشفيات القطاع، والذي يتبع الكنيسة الأنجليكانية في القدس، ليقتل أكثر من 500 شخص ويجرح 600 آخرين من المدنيين المحتمين بالمستشفى. لكن البابا الذي دعا إلى وقف الحرب لم يُدن جيش الاحتلال الإسرائيلي، بل أعرب عن قلقه بشأن اتساع الصراع في أعقاب قصف المستشفى "الذي يلقي كل طرف فيه باللوم على الآخر" حسب قوله.

 

وبعد أقل من يومين، تعمدت قوات الاحتلال استهداف كنيسة الروم الأرثوذكس وسط مدينة غزة، ما أسفر حينها عن استشهاد 18 فلسطينيًا، كما قصفت القوات الإسرائيلية جمعية الشبان المسيحية في غزة، والتي كانت تؤوي حينها 300 نازح، ليقتل 6 فلسطينيين. كما حطمت المتفجرات ديرًا مجاورا يتبع الجمعية التي أسستها الأم تيريزا، لكن إسرائيل ادّعت أنها ليست مسؤولة عن الهجمات.

 

حينها تجنب البابا التطرق أو الإشارة إلى الاحتلال الإسرائيلي حين عبّر عن حزنه وألمه للفظائع التي تجري في غزة وللمسيحيين، لكنه تكلم فقط بعدما امتد القصف الإسرائيلي ليطال كنيسته بعد ذلك بشهرين في ديسمبر/كانون الأول، وقتل سيدتين كاثوليكيتين، أمًا في السبعين من عمرها وابنتها الخمسينية، وجرح 7 آخرين، وهو ما جعل البابا يدين الهجوم بشدة، واصفًا إياه بأنه ليس حربًا فحسب، وإنما "إرهاب".

 

غير أنه سرعان ما خفتت حدة لهجة الكاردينال بيتسابالا، ممثل البابا، والذي قال لاحقًا: "نسمي الأشياء بأسمائها، وفي نفس الوقت نحاول أن نبقي العلاقات مفتوحة مع الجميع.. ونخبر الجميع، كلا الجانبين، أننا نحبهم".

 

راقص التانغو يسعى للتوازن

هل يفلح في حل أسئلة العصر؟

 

البابا أثناء اعتذاره لسكان كندا الأصليين على انتهاكات الكنيسة الكاثوليكية بحقهم عبر الأجيال

البابا أثناء اعتذاره لسكان كندا الأصليين على انتهاكات الكنيسة الكاثوليكية بحقهم عبر الأجيال (غيتي)

هذا هو ديدن البابا فرنسيس، فهو يحاول الحفاظ على توازن قد يبدو مستحيلًا بين نقيضين وأكثر. البابا الذي وُلد وترعرع في قلب بوينس آيرس النابض بالحياة، يحمل في داخله إيقاعًا شكلته نغمات التانغو التي يعشقها. هذه الرقصة، التي تُعد رمزًا لتراثه الأرجنتيني، تتجاوز مجرد الحركة، فيبدو أنها قد نسجت هويته ورسمت شخصيته حتى وهو يصعد إلى أعلى مراتب السلطة الروحية في الكنيسة الكاثوليكية. تتردد أصداء نغمات التانغو الحزينة وتقبُّلها للتلقائية المليئة بالشغف في نهجه للقيادة.

 

هنا يتجلى عهد البابا فرنسيس، فهو قائد يجرب السعي للوساطة السياسية، ويتوجه إلى التقليديين والإصلاحيين بنفس الروح، ويحمل شكوكًا، أو ربما ذنوبًا يسعى للتكفير عنها، تجعله يحاول المواءمة بين اليسار واليمين، بين لاهوت التحرير الاشتراكي القديم الساعي للعدالة الاجتماعية، واللاهوت الليبرالي الرأسمالي الجديد الطامح لحرية بلا سقف.. يعمد إلى الحلول الوسط مجاهدًا للحفاظ على توازنه أثناء الرقص وتوازن الكنيسة خلال حركتها في الزمن وبين الناس، في مواجهة المؤمنين به والرافضين له.

 

مواقف البابا في ذلك كثيرة، فقد سعى لتحسين وضع المرأة في الكنيسة، لكنه في نفس الوقت استخدم خطابًا يوصف بالعنصرية ضد النساء، كما رفض زواج المثليين أو انضمامهم إلى الأديرة، لكنه سمح بمباركتهم والدعاء لهم، وتتجمع ضده الأدلة بدعم الفاشية في الأرجنتين خلال ستينيات القرن الماضي، وهي التي هرب منها أبوه في إيطاليا خلال العشرينيات، ويقول إنه يكره الحرب ويدعو الأوكرانيين إلى رفع الراية البيضاء أمام الهجوم الروسي، ويدعو كذلك إلى وقف الحرب في غزة لكنه لا يدين إسرائيل على نحو قاطع..

 

محاولات التوازن أو التلفيق كما يراها البعض، تدفع أتباع الكنيسة الكاثوليكية إلى التساؤل بشأن البابا، والاختلاف حول ما يمثله، إلى حد وصف أحدهم للمختلفين حوله بقوله "يكرهه النشطاء، بينما يحبه الناس العاديون".

 

فهل يفلح الرقص على التناقضات في حسم أسئلة العصر التي تواجه بابا روما؟ وهل الرقص، باعتباره لحظة استغراق في الحاضر، سيشغل البابا عن التفكر في الماضي وإرث العلاقات بين الشرق والغرب، أو في المستقبل وكيف ستبدو علاقة الكنيسة بالمؤمنين بها وكذلك بأعدائها بعد رحيله؟ هل يستطيع الرقص أن يغيّر الصورة الذهنية التي بنتها الكنيسة عبر القرون عن الإسلام والمسلمين؟

 

حياة كادت تنتهي قبل أن تبدأ

في عام 1925 صعد بينيتو موسوليني إلى حُكم إيطاليا، وحينها كانت أسرة البابا فرنسيس تعيش في تورينو شمال غرب البلاد. كانت جدته روزا تصنع الفساتين، قبل أن تقرر افتتاح متجر للحلويات. كانت إيطاليا موسوليني تتجه نحو الفكر المادي اللاديني، في الوقت الذي كانت تعمل فيه روزا كمساعدة لأسقف أبرشية محلية، وتنخرط في حركة العمل الكاثوليكي، وهي حركة اجتماعية دينية يمكن اعتبارها أمًا للأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوروبا.

 

لكن موسوليني، الذي يحكي في مذكراته أن صدره "كان يضيق بسماع التراتيل الإنجيلية"، كما أنه لم يكن يطيق رؤية "رجال الكنيسة بملابسهم السوداء"، أقدم على حلّ حركة العمل الكاثوليكي. في نفس الوقت، كانت الأخبار ترد من الأرجنتين، حيث هاجر أعمام فرنسيس قبل سنوات، تدعو الأسرة للقدوم إلى الأرجنتين وبدء حياة جديدة. وفي فبراير/شباط 1929، بعد تأخير عام عن موعدهم المخطط، رست سفينة عائلة بيرغوليو على شواطئ الأرجنتين.

 

في ذلك الوقت، كانت الخلافات بين الكنيسة الكاثوليكية والدولة الإيطالية على أشدها. لكن بعد تسوية تاريخية فيما يُعرف بوثائق لاتران، عام 1929، مع مملكة إيطاليا، تم منح الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تعويضًا ماليًا عن خسارة الولايات البابوية، أثناء نشأة إيطاليا الحديثة في القرن 19، واستقلت الكنيسة الكاثوليكية بدولة الفاتيكان، وأصبحت دولة مستقلة تحت حكم البابا بيوس الحادي عشر.

 

في هذا السياق ترسم المؤرخة جوليانا تشاميدس في كتابها "الحملة الصليبية في القرن 20.. معركة الفاتيكان لإعادة تشكيل أوروبا المسيحية"، كيف أعادت الكنيسة الكاثوليكية في هذه المرحلة تشكيل نفسها كقوة شبيهة بالدولة القومية في أوروبا، فبنت حضورًا دوليًا حديثًا متميزًا لمحاربة ما رأتها تهديدات عالمية تمثلت في الليبرالية والاشتراكية ثم الشيوعية، وهو ما مهد لتصاعد قوة ونفوذ البابوات الذين أتوا بعد ذلك، وآخرهم فرنسيس، في عودة قوية بعد ضربات مؤلمة وجهت للكنيسة بعد عصور التنوير الأوربية.

 

انضمت عائلة البابا إلى جذورها في مدينة بارانيا، على بعد 500 كلم شمالي العاصمة الأرجنتينية وعاشوا في قصر العائلة حياة رغيدة لم يُكتب لها أن تطول. ففي عام 1932، دخلت الأرجنتين عصر الكساد العظيم، لتضطر الأسرة للاقتراض والرحيل مرة أخرى، إلى بوينس آيرس هذه المرة، بعد أن انخفضت رتبتها الاجتماعية.

