تقرير أممي يؤكد تمرد الانتقالي عسكرياً على الشرعية مأرب تحتشد تضامناً مع غزة وتنديدا باستمرار حرب الإبادة الاسرائيلية مباحثات يمنية سعوديه بخصوص إجراءات سير تأشيرات العمرة اجراءات حكومية رادعة ضد محلات الصرافة المخالفة والمضاربين بالعملة في جميع المحافظات المحررة حشود هادرة بمحافظة تعز تنديدا بجرائم الابادة والتهجير بقطاع غزة الذكاء الاصطناعي يورط عملاق التكنولوجيا «تسلا» ويقودها للمحاكمة عبر القضاء كلاب آلية تنظف أحد الجبال المصنفة ضمن قوائم التراث العالمي رابطة اللاعبين المحترفين تكشف عن المرشحين لجائزة أفضل لاعب في الدوري الإنجليزي لشهر أكتوبر دولة خليجية تبدأ بسحب الجنسية من المئات من مطلقات مواطنيها الإنذار المبكر ينشر توقعات الطقس خلال الساعات الـ24 القادمة في 11 محافظة يمنية
تمثل السلفية في اليمن واحدة من الجماعات ذات الحضور الفاعل في المشهد الدعوي، منذ عودة مؤسسها الأول الشيخ مقبل بن هادي الوادعي، قبل ما يقرب من ثلاثة عقود، من أرض الحرمين، على إثر فتنة الحرم الشهيرة بقيادة جهيمان العتيبي.
لكن بعض أبرز رجالات هذه الدعوة وبعض كبار تلامذة الشيخ الوادعي -وبعد مرور عقد واحد فقط- وبسبب اختلاف البيئة الفكرية والدعوية عن بيئة "دماج" (مسقط رأس الوادعي ومنطلق دعوته)، أحدثت بدايات تحوّل في مسار التفكير، وأساليب العمل، بما يتناسب وظروف البيئة الجديدة، التي غدا يعيش فيها هؤلاء، أمثال: عبد المجيد الريمي، ومحمد المهدي، وعقيل المقطري، وعبد العزيز الدبعي، وعبد القادر الشيباني، ومحمد الحداء، وعبد الله بن غالب الحميري، وغيرهم.
وقد أدرك هؤلاء مدى البون الشاسع الذي يفصل بيئة الوادعي وذهنية مدرسته (الخاصة) عن الواقع وملابساته والمرحلة وتحدياتها، مما حرك لديهم الرغبة الجادة في تأسيس إطار مؤسسي يجمع شتات "الدعوة السلفية" وأنصارها، خارج معقلها (دماج) وبعيدا عن مؤسسها (الوادعي)، فكان الاتفاق على الإعلان عن جمعية "الحكمة" اليمانية في 1990م، كإطار عام يضم شتات السلفيين.
البدايات واستحقاقات التحوّل
غير أن هذا التحوّل لم يمض بسلام من قبل الشيخ الوادعي ومدرسته الفكرية، فبعد محاولات حثيثة هدفت إلى إثناء أولئك الشباب عن المضي في خطّهم التربوي والفكري الجديد؛ لم يجد الشيخ بدًّا من أن يخرِج ذلك الخلاف إلى العلن، في صورة حملات عنيفة متتابعة، عبر أشرطة مسجّلة وكُتب وسواها، شُنّت على الخارجين عن نص توجيهاته، متّهمًا لهم بأبشع التهم، ونابزًا لتوجههم الجديد بأبشع الأوصاف، مما دفع بهم إلى الردّ، عبر صفحات مجلة (الفرقان).
وربما بدا الأمر للمراقب أن الجمعية معنية بالاهتمام بالعمل الخيري والدعوي ودعم الأنشطة ذات التوجّه السلفي، بعيدًا عن البُعد الحركي، والنشاط السياسي، غير أن الأيام اللاحقة كشفت أن ذلك لم يخرج عن دائرة اهتماماتها، وإن بدا بدرجة ثانوية، كما كشفت عن مدى التفاعل الذي تجاوز إلى الحركي والتنظيمي، على نحو ما ستشير إليه هذه القراءة لاحقًا.
وبعد مرور مرحلة ليست بالطويلة حدث خلاف داخلي في الجمعية، سببه -حسب تصريح أحد قيادات جمعية الإحسان لصاحب هذه السطور- َرفْض بعض الإملاءات الخارجية من بعض الجمعيات المؤثّرة في الخليج، الهادفة لتعزيز التبعية للجمعية في بعض الاجتهادات، مما أسهم في تحويل نشاط جمعية ناشئة بحضرموت تسمى جمعية الإحسان الخيرية (تأسست عام 1413هـ 1992م في المكلأ) إلى إطار عام يشمل كل من لا يؤمن بمسار جمعية الحكمة، تلك التي غدت ذات اجتهادات تتسم بالمرونة السياسية، لا سيما فيما يسمّى باللعبة الديمقراطية ومفرزاتها، تبعًا لاتجاه جمعية إحياء التراث بالكويت -كما سيرد التفصيل-، وفكر الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، المشتهر بمرونته السياسية اللافتة.