 

البابا فرنسيس (الثاني من اليسار في الصف الخلفي) أثناء شبابه مع أسرته

البابا فرنسيس (الثاني من اليسار في الصف الخلفي) أثناء شبابه مع أسرته (أسوشيتد برس)

كانت العائلة تحاول النجاة من براثن العوز، تخيط الأم ملابس صغارها ويعمل الأب محاسبًا في عدة أماكن لكي يلبي احتياجات أسرته ثم يؤمهم جميعًا في صلاتهم كل ليلة. ومع الوقت، وبسبب الانشغال في السعي على المعاش، تُركت مهمة رعاية الابن الأكبر خورخيه (البابا فرنسيس لاحقا) إلى جدته روزا.

 

كانت روزا متعلقة بالدين وكانت أشد تعلقًا بالقديس دون بوسكو، الذي عاش في القرن 19، ولُقب بأسقف الشوارع، واعتنى بأطفال مدينة تورينو الإيطالية وفقرائها، وبدوره تعلق به خورخيه. فجدته كانت تأخذه إلى الكنيسة، وإلى منزلها، وإلى متجرها قبل أن يلعب مع أطفال حارته، لدرجة أنه تعلم لهجة العاصمة الأرجنتينية بلهجة أطفال شوارعها، بما فيها بعض السباب الذي يستخدمه بملاحة في نقاشاته الباباوية مع مخالفيه.

 

تختلف تلك الطفولة كثيرًا عن الطفولة التي عاشها البابوان السابقان عليه، يوحنا بولس الثاني في البلدة البولندية الصغيرة التي وُلد فيها، أو بنديكت السادس عشر الذي عاش طفولته في قرية بافارية صغيرة بالريف الألماني.

 

إنه اختلاف البيئة بين ضجيج حواري أميركا اللاتينية وهدوء ورتابة الريف الأوربي. لقد كان البابا القادم يُصنع في شوارع بوينس آيرس، يحب ويرقص ويشاغب اقرانه. ففي مساءات السبت من كل أسبوع، كان أبناء الحي ينهمكون في رقص التانغو، ومعهم خورخيه الذي كان يُطلق عليه "الولد النحيف". ها هو قد صار صبيًا يلعب كرة القدم في الحي بجوار الكنيسة، وها هو مراهقًا يقع في حب جارته "أماليا" ويعدها بالزواج إذا لم يصبح قسًا كما يفكر.

 

لقد كان البابا القادم يُصنع في شوارع بوينس آيرس، يحب ويرقص ويرى العالم، إلى الحد الذي جعل الكاتب والمفكر الإيطالي إمبرتو إيكو يصفه بأنه "البابا الأول لعالم العولمة".

 

حارس الملهى الليلي

انشغل خورخيه بحياة يمثل الدين جزءًا أساسيًا منها، لكنه لا يغلفها تمامًا. ففي هذه المرحلة، عمل الشاب كحارس في ملهى ليلي، يقف على بابه، يمنع المتطفلين، ويبعد مثيري المشاكل. كذلك كان الصبي بيرغوليو مهووسًا بكرة القدم، وهو الأمر الذي سيستمر معه طيلة حياته حتى بعد اختياره لقيادة الكنيسة الأكبر في العالم.

 

لشاب مثله عاش في أحياء بوينس آيرس الفقيرة، كان مسار التعليم الديني مفتوحًا، بل لعله كان أحد أفضل الطرق للترقي الاجتماعي. فالبابا الذي يصف نفسه مازحًا بأنه ضمن "العمالة الأجنبية في إيطاليا" الوافدة، عاش وسط الفقراء من المتدينين طيلة حياته، وفي بوينس آيرس، تعرف على خط من الرهبنة الخدمية التي تتبع القديس دون بوسكو الذي تحبه جدته.

 

لكن لم تكن ريغينا، أم خورخيه، على وفاق مع رغبة ابنها في الدخول إلى سلك الرهبنة. استمع خورخيه لأوامر أمه، ودرس الثانوية في مدرسة فنية، وتخرج فيها بشهادة في الكيمياء تؤهله ليكون مساعدًا في المعامل أو المصانع. لهذا وغيره فقد فكر خورخيه مليًا، وتردد قبل الالتحاق بكلية إعداد الكهنة اللاهوتية، أو الكلية الإكليريكية (= وهي معاهد وكليات لتخريج الكوادر الدينية المسيحية).

 

كانت الفتاة التي أعجب بها الشاب السبب الآخر في هذا التردد، فالفتاة أماليا التي كانت تباغته خيالاتها في صلواته جعلته يفكر في الزواج والابتعاد عن خط الرهبنة. لكن في سبتمبر/أيلول 1953، وبين الجدران الشاهقة لكنيسة سان خوزيه في حي فلوريس حيث يعيش، كان خورخيه قد حسم أمره، وقرر الانضمام إلى المدرسة الإكليريكية.

 

خلال سنوات قليلة، انضم إلى سلك خاص من الكاثوليكية، فقد أحب خورخيه الرهبنة اليسوعية بشكل خاص، والمعروفة باسم الجزويت، ويُعرف أتباعها كذلك باسم اليسوعيين. تُعد الجزويت إحدى أكبر الجماعات الرهبانية في الكنيسة الكاثوليكية، وتتسم خدمتها بجوانب صوفية، مع رغبة في الاختلاط بالناس ومساعدة المجتمع وخدمة الفقراء والمساكين والمتألمين، تمامًا مثلما كانت حياة السيد المسيح، وفق اعتقادهم.

 

البابا فرنسيس يغسل ويقبل قدم أحد اللاجئين في مخيم للاجئين بالقرب من روما عام 2016

البابا فرنسيس يغسل ويقبل قدم أحد اللاجئين في مخيم للاجئين بالقرب من روما عام 2016 (أسوشيتد برس)

تأسست الجزويت على يد القديس إغناطيوس القادم من مدينة لويولا الإسبانية في النصف الأول من القرن 16. كانت الجزويت خيّرة في مجتمعها الكاثوليكي، غير أن لها وجهًا بشعًا ظهر في إحدى أسوأ الجرائم الموثقة في التاريخ، حين اشتركت في محاكم التفتيش حيث عمل بعض أبنائها كمحققين، ومفتشين عن العقائد والإيمان، ومدعين عامين نيابة عن المكتب المقدس.

 

حاكمت محاكم التفتيش اليسوعية الآلاف ممن اتهموا بممارسة السحر، أو ممن خالفوا تعاليم الكنيسة فيما يتعلق برؤيتها للعالم، مثل ما حدث مع عالم الفلك الإيطالي غاليليو غاليلي. وحدثت أسوأ تجلياتها في شبه الجزيرة الإيبيرية (إسبانيا والبرتغال)، حيث شهدت محاكم التفتيش آلاف حالات الإعدام على مدى أكثر من 300 عام، ونُفذ آخر حكم إعدام في عشرينيات القرن 19.

 

وخلال هذا الوقت الطويل، لعب اليسوعيون دوراً نشطاً في المساعدة على تنفيذ وتوسيع وتعزيز محاكم التفتيش. أما أشهر فظائع هذه المحاكم التي استمرت في العمل لمدة 500 عام تقريبًا، والتي تُعرف بها في العالم العربي والإسلامي، فهي تعذيب واضطهاد المسلمين واليهود والمسيحيين البروتستانت، وحتى الهندوس.

 

ظلال هذه المحاكم ورهبانها في الثقافة الشعبية العالمية تحضر إلى الأذهان في صورة التشدد. ففي رواية الإخوة كارامازوف للأديب الروسي فيودور دوستويفسكي، الذي قال البابا فرنسيس إنه يحبه كثيرًا، صورة لوقوع المسيح في براثن هذه المحاكمة، ومجادلة المفتش اليسوعي له رغم معرفته به، حيث وجد أن أفكاره تمثل تهديدًا لسلطة الكنيسة التي بنتها عبر القرون.

 

انتهت محاكم التفتيش، لكن الكنيسة الكاثوليكية لم تتوقف عن إثارة الجدل بين أتباعها وغيرهم، ولعل علاقتها بالسلطة عبر التاريخ هي إحدى أهم الجوانب التي تستحق الدراسة.

 

على كرسي القديس بطرس، لكن ثمة مفاجأة!

في 13 مارس/آذار 2013، وبعد ساعات على انتخاب فرنسيس بابا للفاتيكان، وبينما كان منشغلًا بتلقي التهاني والحديث لرعيته السعيدة بصعوده إلى الكرسي الرسولي، ظهر رسم جداري كبير مقابل كاتدرائية بوينس آيرس كُتب عليه "البابا صديق خورخيه فيديلا رئيس الأرجنتين في أسوأ سنوات الدكتاتورية".

 

نقبت الصحافة في تاريخ البابا الصاعد في كنيسة روما، وألقت ضوءا كثيفا على جوانب مغبّشة من تاريخه، تبدو جدلية في أفضل الأحوال، لكن لكي نفهمها فنحن بحاجة للعودة إلى بداية الستينيات، بُعيد دخوله سلك الرهبنة اليسوعية.

 

ففي مارس/آذار 1960أصبح فرنسيس عضوًا في الرهبنة اليسوعية، وبعد سنوات، أي في العام 1967 بدأ دراسته الدينية العليا التي تؤهله ليكون قسًا، ورُسّم في العام 1969، وأصبح مشرفًا على المنضمين الجدد إلى الرهبنة اليسوعية في الأرجنتين خلال هذه الفترة.

 

في عام 1976، أدى انقلاب عسكري مدعوم من تيار يميني كاثوليكي إلى تأسيس حكومة عسكرية بقيادة الجنرال المتدين خورخيه رافائيل فيديلا، والتي بدأت فصلاً جديدًا ومظلمًا من تاريخ الأرجنتين.

 

قام نظام فيديلا بحملة قمع شرسة ضد المعارضين، أدت إلى ما عُرف في تاريخ الأرجنتين "بالحرب القذرة"، حيث اختُطف آلاف الناس، وكثير منهم من رجال الدين الذين اعتنقوا نهجًا من الاشتراكية عُرف باسم لاهوت التحرير، وعُذب وقُتل الكثير منهم على يد الدولة، وقد كان الفاتيكان على غير وفاق مع الرهبان اليساريين المنضوين تحت لافتة التفسير الاشتراكي للمسيحية أو لاهوت التحرير الذين يتعرضون للقمع، وكانت ترى هذه الأفكار بمثابة اختراق للمسيحية من قبل الشيوعية.

 

ديكتاتور الأرجنتين السابق فيديلا أثناء طقس التناول في كنيسة كاثوليكية محلية في بيونس أيرس

ديكتاتور الأرجنتين الأسبق فيديلا أثناء طقس التناول في كنيسة كاثوليكية محلية في بوينس آيرس عام 1990 (غيتي إيميجز)

وقد رأى فرنسيس حينها أن الأصول الماركسية للاهوت التحرير اليساري قد تؤدي إلى زعزعة الاستقرار المجتمعي، وأنها قد تسعر الاضطرابات على أساس الصراع الطبقي، وقد وجد نفسه في موقف معقد: هل يدافع عن من يعارضهم فيدخل في عداء مع السلطة العسكرية الفاشية؟ أم يغض الطرف عن قمع خصومه والخارجين عن نهج الفاتيكان القويم؟

 

يبدو أن فرنسيس كرئيس لليسوعيين في الأرجنتين قرر أن ينهج نهجا وسطا، مبنيًا على الإنقاذ الفردي والتواصل الاجتماعي الذي ورثه عن الرهبنة اليسوعية دون الاشتباك مع النظام السياسي.

 

لكن يبدو أن الواقع كان أقوى من الحلول الوسطى فقد واجه فرنسيس العديد من التحديات والعقبات التي تحول بينه وبين ضمان سلامة الكثير من الكهنة المعارضين الذين يتعرضون للقمع الشديد، ولم يتفهم اتجاه عريض من "الرهبان الحمر" موقفه، ووُجهت إلى فرنسيس انتقادات لعدم اتخاذه موقفا أكثر حزمًا ضد الحكم العسكري، وحرصه على التعامل معهم بحكم منصب الديني الرسمي.

 

وقد أعادت صحيفة باغينا 12 الأرجنتينية نشر وثائق تتهم البابا بالتورط في واقعة خطف اثنين من المبشرين اليسوعيين هما أورلاندو يوريو وفرانشيسكو جاليكس، اللذين سجنا في 23 مارس/آذار 1976، ثم تعرضا للتعذيب قبل أن يطلق سراحهما بعد خمسة أشهر، وقد نفى فرنسيس بعد انتهاء حقبة الانقلاب الفاشي علاقته بالنظام العسكري، أو تحريضه على أي من الرهبان الذين تضرروا بسبب النظام العسكري، وتحدّث البعض عن أدوار له في إسبال الحماية على بعض الرهبان المضطهدين من خلال تهريبهم خارج البلاد أو إخفائهم في مدارس اليسوعيين ومقارهم.

 

لكن هذا كله لم يشفع له، فمع تصاعد الاتهامات ضده، أُعفي فرنسيس من منصبه كرئيس للرهبنة اليسوعية قبل عام من انتهاء ولايته في منصبه الديني عام 1979. ولاحقًا، في منتصف العام 1980 كانت التحقيقات التي أجراها الرئيس الأرجنتيني راؤول ألفونسين تشير إلى تواطؤ بعض الأساقفة المقربين من العسكريين في القمع الذي شهدته البلاد.

 

وفي عام 2000 التقى فرنسيس الذي كان حينها قد صار رئيسا لأساقفة الأرجنتين، مع بعض خصومه من الرهبان ليتصالحا عن هذا الماضي المربك، لكن هل ندم على فعلته؟

 

فرنسيس لم يعترف لبنديكت

في عام 2019، أنتجت شبكة نتفليكس فيلمًا بعنوان "البابوان".. يعرض الفيلم بشكل درامي مسيرة صعود البابا فرنسيس والاختلافات بينه وبين سلفه بنديكت، ويصور في أحد مشاهده فرنسيس قبل وصوله إلى البابوية معترفًا أمام البابا بنديكت بأنه لم يفعل كل ما عليه من أجل إنقاذ هؤلاء الذين آذاهم النظام العسكري في الأرجنتين.

 

لكن المؤكد أن الفيلم لم يكن دقيقًا في حديثه عن الاعتراف والتوبة، فلم يتحمل فرنسيس المسؤولية، ولم يعترف أمام البابا بنديكت، ولم يقض معه أوقاتًا طويلة، وبالتأكيد لم يرقصا التانغو معا قبيل انتخابه على رأس الفاتيكان مثلما يصور الفيلم.

 

حالة الندم التي صورها الفيلم لم تحدث، وهو ما يدفعنا للاعتقاد أن البابا فرنسيس لم يُبدِ ندمًا على تعاونه مع السلطات العسكرية في الأرجنتين لسببين رئيسيين: أحدهما يتعلق بطبيعة السلطة العسكرية في الأرجنتين آنذاك، والثاني يتعلق بتاريخ الفاتيكان وعلاقته بالسلطة.

 

الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر أثناء مصافحته قيادات كنسية بروتستانتية وكاثوليكية في ألمانيا

الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر أثناء مصافحته قيادات كنسية بروتستانتية وكاثوليكية في ألمانيا (غيتي)

أما الذي يتعلق بالأرجنتين، فقد كان خورخيه فيديلا، قائد الانقلاب العسكري ورئيس الأرجنتين بعدها، كاثوليكيًا متديًنا. وفي يوم الانقلاب العسكري، عقد اجتماعًا مع مجلس الأساقفة في الأرجنتين الذي أصدر بيانًا ينصح المواطنين "بالتعاون الإيجابي مع الحكومة الجديدة".

 

كما تشير محاضر اجتماعات بين قادة الكنيسة وقادة الحكومة العسكرية بعد أشهر من الانقلاب العسكري؛ أن الكنيسة أكدت أنها لن تعترض على ممارسات الحكومة ولن تتعرض لها بأي نقد. وفي 1981، بعد خمس سنوات من الانقلاب، سافر البابا يوحنا بولس الثاني إلى بوينس آيرس وبارك زعيم الانقلاب وقبّله بلا أي ذكر لآلاف المختفين قسريًا الذين قُتل معظمهم بلا محاكمات ولا جريرة.

 

ولم يصدر عن مجلس الأساقفة في الأرجنتين، والذي كان قد دعا إلى التعاون مع السلطات العسكرية، أيّ اعتذار عن تورط الكنيسة في هذه الفترة المظلمة إلا عام 1996 بعد أن ترك فرنسيس منصبه. هذا بالإضافة إلى تأكيد بعض المتضررين من رجال الدين اليساريين على أن فرنسيس أعلن تبرؤ الكنيسة منهم وممن اعتقلتهم السلطات في ذلك الوقت ورفضها لأعمالهم.

 

كل هذا يشير إلى أن تعاون فرنسيس مع الحكومة العسكرية لم يكن نزوعًا شخصيًا، أو خطأ فرديًا، أو حتى استجابة لضعف بشري أو إيثارًا للسلامة، بل الأرجح أنه كان تأييدًا أقرته الكنيسة الكاثوليكية ونفذته عبر مستوياتها المختلفة، كما يقول أستاذ علم الاجتماع في كلية بوسطن، غوستافو موريلو، في كتابه "الكنيسة الكاثوليكية وحرب الأرجنتين القذرة"، ولم يكن ممكنًا لفرنسيس الذي بايع البابا على السمع والطاعة أن يخالف تلك السياسة، بل إنه يُثاب عليها لما فيها من خدمة للكنيسة.

 

وهذا ينقلنا إلى السبب الآخر لعدم اعتذار البابا عن تورطه في دعم السلطات العسكرية في الأرجنتين، وهو تاريخ الفاتيكان ذاته. بتتبع هذا التاريخ، يمكن القول بثقة إن الفاتيكان كان يصانع بعض الأنظمة المستبدة في أمور كثيرة كي لا يُضرّس بأنياب الدكتاتوريين الأوروبيين. فقد توصلت قيادة الكنيسة الكاثوليكية إلى تفاهمات متعددة مع قادة مثل أدولف هتلر في ألمانيا، أو بينيتو موسوليني في إيطاليا ضمن اتفاقات لاتيران، أو فرانشيسكو فرانكو في إسبانيا.

 

في بعض تلك الاتفاقات، كان الفاتيكان يبحث عن حل براغماتي لتجاوز اللحظة الصعبة مع أقل قدر ممكن من الخسائر، لكنْ في بعض الاتفاقات الأخرى، كان التعاون أكبر من مجرد إيثار للسلامة من قبل الكنيسة، إذ كان تحالفًا استراتيجيًا مع بعض الأنظمة الشمولية للحفاظ على القيم المسيحية في مواجهة الإلحاد، ومحاربة الأيديولوجيات المعادية، مثل الليبرالية أو الشيوعية.