ومع أن جمعية الإحسان كانت تعنى في بداية التأسيس بشئون محافظة حضرموت فحسب، ويقال إنها كانت قد اتفقت مع جمعية الحكمة -مع بداية ظهور بوادر الخلاف- على أن تظل غير قابلة للتنافس معها؛ إلا أن ذلك لم يتمّ عمليًّا، حيث أسست "الحكمة" لها فرعًا هناك، مما اضطّر "الإحسان" لتمتد إلى ربوع اليمن، حتى بلغ عدد فروعها (26) فرعًا ومكتبًا. وتميزت بعد ذلك كل جمعية برموز وأنشطة ومؤسسات. غير أننا في هذه السطور سنخصص الحديث لجمعية الحكمة اليمانية من زاوية التطوّر الفكري والسياسي.
جمعية الحكمة.. النشأة والتأسيس
بالنظر إلى زمن التأسيس، فإنه جاء بعيد إعلان الوحدة اليمنية، وهي الفترة التي شهدت إعلان العديد من الجمعيات والمراكز والجماعات، ذات التوجهات المتباينة، وميلاد عدد آخر من الأحزاب والتنظيمات، التي تلاشت عمليًّا باستثناء الأحزاب التقليدية العربية.
أما جمعية الحكمة فقد أعلنت عن نفسها في ذلك الحين، على أساس أن مركزها الرئيس هو مدينة تعز ( 256 كم) جنوب صنعاء؛ مع فتح فروع لها في بعض عواصم المحافظات، ولا سيما في إب، وحضرموت، وصنعاء. وكان أبرز المؤسسين: عمر عبد قايد، وعبد القادر الشيباني، ومحمد المهدي، وعبد العزيز الدبعي، وأحمد المعلّم، وأحمد معوضة.
والجمعية -في الواقع- امتداد عملي لجمعية "إحياء التراث" بالكويت؛ ومن القرائن الدالة على ذلك: إنشاء مجلة (الفرقان) الشهرية، في إشارة صريحة لتبعية فكرية وعملية لمجلة (الفرقان) الصادرة عن "إحياء التراث". و(الفرقان) اليمنية، -وإن توقفت بعد فترة- فإنما كان ذلك اكتفاء بالمجلة الأم (المنتدى)، ووفقا لحسابات داخلية في الجمعية. غير أن هذا العنوان (المنتدى) قد يبدو مشكلا؛ إذ إنه لا يستقيم مع القول بأن تبعية "الحكمة" لجمعية "إحياء التراث" بل يشير إلى اتجاه آخر يمثل "الإحسان"، تلك التي تتبع (المنتدى الإسلامي) في لندن، الذي يصدر مجلة (البيان) الشهرية، وهي المؤسسة التي تصنّف جمعية الإحسان عليها من الوجهة الفكرية والعملية. والحق أن التسمية بـ(المنتدى) ترجع إلى زمن تأسيس الجمعية عام 1990م، وصدور العدد الأول منها في 1991م، حين كانت "الدعوة السلفية" المتمثلة في الجمعيتين جماعة واحدة غير متمايزة، بيد أن التسمية بـ(الفرقان) جاءت بعد ذلك بسنوات، أي بعد أن حدث الانقسام بين الجمعيتين.
وقد ألمح الشيخ عبد القادر الشيباني الأمين العام الأسبق للحكمة في حوار أجرته معه (الفرقان) عن حجم مشاريع جمعية إحياء التراث الكويتية لدى جمعية الحكمة فقال: "الحقيقة جمعية إحياء التراث جمعية سلفية دعوية، تهتم بنشر منهج السلف، وتهتم بمساعدة المسلمين أينما كانوا، وتهتم بتصحيح عقائد المسلمين والتعاون بيننا وبينهم في جميع المجالات، ليس في مجال المشاريع فقط، نحن نتعاون مع جمعية إحياء التراث من بدء التأسيس".
وقال في معرض الامتنان: "بل عندما خرج صدام حسين من الكويت جاءنا وفد برئاسة رئيس جمعية إحياء التراث الشيخ طارق العيسى إلى اليمن واطلع على أحوال الجمعية، ومباشرة بعد عودته للكويت بدأ ينسق جهوده في إعانة إخوانه في اليمن، ثم بدأت الأعمال بيننا وبينهم تترى. ثمّ إن مجلة (الفرقان) اليمنية تابعت مجلة (الفرقان) الكويتية باستهلال نشر كتاب الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق (فصول في السياسة الشرعية) على حلقات مع مقدّمة تسويغية للنشر، أهمها الإشادة الكبيرة بالشيخ.