 

ففي عام 1938، كانت دولة الفاتيكان من أوائل الدول التي تعترف بدولة فرانكو الدكتاتورية المرعبة في إسبانيا في ذروة الحرب الأهلية الإسبانية. بل إن الكنيسة اعترفت بالقتلى الداعمين لفرانكو بصفتهم شهداء، في حين رفضت الاعتراف بالكاثوليك المتدينين ممن قُتلوا دفاعًا عن الجمهورية العلمانية. وفعلت الكنيسة مثل ذلك في البرتغال حين دعمت الدكتاتور سالازار المعادي للشيوعية.

 

من خلال هذا التقارب التاريخي بين اليمين والفاتيكان، يعزو بعض الباحثين والأكاديميين، مثل الباحث ويليام باتش، إلى الكنيسة الكاثوليكية التصالح مع الأسس الفكرية والأيديولوجية لحركاتٍ مثل النازية والفاشية، والتي تحولت في نسخها المخففة إلى الأحزاب اليمينية المتطرفة التي لا تزال تقدم نفسها باعتبارها خط الدفاع الأخير عن القيم المسيحية، وهو الأمر الذي يعجب الفاتيكان، لكنه يحرجه في أحيان كثيرة بسبب خطاب هذه الأحزاب الرافض للمهاجرين، والتعددية، وحتى المعادي للسامية في بعض الأحيان.

 

وحتى إذا لم يدعم الفاتيكان بعض توجهات هذه الأحزاب أو الأشخاص، فإن العديد من رجال الدين الكاثوليك يتعاطفون مع هذه الآراء المتطرفة، بل ويساعدون معتنقيها، مثلما حدث في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

 

البابا فرنسيس مع الرئيس الإسرائيلي السابق شيمون بيريز بوجود بنيامين نتنياهو في مطار بن غوريون عام 2014

البابا فرنسيس مع الرئيس الإسرائيلي السابق شيمون بيريز بوجود بنيامين نتنياهو في مطار بن غوريون عام 2014 (رويترز)

كذلك، انخرط الفاتيكان في مواجهة الأفكار المعادية لليمين في أوروبا، مثل الشيوعية. وهنا يمكن القول إن الكنيسة ساعدت الأحزاب اليمينية بشكل غير مباشر، في إضعاف خصومها من اليسار، مما أتاح لها الطريق إلى النمو.

 

فمثلًا يُنظر إلى البابا يوحنا بولس الثاني كأحد المساهمين في خلخلة الأسس التي قام عليها الاتحاد السوفياتي، فقد عاد البابا عام 1979، بعد شهور من توليه منصبه، إلى بولندا مسقط رأسه ومقر حلف وارسو، ليدعم اتحاد نقابات العمال المستقلة (تضامن) الرافضة للشيوعية، حيث بذل جهدًا في مساعدتها على الوصول إلى السلطة، لتصبح أول حكومة حرة في الكتلة الشرقية التابعة للاتحاد السوفياتي، وهناك قدم خطبته الشهيرة التي قال فيها "إن المسيح يحارب الشيوعية، لا تكونوا اشتراكيين... نريد الله في مدارسنا، نريد الله في منازلنا".

 

وكان البابا قد أصدر قبل سنوات كتابًا بعنوان "الذاكرة والهوية"، قال فيه إن "الشيوعية كانت شراً مستطيرًا كاد أن يبتلعنا".

 

لكل هذا الإرث، سيكون من المثير للدهشة الاعتقاد بأن صاحب الكرسي الرسولي فرنسيس سيعتذر عن التزامه بخط الفاتيكان خلال السنوات التي كان يخوض فيها معركة الكنيسة ضد الأيديولوجيات المعادية لها. لكن العالم ليس أبيض أو أسود، ولعل فرنسيس وجد طريقًا أخرى للتصالح مع ماضيه باستعارة بعض الأفكار التي حاربها في السابق، ربما في محاولة ضمنية للتكفير عن الماضي المأساوي الذي يُتهم بالمشاركة فيه.

 

رأى فرنسيس إمكانية التصالح مع الأفكار التي كان يخاصمها، والمتعلقة بلاهوت التحرير من خلال نزع الأيديولوجيا الماركسية عنه كما عبّر عن ذلك بنفسه. ولذلك بدأ تظهر في خطاباته ميلا نحو العدالة الاجتماعية، ونقدا للرأسمالية المتوحشة، وكذلك رفضا للاتجاهات اليمينية الحزبية المسيحية في أوربا خصوصا موقفها المناهض للمهاجرين، وهو في ذلك يتلمس بعض طرق وأفكار خصومه، من الرهبان الحمر.

 

وبالنسبة لماضيه مع النظام الفاشي، رشحت تصريحات كثيرة صدرت عنه تحاول أن تشرح موقفه، تستبطن بعض الاعتذار تقبلها البعض ورفضها بعض آخر، بحسب ما جاء في حوار له عن تلك الفترة يعترف فرنسيس بأن إدارته للأمور كانت قد اعترتها "العديد من الأخطاء.. فقد كنت في السادسة والثلاثين، وكان عليّ اجتياز مواقف عصيبة في ظل ظروف مجنونة. لقد كنت مندفعًا وسلطويًا، لكني لم أكن يمينيًا، لكن أسلوبي المتسلط تسبب في العديد من الأزمات".

 

فقد كان لاهوت التحرير، والذي تبناه الكثير من الآباء والقساوسة في أميركا الجنوبية، يدعو الكنيسة إلى لعب دور نشط في التحرر السياسي والاجتماعي للشعوب المضطهدة، خاصة الفقراء والمحرومين. وكان أنصار لاهوت التحرير يحاججون بأن رسالة الإنجيل معنية بمحاربة الخطيئة بكل بنيتها، ومعانيها، ومقدماتها، وهياكلها، بما في ذلك الفقر والظلم وانعدام المساواة.

 

زلزال في الفاتيكان

في الأسبوع الأول من يونيو/حزيران 2012، تلقى صحفيو جريدة "لا ريبوبليكا" الإيطالية طردًا يحمل وثائق سرية من مجهول قال فيها إن القبض على كبير خدم بابا الفاتيكان قبلها بأسبوع بتهمة سرقة ملفات سرية للبابا؛ كان بمثابة "كبش فداء" في مؤامرة تورط فيها مسؤولون بارزون.

 

حدث ذلك بعد أيام من التحفظ على باولو غابرييلي، كبير خدم البابا بنديكت السادس عشر، واعتقاله في 25 مايو/أيار بتهمة تسريب وثائق سرية من الفاتيكان إلى وسائل الإعلام.

 

يمكن القول إن قصة غابرييلي تسلط الضوء على جوانب مليئة بالتآمر والصراعات الداخلية في الفاتيكان، باعتباره إحدى المؤسسات الأكثر سرية وغموضًا في العالم.

 

فقد كانت الوثائق التي سربها تتضمن تفاصيل عن تهم بالفساد، وسوء الإدارة المالية، والصراعات الداخلية على السلطة، وهو ما كشف جانبًا من الكرسي الرسولي يندر أن يراه العالم الخارجي، بل ويستبعد تصوره. فقد رسمت الوثائق صورة عن الفاتيكان تجعله غارقًا في المحسوبية والواسطة، بما يهدد بتقويض سلطته الأخلاقية ورسالته للعالم باعتباره نبراسًا للاستقامة والنزاهة والأخلاق.

 

كشفت الوثائق كذلك عن فضائح مالية لأساقفة الإدارة المركزية للكنيسة المعروفة باسم "الكوريا الرومانية"، لم تخلُ من الابتزاز الجنسي! فقد أكد البابا بنديكت لاحقًا على وجود ما يسمى "لوبي المثليين" الذي استخدم هذه الوثائق في إطار حرب داخل الفاتيكان هدفت إلى حماية أعضاء اللوبي وعدم كشفهم للرأي العام.

 

كانت تداعيات الفضيحة هائلة، فقد فتحت الباب أمام مناقشات عميقة حول الحاجة إلى الشفافية وإصلاح الفاتيكان.

 

لكن بعد أقل من عام من تلك الفضيحة، وفي خطاب مفاجئ باللاتينية التي لا يتقنها الكثير من الكرادلة، أعلن البابا بنديكت عن استقالته. ألقى البابا خطابه أمام الأساقفة المقيمين في روما خلال يوم عطلة بالفاتيكان تذكارًا لاستقلاله عن إيطاليا عام 1929. شكل الخطاب صدمة للجميع، فهي الاستقالة الأولى منذ أكثر من 600 عام!

 

كان البابا بنديكت 

تسببت تداعيات الفضيحة داخل الفاتيكان في استقالة البابا بنديكت في أول استقالة بابوية منذ قرون (الفرنسية)

كانت فضائح الفاتيكان في العام السابق قد شكلت ثقوبًا سوداء في الثوب الأبيض للبابا الألماني الذي كان معلما، وفقيها في العلوم الدينية، ومفكرًا جلس على مقعده الوثير، تاركًا تلك الاهتزازات العنيفة تحيط به من كل اتجاه. وسط هذه الرياح العاتية، رأى البابا التقليدي أن يحط رحاله ويستقيل، تاركًا السفينة لقائد آخر ينتخبه الكرادلة، لعل الكنيسة تجد في قيادته برًا آمنًا يقيها تلك الأمواج المتلاطمة.

 

أما في بوينس آيرس، فقد أثنى فرنسيس، الذي كان قد رُسم كاردينالًا قبل ذلك بنحو 12 عامًا، على قرار البابا، معتبرًا إياه عملًا إصلاحيًا تم اتخاذه بعناية، وهو للمفارقة الموقف الذي عرضه فيلم "البابوان" بشكل مغاير.

 

بعدها، قضى فرنسيس ما يقرب من أسبوعين في الاستعداد للسفر إلى روما ليقضي ثلاثة أسابيع هناك ليحضر مجمع انتخاب بابا الفاتيكان، حيث استقبل تذكرةَ طيران على درجة رجال الأعمال استبدلها بالدرجة العادية، مُقررًا الجلوس في أكثر المقاعد سعة أمام مخرج الطوارئ كي لا يعاني من آلام عرق النساء (وهو ألم عصبي ناتج عن إصابة أو تهيج في العصب الوركي) في رحلة سفره الطويلة من الأرجنتين إلى إيطاليا.

 

وصل فرنسيس إلى روما لحضور مجمع انتخاب البابا ونزل في فندق متواضع، كان في السابق جامعة يسوعية.

 

بدأت الصحافة الإيطالية والعالمية تتداول أخبار "بورصة المرشحين للباباوية"، مستبعدة فرنسيس الذي كان قد تجاوز السادسة والسبعين، ولكن كان يُنظر إليه كصانع ألعاب محترف في قرار المجمع الانتخابي، فهو صاحب رأي بين زملائه الكرادلة في أميركا الجنوبية، كما كان مرشحًا للباباوية في عام 2005 بعد وفاة البابا يوحنا بولس الثاني.

 

ووسط هذه التكهنات، كانت طائرات الكرادلة تواصل الهبوط من وجهات مختلفة في العالم حتى بلغ عددهم 151 كاردينالًا. ورغم أن هذا هو نفس عدد الكرادلة الذين شاركوا في التصويت لانتخاب البابا بنديكت عام 2005، فإن الأمر كان مختلفًا هذه المرة، فلم تكن هناك جنازة تقصر عند هيبتها النقاشات، وفي الوقت ذاته غادرت الطائرة التي تقل البابا بنديكت في مشهد سينمائي بثه التلفزيون الإيطالي، لتدخل الكنيسةُ عصرَ المقعد الشاغر، وتبدأ رحلة البحث عن البابا الجديد.

 

في انتظار الدخان الأبيض

الفاتيكان يختار البابا من آخر العالم

 

الدخان الأبيض المتصاعد من مدخنة كنيسة سيستينا كان إعلانًا عن انتخاب البابا فرنسيس

الدخان الأبيض المتصاعد من مدخنة كنيسة سيستينا كان إعلانًا عن انتخاب البابا فرنسيس (الفرنسية)

استغرق التصويت على البابا الجديد ثلاثة أيام من انعقاد المجمع الانتخابي للفاتيكان، واستمر الشد والجذب داخل مجمع الكيان الذي يحاول التعافي من فضيحة مربكة عقّدت عملية اختيار البابا الجديد.

 

فمن ناحية، توافق الجميع على الحاجة إلى إدارة بالفاتيكان لا تحيا من أجل ذاتها بل من أجل تقديم خدمة أفضل للكيان كله، إلا أن أساقفة الكوريا الرومانية، أو حكومة الفاتيكان، كانوا أكثر الراغبين في إبقاء الأوضاع كما هي عليه.

 

بعد نهاية الاقتراع، وبالقرب من مدخل كنيسة السيستين، اشتعلت الأنوار البيضاء صاعدة مع أدخنة الموقد، تشير إلى انتخاب حبر أعظم جديد. هتفت الجموع المحتشدة انتظارًا لنتيجة الاقتراع، ورغبة في تحية البابا الجديد في تلك اللحظة الفارقة من عمر الفاتيكان.

 

"مساء الخير".. قالها البابا الذي اختار لنفسه اسم فرنسيس، باللغة الإيطالية، التي طالما سمعها من والده وأعمامه الذين هاجروا من إيطاليا إلى الأرجنتين، وتابع مبتسمًا "لقد اضطر إخواني الكرادلة للذهاب إلى آخر الأرض كي يحضروا أسقفًا لروما".

 

طلب البابا من أساقفة الأرجنتين عدم حضور حفل تنصيبه والتبرع بهذه المبالغ الباهظة لمحتاجي البلاد. كما قرر ألا يقيم في النزل الباباوي الفخم مفضلًا سكنًا عاديًا مخصصًا للكرادلة.

 

وبعد أسابيع من تنصيبه، صدم البابا التقليديين حين زار سجن اليوفنيل ليتمم صلوات القداس ويغسل الأرجل "كما فعل السيد المسيح"، إلا أن طقس غسل الأرجل هذا، شمل أيضا نساءً، بل وغير مسيحيين، بمن فيهم بعض المسلمين، بعدما كان مخصصًا للرجال فقط طوال السنوات السابقة.

   

كان هذا الأسلوب مختلفًا تمامًا عن البابا بنديكت، وحتى البابا يوحنا بولس الثاني، لكن إبراهيم ناجي، مترجم ومحرر سيرة البابا فرنسيس باللغة العربية بعنوان "طبيب النفوس"، يقول للجزيرة نت إنه "لا يمكن مقارنة البابا بنديكت بالبابا فرنسيس"، ويتابع موضحًا "الأول يمثل التيار العقائدي المحافظ في الكنيسة الكاثوليكية، فقد ظل بنديكت يقود مجمع العقيدة والإيمان، وهي الدائرة الكاثوليكية المنوط بها الحفاظ على العقيدة والتقليد الكاثوليكي الأصيل، لسنوات طويلة، بينما يمثل فرنسيس التيار الرعوي -أي الذي يعمل مع الرعية بشكل مباشر- المنفتح على قبول ورعاية الفئات المهمشة، والتي سنحت له سنوات خدمته الخمسون بالأرجنتين قبل انتخابه حبراً أعظم للكنيسة؛ بأن يتعلم من الناس أكثر من أن يُعلم الناس".

 

في مواضع مختلفة من سيرته، وفي مقابلاته، يتحدث فرنسيس عن "إعادة بناء بيت الرب" كفكرة مركزية في حياة القديس الذي تسمى باسمه، ولعله يتعامل مع الفاتيكان بهذه الروح.. إعادة بنائه كمؤسسة، وإعادة الحياة إلى علاقته بالناس، مسيحيين وغير مسيحيين.

 

فمثلًا، اعتمد آباء الفاتيكان في الأوقات السابقة على "مجمع الإيمان والعقيدة"، وهي المؤسسة والأداة الرئيسية للبابا لممارسة سلطته فيما يتعلق بضمان الولاء العقائدي للقساوسة والفلاسفة والكيانات الكاثوليكية المختلفة، إلا أن عصر فرنسيس شهد تحجيمًا لصلاحيات المجمع، وأصبحت تدخلاته بالتبعية أقل تأثيرًا على خط الفاتيكان.

 

لقد عمل البابا فرنسيس على تقويض سلطة مجمع الإيمان والعقيدة، مفضلًا التشاور مع مستشاريه في القضايا العقدية بدلًا من الاعتماد على هذه الأداة الحديدية، وهو ما ينظر إليه البعض باعتباره إضعافًا لتراتبية المؤسسة.

 

ظهر هذا الأمر في مواقف كثيرة، ففي عام 2017، قرر البابا تكليف أسقف للخدمة في نيجيريا، لكن بعض الكهنة هناك رفضوا القرار، وهو ما أغضبه بشدة واتهمهم بأنهم "يهاجمون الكنيسة ويريدون تدميرها ويقترفون خطيئة مميتة". لكنْ بعد بعض الضغوط، عاد البابا ليقبل استقالة الأسقف ذاته، ليتساءل الجميع: من المسؤول الحقيقي عن اختيار الأساقفة؟ هل هو البابا، أم الحكومة الوطنية، أم حشد صاخب من المحتجين الذين يرفضون الانصراف؟

 

البابا فرنسيس أثناء عمله كاردينالًا في الأرجنتين عام 2009

البابا فرنسيس أثناء عمله كاردينالًا في الأرجنتين عام 2009 (أسوشيتد برس)

فقد كان البابا منفتحًا على إعادة النظر في تعاليم الكنيسة بعد فترة سعى فيها يوحنا بولس الثاني وبنديكت، والعديد من الأساقفة الذين عُينوا في فترات قيادتهما للكنيسة، إلى تجنب الصدام مع تعاليم الكنيسة؛ من خلال التحقيق أو حتى معاقبة اللاهوتيين الذين تحدثوا عن قضايا مختلفة، مثل علاقة الكنيسة بالأديان غير المسيحية؛ أو طبيعة الإله. وفي الوقت نفسه، حاول الأساقفة اختزال القضايا العميقة من خلال تكرار الإجابات الفاتيكانية المحفوظة في قضايا بعينها.

 

أمر آخر ظهرت فيه سلطة الفاتيكان المتقلصة، هو الاتفاق الذي عقده مع حكومة الحزب الشيوعي في الصين، والذي منح بموجبه الحكومة الصينية صلاحيات أوسع في اختيار الأساقفة، وهو الأمر الذي لم يُعمل به من قبل في تاريخ الكرسي الرسولي. ورغم اعتراض الكثير من التقليديين على هذا التوجه، فإن مؤيديه يقولون إن فرنسيس قبِل التنازل عن بعض الاستقلالية في اختيار الأساقفة التي سعى الفاتيكان جاهدا لتحقيقها، في سبيل تحقيق مصلحة أشمل ومنفعة أعمّ.

 

القفز في المجهول

تبدو مسايرة المتغيرات اتجاها حاكما في سلوك البابا وملهمة لتصرفاته، فبينما يرى المحافظون في الكنيسة أن مصلحتها تكمن في الحفاظ على تقاليدها العتيدة، رأى البابا المصلحة في تقريب الكنيسة من البعيدين عنها، وإعادة صياغة خطابها بما يتناسب مع العصر، في الحدود التي يسمح بها المعتقد الكنسي.

 

لكن الأمر، في بعض الأحيان، كان أكثر من مسايرة، بل قفزة بالمؤسسة إلى المجهول، فخلال رئاسته أساقفة الأرجنتين، عارض قانونًا يسمح بتقنين زواج المثليين، وهو ما جعل مسؤولي الأرجنتين الحكوميين والبرلمانيين يصفونه بأنه فعلٌ "من زمن محاكم التفتيش"، لكن مع وصوله إلى البابوية، بدأ البابا في اتخاذ موقف أقل حدة.

 

لنفهم الأمر بشكل أفضل، يمكننا القول إن التيار السائد في الكنيسة الكاثوليكية يرى أن "منح البركة" الذي يقوم به الكهنة والقساوسة يجب أن يكون للمؤمنين حصرا، وأن من يعيشون في أطر لا تقبلها الكنيسة، لا يستحقون الحصول على هذه البركة. من جهة أخرى، يرى البابا فرنسيس وتياره داخل الكنيسة أن مفهوم البركة ليس منحة في حد ذاته، بل مساعدة للخلاص، ولا ينبغي منعها عمن أرادها.

 

لذلك، فبعد 11 عامًا من تنصيبه، وتحديدًا في ديسمبر/كانون الأول 2023، أصدر بابا الفاتيكان وثيقة يسمح من خلالها بمنح البركة للأزواج "المثليين" فرادى، بلا مباركة لرباطهم أو علاقتهم، وخارج أي طقوس كنسية ترتبط بالزواج.

 

يُفتتح إعلان الفاتيكان بمقدمة في "المعنى الرعوي للبركات"، مما يسمح "بإثراء معناها التقليدي" من خلال تأمُّلٍ لاهوتي يقوم على الرؤية الرعوية للبابا فرنسيس. والهدف هو الوصول إلى إمكانية "منح البركة للأزواج الذين يعيشون أوضاعًا غير نظامية والأزواج المثليين، دون الموافقة على وضعهم أو تغيير تعليم الكنيسة الدائم حول الزواج بأي شكل من الأشكال".

 

خلّفت الوثيقة الفاتيكانية عواصف من الغضب على البابا بين الأوساط المحافظة، ولكنها لاقت ترحيبًا من بعض الاتجاهات اليسارية والنسوية. قبل ذلك، وحينما سئل في يوليو/تموز 2013 عن رأيه في "المثليين"، حاول أن يجيب بدون أن يصطدم مع المؤسسة، متسلحا بجواب السيد المسيح قائلا "ومن أنا حتى أدينهم؟".

 

البابا فرنسيس يتحدث خلال أحد أوائل خطاباته العامة بعد تنصيبه في مارس/آذار عام 2013

البابا فرنسيس يتحدث خلال أحد أوائل خطاباته العامة بعد تنصيبه في مارس/آذار عام 2013 (رويترز)

وبينما يرى اتجاه واسع من الكاثوليك في أفعال البابا ابتعادًا عن العقيدة الكاثوليكية، أو استجابة لضغوط، أو حتى خرفًا بحكم السن، يعتقد آخرون أن خطوة البابا تُجاري هذه التوجهات الجديدة والتيارات الثقافية التي تصارع المفاهيم الدينية السائدة، وهي ضرورة يجب أن يمضي فيها الفاتيكان.

 

وبعيدا عن هذه الآراء تعلم الكنيسة أن سر الزواج المسيحي إذا كسر، ستذهب الكنيسة إلى المجهول وقد تنفرط أسرار أخرى، مما يضع الكنيسة في مخاطرة غير مأمونة العواقب، ولعل هذا الإدراك كان وراء أن يصرّ البابا على أن تعاليم الكنيسة واضحة فيما يتعلق برفض أمور مثل استئجار الأرحام (أو التخصيب خارج الرحم)، أو ترسيم المرأة كاهنة.

 

أما أحد أهم المواقف التي عبر فيها البابا عن توجهات قد لا تتفق كثيرًا مع المواقف التاريخية للكنيسة الكاثوليكية، فهو موقفه من المذاهب المسيحية الأخرى، بل والأديان الأخرى، ومنها الإسلام.

 

الكوميديا الإلهية والإسلام

دانتي يضع الإسلام ورموزه في الدركات السفلى من جحيمه، فماذا ترى الكنيسة؟

 

صورة للشاعر الإيطالي دانتي أليغيري في كاتدرائية أورفيتو، في إيطاليا

صورة للشاعر الإيطالي دانتي أليغيري في كاتدرائية أورفيتو، في إيطاليا (شترستوك)

في مارس/آذار 2021، وبينما كان العالم يستفيق من محنة وباء كورونا، أرسل البابا فرنسيس رسالة إلى أتباعه المؤمنين احتفالًا بالذكرى المئوية السابعة لوفاة شاعر فلورنسا العظيم، وأحد أهم شعراء الكاثوليكية: دانتي أليغييري. يحكي البابا في رسالته قصة حياة دانتي، ويتحدث طويلًا ويقتبس كثيرًا من أشهر كتبه وأهمها "الكوميديا الإلهية"، وقد كانت له رؤية سلبية عن الإسلام.

 

وقد خلصت دراسات متعددة، إن رؤية دانتي للإسلام، لا تعكس فقط رؤية الكنيسة الكاثوليكية له في العصور الوسطى، بل ربما أثرت على هذه الرؤية وساهمت في صياغتها لقرون، وصولا إلى ستينيات القرن الـ 20 وإلى وقت لاحق، ربما لأنها مصاغة لغة أدبية وشعرية، إذ تُعد درة الإنتاج الأدبي الأوروبي في بدايات عصر النهضة.

 

فكان لها نفوذ قوي على وجدان الكثيرين، وهو ما يعبر عنه إدوارد سعيد في كتابه "الاستشراق" بطرق مختلفة. وقد أدى الالتقاء الأوروبي بالشرق بهذه الطريقة، ومعرفة الأوروبيين بالإسلام عن طريق دانتي والكتابات المشابهة إلى "تحويل الإسلام إلى رمز للغريب الذي نشأت الحضارة الأوروبية كلها، من العصور الوسطى فصاعدًا، لمواجهته"، كما ينقل سعيد في "الاستشراق".

 

اللافت أن دانتي يضع الإسلام وأهم شخصياته ورموزه في الدركات السفلى من جحيمه، بينما يضع مَن يعتقد أنهم أفادوا أوروبا من فلاسفة المسلمين وحكامهم، مثل ابن سينا وابن رشد وصلاح الدين الأيوبي، في وضع مخفف من الجحيم، دون أن يدخلوا الفردوس إذ لم يُعمّدوا تحت لواء المسيح.

 

يمكن القول إن هذه الصورة المختزلة، التي انتقدها إدوارد سعيد بلسان حاد، تعبّر إلى حد كبير عن الرؤية التي شوهد بها الإسلام من العيون الأوروبية الغربية.

 

كان البابوات عبر العصور يكررون اقتباسات دانتي، ويؤكدون على قيمته، لا كشاعر فقط، بل كمعلم للقيم والمبادئ.

 

بل إن هذه الرؤية وجدت طريقها إلى المناهج التعليمية في أوروبا. فطبقًا لأحد المعلقين الإيطاليين، يقرأ الطلاب في المدارس "جحيم" دانتي، ورغم أنهم لا يدرسون ما قاله بشأن نبي الإسلام ودينه، فإن المعلمين "يتأكدون من أن يتعرف الطلاب على ما قاله بشأن النبي محمد" حتى لو لم يكن ضمن مناهج الدراسة الرسمية. لكنْ ببعض التعمق في خطاب الكنيسة، يمكن الوصول إلى نتيجة أكثر عمقًا بشأن رؤية الكاثوليكية للإسلام.

 

من المعروف أن البابا بنديكت السادس عشر، سلف البابا فرنسيس الحالي، كان شديد الإعجاب بدانتي، وهو صاحب المحاضرة المشهورة التي اعتُبرت مسيئة للإسلام، والتي ألقاها في سبتمبر/أيلول 2006 في جامعة ريغنسبورغ بألمانيا. في محاضرته قال البابا "أرني ما الجديد الذي جاء به (النبي) محمد، لن تجد سوى الشر فقط! مثل أمره بنشر الإيمان الذي يدعو إليه بحد السيف". وأشار إلى أن العقيدة المسيحية تقوم على المنطق، في حين لا تنبني العقيدة الإسلامية على العقل أو المنطق".

 

وهي الكلمات التي تسببت في غضب كبير واحتجاجات واسعة عمّت العالم الإسلامي، وتسببت في إيقاف الحوار اللاهوتي مع الأزهر الشريف لسنوات. تشير هذه المحاضرة إلى أن الرؤية الدانتية التي تكونت للإسلام في العصور الوسطى، ما زالت تفرض نفسها على اتجاه معتبر من رجال الدين، ويبدو أن البابا بنديكت كان قريبًا من هذا الاتجاه.

 

والعجيب أن دانتي بحسب ما أثبت المستشرق الكبير الأسباني أسين بلاثيوث في بحثه "الأخرويات الإسلامية في الكوميديا الإلهية" قد تأثر بالتصوير الإسلامي للآخرة ويبدو أنه كان معجبا به.

 

تقريبا يمكن القول إن شيئا شبيها بذلك وقع مع البابا بنديكت، فالقرارات التي اتخذها بنديكت أثناء حبريته تشي بأنه كان يحمل إعجابًا بالإسلام بقدر التحامل الذي يبدو عليه، ففي مقال بعنوان "البابا والإسلام" نُشر في مجلة "نيويوركر" وكتبته جين كريمر في ربيع عام 2007، بعد أشهر قليلة من محاضرته المسيئة للإسلام، أشارت الكاتبة إلى أن البابا كان يحلم بأن ينقي الكنيسة الكاثوليكية وينظمها على غرار الإسلام.

 

فالبابا، بحسب مقال النيويوركر، يرى في الإسلام دينًا يؤثر على كل جوانب حياة معتنقيه، وهو ما ينقص ممارسة الدين في الغرب بشكل عام، بمعنى أنه يريد كاثوليكية شاملة، توازي الإسلام الشامل. وهذه التناقضات تبدو عجيبة وقد تبدو كذلك غير مستبعدة.

 

البابا فرنسيس في مشيخة الأزهر أثناء لقاء الإمام الأكبر أحمد الطيب في أبريل/نيسان 2017

البابا فرنسيس في مشيخة الأزهر أثناء لقاء الإمام الأكبر أحمد الطيب في أبريل/نيسان 2017 (أسوشيتد برس)

وعلى كل حال جاء البابا فرنسيس ليحاول ترميم الشروخ التي تركها سلفه، فعمل على زيارة الشرق الأوسط ومراكزه الإسلامية عدة مرات، ووقّع وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك مع الإمام الأكبر الشيخ الدكتور أحمد الطيب في أبو ظبي عام 2019.

 

وينظر إلى هذه الوثيقة كامتداد لآراء المجمع الفاتيكاني الثاني في الستينيات، الأكثر انفتاحا في تاريخ الفاتيكان.

 

فقد شكلت وثائق المجمع تغيرًا جذريًا في علاقة الكنيسة الكاثوليكية بالإسلام، والأديان الأخرى، إذ اعتبر أن غير المؤمنين يدخلون في تعداد شعب الله، سواء كانوا من اليهود أو المسلمين أو حتى الوثنيين، ووصفهم بأنهم "أناس يتجهون صوب الله من نواحٍ شتى، من بينهم ذلك الشعب اليهودي الذي قبل المواعيد وأُعطي العهود والذي ظهر المسيح منه.. وأيضًا أولئك المسلمون الذين يعترفون بالخالق، ويؤمنون إيمان إبراهيم، ويعبدون الإله الواحد الذي سيدين البشر في اليوم الآخر". وأخيرًا يقول المجمع إن الكنيسة "ليست بعيدة عن الوثنيين الذين يفتشون عن الله من وراء الصور".

 

لكنْ ظل أبرز النقد الذي يوجَّه إلى هذه الوثيقة أن الكلام اتجه إلى الحديث عن المسلمين لا عن الإسلام، وهو ما اعتبره البعض اعترافًا منقوصًا. إلا أن وثائق هذا المجمع وغيره ظلت دافعًا للبابا فرنسيس إلى الانفتاح على الحوار، ولعل ذلك تسبب في جدل كبير أثناء صعوده داخل الكنيسة في بوينس آيرس، وحتى وصوله إلى سدة الكرسي الرسولي لبطرس في روما. ومن ضمن الجدل الذي تعرض له البابا فرنسيس خلال رحلته كان ذلك المتعلق بعلاقته بالنساء.

 

البابا والمرأة

البابا الذي ولد في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، عاش معظم تجاربه الشخصية ككاهن في فترة كان المرشحون للكهنوت عادة ينضمون إلى السلك الكنسي في سن مبكرة، ويعيشون في بيئة يُحدد فيها التفاعل مع الجنس الآخر بشدة، لدرجة أنهم كانوا يمتنعون عن النظر إلى النساء، وهو الانضباط المعروف في لغة العالم الكهنوتي باسم "حراسة العيون".

 

لكن فرنسيس الذي كان قد حصل على شهادة في الكيمياء، عمل في فترة مبكرة من شبابه تحت إدارة إيستر باليسترينو دي كارياجا، وهي امرأة شيوعية من باراغواي هربت من نظام الدكتاتورية العسكرية في بلادها واستقرت في بوينس آيرس، ليصبح فرنسيس أول بابا في تاريخ الفاتيكان يقضي فترة من حياته في العمل تحت إمرة امرأة.

 

وقد لعبت دي كارياجا دورًا مؤثرًا في حياة فرنسيس، فحسب تصريحات صحفية له قال إنها "حفرت في ذاكرتي أهمية الانتباه إلى التفاصيل، والعمل معها كان أحد أفضل الأشياء التي فعلتها في حياتي"، وتابع قائلًا إنه يدين "بالكثير لتلك المرأة العظيمة".

 

وقبل ذلك كانت جدته روزا، فقد علمته اللغة الإيطالية إذ كانت تخشى أن تذوب هويته في الأرجنتين، خاصة أن والده كان يحدثه بالإسبانية ليندمج مع المجتمع، لكنه عاش مع جدته معظم طفولته وقضى معها لحظاتها الأخيرة ممسكًا بيديها في سكرات الموت.

 

تمر سنوات طويلة ولا تغادره ذكرى جدته، لدرجة أنه قال حين صار بابا للفاتيكان إن "النساء يحمين العالم ويُبقينه حيًا". وبعد انتخابه بفترة وجيزة، أرسل إليه الرئيس الأميركي الراحل جيمي كارتر رسالةً تذمر فيها من الحدود التي تفرضها الكنيسة على النساء في المناصب القيادية.

 

وفي نهاية أبريل/نيسان 2023، أراد البابا فرنسيس أن يحرز تقدمًا حين أبدى موافقته على السماح للنساء بالتصويت خلال اجتماع عالمي للأساقفة عقد في أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، قبل أن يسمح للنساء بشغل بعض المناصب الاستشارية في القصر الرسولي.

 

سيدة عراقية ترفع صورة البابا فرنسيس أثناء انتظارها وصوله إلى بغداد في مارس/آذار 2021

سيدة عراقية ترفع صورة البابا فرنسيس أثناء انتظارها وصوله إلى بغداد في مارس/آذار 2021 (رويترز)

لكن ذلك لم يحمه من الانتقادات، ففي مقال بمجلة "التايم" انتقد الكاتب جون ألين موقف البابا تجاه النساء، مؤكدًا على إصراره بشأن عدم رسامة النساء كهنوتيًا. ويرى الكاتب أن "جدار الشعبية الكاسحة يحمي البابا من الانتقادات" رغم أنه لم يحرز الكثير في هذا الصدد. تزعج هذه الشعبية المحافظين الذين طالما رأوا في بعض الآباء السابقين، مثل يوحنا بولس الثاني، رجلًا يتمتع بشعبية جارفة لم تمنعه من الالتزام بالخط الكاثوليكي التقليدي، بينما حصد فرنسيس تلك الشعبية وهو يناور حول هذا الخط.

 

لكنْ إذا كانت باباوية فرنسيس قد أحبطت طموح النسويات، فإنها تصدت للاعتداءات الجنسية التي لم يكن قد تعامل معها البابا السابق. فقد قرر البابا فرنسيس عزل كاردينال واجه اتهامات بالاعتداء الجنسي على قُصّر وبالغين، نفاها الكاردينال كلها. وفي عام 2019، وضع معايير تتطلب من الكنيسة سماع الأشخاص الذين يتهمون الكهنة بالاعتداء الجنسي، مما يضمن أن يتم "الترحيب بهم والاستماع إليهم ودعمهم"، بدلا من دفن الرؤوس في الرمال والانحياز إلى الكهنة.

 

تبدو باباوية فرنسيس للكثيرين وكأنها استعادة للشعبية الباباوية في ظل تناقص الدور الذي يلعبه الدين في الغرب، ولكنها تبدو لآخرين محاولة للدوران حول التقاليد، كرقصة التانغو، فلا هو يكسرها ولا هو يلتزم بها تمامًا، وكأن باباويته محاولة لرسم طريق وسَطٍ بين مشروع التقليديين الذي تركه بنديكت وبين ثورية الإصلاحيين، التي تعني الاستجابة لهذا الانقضاض على الإرث المؤسسي الكاثوليكي الروماني.

 

ما بعد نهاية رقصة التانغو

تعبّر محاولات البابا فرنسيس الكثيرة للتصالح مع العصر عن طبيعة شخصيته وروحه الانفتاحية أكثر مما تعبر عن أفكار تجديدية يحملها. ولذلك، يقف البابا دومًا في منتصف الطريق كوسيط يبحث عن التوازن في عالم مضطرب. لكن هذا التوازن كثيرًا ما يأتي على حساب المضطهدين والمظلومين.

 

فمثلًا، يبدو موقف البابا فرنسيس من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منسجمًا مع كافة مواقفه السابقة. ولا نقصد بذلك موقفه من العرب والمسلمين، الذي ربما ينظر إليه باعتباره أكثر انفتاحًا من سابقيه، لكنها تأخرت قليلا، ولم تكن بالحسم الذي كان يُتوقع من قائد ديني كبير قادم من أميركا الجنوبية، التي اعتادت أن تُسمع إسرائيل نبرة عالية في النقد وتريها من نفسها معارضة صاخبة لجرائمها.

 

في مقال أفردته مجلة "نيويوركر" لموقف البابا فرنسيس من الحرب الإسرائيلية في غزة، كتب بول إيلي أن القصر الرسولي شهد جدلًا حول الموقف من إسرائيل والفلسطينيين.

 

ففي 13 فبراير/شباط 2024، تحدث سكرتير دولة الفاتيكان، الكاردينال بيترو بارولين، الذي كان يلاحقه الصحفيون أثناء مغادرته إحدى الفعاليات في روما، عن الضربات العسكرية الإسرائيلية على غزة، وقال: "إن حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، الذي تم التذرع به لتبرير هذه العملية، يجب أن يكون متناسبا، ومع سقوط 30 ألف قتيل فهو بالتأكيد ليس كذلك".

 

وسرعان ما أصدرت السفارة الإسرائيلية لدى الفاتيكان بيانا باللغة الإيطالية وصفت فيه تصريحات بارولين حول الرد "التناسبي" بأنها "مؤسفة".

 

كان البابا فرنسيس قد ظهر يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بعد يوم واحد من هجوم المقاومة الفلسطينية على المستوطنات الإسرائيلية في محيط قطاع غزة، ليقول "فلتتوقف الهجمات والأسلحة من فضلكم، يجب أن يكون مفهوما أن الإرهاب والحرب لا يؤديان إلى أي حل، باستثناء موت ومعاناة العديد من الأبرياء". وفي الأسبوع التالي أكد على "حق الذين يتعرضون للهجوم في الدفاع عن أنفسهم"، وطلب "إطلاق سراح الرهائن فورا".

 

ثم دعا سكرتير البابا مرة أخرى حركة حماس إلى إطلاق سراح الرهائن، لكنه حذر من أنه "خلال الدفاع المشروع لإسرائيل عن النفس، لا ينبغي تعريض حياة المدنيين الفلسطينيين الذين يعيشون في غزة للخطر". ودعا البابا فرنسيس خلال صلاة الأحد المسماة صلاة التبشير الملائكي، يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى وقف إطلاق النار قائلا: "توقفوا أيها الإخوة والأخوات: الحرب دائما هزيمة.. دائما، دائما!".

 

البابا فرنسيس أثناء لقائه ببعض ممثلي الفلسطينيين في الفاتيكان في نوفمبر/تشرين الثاني 2023

البابا فرنسيس أثناء لقائه ببعض ممثلي الفلسطينيين في الفاتيكان في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 (غيتي إيميجز)

استمر البابا في محاولة الحفاظ على خيط رفيع بين جميع الأطراف. ففي 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وقّع أكثر من 400 حاخام وعالم منخرطين في الحوار بين الأديان على رسالة مفتوحة تحث فرنسيس على "مد يد التضامن مع المجتمع اليهودي".

 

وفي الأسبوع التالي، التقى فرنسيس عشرات من أقارب الأسرى الإسرائيليين في غزة، ثم التقى 10 من أقارب الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل أو سجنتهم منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول. وبعد خروجهم من الاجتماع، قال الفلسطينيون للصحفيين إن فرنسيس تحدث عن الحملة الإسرائيلية بوصفها "إبادة جماعية"، بينما نفى المتحدث باسم الفاتيكان في وقت لاحق أن يكون البابا قد فعل ذلك.

 

ثم ذكرت صحيفة "واشنطن بوست" بعد ذلك أن فرنسيس قال للرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، خلال مكالمة هاتفية في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إنه "من الممنوع الرد على الإرهاب بالإرهاب". وفي رسالة إلى "إخوته وأخواته اليهود في إسرائيل"، بتاريخ 2 فبراير/شباط 2024، كرر البابا فرنسيس أن "العلاقة التي تربطنا بكم هي علاقة خاصة وفريدة، دون أن تحجب بطبيعة الحال العلاقة التي تربط الكنيسة بالآخرين والالتزام تجاههم أيضا".

 

لكن إذا كانت إسرائيل قد رأت في خطابات البابا ميلًا نحو الفلسطينيين، فإن الفلسطينيين رأوا في كلامه حلولًا دبلوماسية لا تعبر عن حجم المأساة التي يعيشونها. كذلك، تُذكّر مواقف البابا من العدوان على غزة بموقفه من الغزو الروسي لأوكرانيا قبل عامين، إذ رفض البابا اعتبار روسيا دولة معتدية في هذه الحرب، فاضطر مسؤولو الفاتيكان للدفاع عنه قائلين: إنه كان يأمل أن يعمل وسيطا في عملية سلام مستقبلية.

 

غير أن مواقف البابا لم تنته حينها، إذ طالب في مارس/آذار الماضي أوكرانيا بالتحلي بالشجاعة ورفع العلم الأبيض "الذي يعني الاستعداد للتفاوض لا الاستسلام"، وهو ما خلّف عواصف من الانتقادات.

 

يرى بول آيلي في مقاله بمجلة "نيويوركر"، أن موقف البابا فرنسيس من الحرب على غزة أصبح أكثر وضوحا، وهو يقف على أرضية أكثر صلابة. فعلى مدى 60 عاما، سعى الفاتيكان إلى بداية جديدة مع اليهودية، مدركا الجذور العميقة لمعاداة السامية في ماضي الكنيسة وصمت البابا بيوس الثاني عشر خلال الحرب العالمية الثانية على المحرقة النازية.

 

وقد تحدث البابا يوحنا بولس الثاني عن "الحق الطبيعي للفلسطينيين في وطن" خلال زيارة إلى الضفة الغربية في عام 2000؛ ومنذ ذلك الحين دعم الفاتيكان حل الدولتين، واعترف بدولة فلسطين في عام 2015. ومع ذلك، يبدو أنه حتى في هذه الحرب التي تدور رحاها في المكان الذي يعرفه المسيحيون بالأرض المقدسة؛ لا يلعب البابا الدور المنوط به.

 

يبلغ البابا فرنسيس الآن من العمر 86 عاما، وأعرب كثيرًا عن عدم نيته الاستقالة إلا إذا لم يعد قادرًا على أداء واجباته. لكنْ حتى لو جاوز البابا سن المئة في منصبه، فلا يزال أتباع الكنيسة الكاثوليكية قلقين من أن خليفته قد يضغط من أجل إغلاق المجال الذي ساهم في فتحه البابا القادم من الأرجنتين.

 

أما المستقبل، فيأمل البابا أن يكون للشباب دور أكبر في رسمه للكنيسة ويحاول مخاطبتهم بالأدوات في جعبته. ففي نهاية عام 2024 أعلن البابا فرنسيس أنه قرر الإعلان عن شخصيتين كاثوليكيتين من الشباب باعتبارهم قديسيْن. الأول هو الشاب جورجيو فراساتي، الذي توفي جراء شلل الأطفال قبل 100 عام عن عمر يناهز الرابعة والعشرين، بعد حياة قصيرة قضى الكثير منها في خدمة الكنيسة.

 

أما الثاني فهو كارلو أكوتيس، وهو مراهق إيطالي وُلد عام 1991 وتوفي عام 2006 بمرض سرطان الدم. كان كارلو قد علّم نفسه البرمجة واستغل جهده لخدمة الكنيسة. وقبل وفاته، أهدى كارلو آلامه ومعاناته للكنيسة وللبابا بنديكت السادس عشر، في طقس كاثوليكي يُرجى به دخول الجنة مباشرة، بلا سابقة حساب ولا عذاب. قرر البابا أن يكون الإعلان عن كارلو كقديس في صباح يوم الأحد 27 أبريل/نيسان 2025.

 

ورغم أنه لا يمكن التكهن بسهولة بما في جعبة البابا، أو بما قد تصبح عليه الكنيسة، فإن طريقة فرنسيس في القيادة لا يبدو أنها تسهم في إضعاف الكنيسة. فبحسب مقربيه الذين تحدثوا للصحفيين على مدار سنوات، يمكن القول إن فرنسيس قد يكون عنيدا، وقد يتدخل إلى حد بعيد في أعمال الأقسام الفاتيكانية، ولكن لا يعني كل ذلك أنه سيترك وراءه بابوية أضعف مما كانت عليه عندما دخلها.