الأهدف بين الدعوي والخيري
لقد تركّزت كل جهود "الحكمة" على النشاط الدعوي والخيري بداية الأمر، وهذا ما نصت عليه الجمعية في أهداف نشأتها:
-التعريف بالعقيدة الصحيحة للسلف الصالح رضي الله عنهم، والتحذير من البدع والخرافات.
-إنشاء المشاريع الخيرية المختلفة ذات النفع العام، كالمساجد والمعاهد والمدارس والمستوصفات.
-تقديم المساعدات المختلفة ذات النفع الخاص للمحتاجين.
-المساهمة في إبراز التراث الإسلامي، تحقيقًا ونشرًا.
-التعاون والتنسيق مع الهيئات المحلية والإقليمية والعالمية ذات الأهداف المماثلة.
وقد سعت الجمعية لتحقيق أهدافها بجملة من المعاهد الشرعية، الخاصة بها، وإن تحوّلت فيما بعد إلى (مدارس) حكومية، استجابة لقانون يخضع كل مقررات التعليم الأهلي والخاص لإشراف وزارة التعليم، إلا أنها ظلت محتفظة بمناهجها الخاصة، إلى جانب المناهج الحكومية. كما تمتلك مراكز شرعية متخصصة، كما تمتلك أيضًا مركزًا ثقافيًّا يسمى مركز الكلمة الطيبة للبحوث والدراسات بصنعاء.
ويبدو أن طموح القائمين على الجمعية كان قد اتجه نحو الجموح، كما تبيّن عمليًّا، إذ كان لدى المؤسسين رغبة في تأسيس كلية شرعية تسمّى (كلية الفرقان للعلوم الشرعية)، تمثل مشروع نواة لجامعة سلفية في اليمن، حسبما صرّح به الأمين العام الأسبق للجمعية الشيخ عبد القادر الشيباني؛ غير أنه اتضح أن الفكرة لم تكن واقعية.
المنهج التربوي والفكري
لا يخرج المنهج التربوي والفكري لمدرسة "الحكمة" في بداياتها عن الاتجاه السائد في بلاد الحرمين، حيث التركيز على مباحث التوحيد والموقف الحدّي مع المخالف، حتى في إطار المدرسة السنيّة، بما في ذلك إخراج الأشاعرة والماتريدية من أهل السنة والوقوع في شرك احتكار مفهومي الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
أمّا الفكر السياسي فلم يكن قد خرج كذلك عن السائد في اتجاه هذه المدرسة، حيث التأكيد على العلاقة التقليدية مع الحاكم بعيدًا، عن فكرة المعارضة، ورفض الأحزاب. وأما الموقف من الديمقراطية، فاتسم في بداياته بالرفض الكامل الذي عرفته المدرسة السلفية في مرحلتها الأولى، والتي اشتهر منها كتاب (القول المفيد في أن دخول المجالس النيابية ينافي عقيدة التوحيد). ويتذكر صاحب هذه السطور أنه قد خاض في العام 1412هـ- 1992م، مناظرة جماهيرية مشهودة مع بعض رموز المدرسة (الشيخ عبد المجيد الريمي والشيخ حسين عمر محفوظ بحضور الشيخ محمّد المهدي) على خلفية تنسيق حزب التجمع اليمني للإصلاح مع حزب البعث – قطر اليمن (في ذلك الحين) على مواقف محدّدة.
ولعل خير ما يؤكّد ذلك –عدا بعض الكتابات والأحاديث المتفرقة لبعض رموز المدرسة وأبنائها- ما تبلور عنه الموقف من الانتخابات النيابية عام 1993م، حيث كان في غاية السلبية والتثبيط عن المشاركة في العملية الانتخابية، وتحريم حتى السكوت على معارضتها باعتبار أن الحرمة هي الموقف الشرعي الوحيد!!.
التحوّل السلفي.. الفكري والسياسي
للتحوّل السلفي في اليمن معلمان أساسيان يتمثلان في: التحوّل الفكري، ثمّ التحوّل السياسي، وذلك على النحو التالي:
أولاً معالم التحوّل الفكري:
من العسير أن يقال إن الفكر الإسلامي -بصورة عامة- يتسم بحالة وحيدة من الصرامة والحدّية، بحيث لا يأتي عليه التغيير، فلا شك أن مرونته تتيح له التغيير المنضبط في إطار الفروع. وإذا كان من غير المستغرب على جمعية كالحكمة أن تتطور فكريًّا وسياسيًّا، بل قد يكون ذلك نقطة مضيئة في مسارها؛ فإن جانبًا من هذه المراجعة قد يستدعي مراجعة جديدة يمكن وصفها بمراجعة المراجعة، وأعني بعض ما يتصل منها بالموقف السياسي، وأسباب تحوّله وملابساته.
وبمحاولة أولية لعقد مقارنة بين التوجّه الفكري في جانبه العقدي الذي ساد في تلك الحقبة، وبين ما آل إليه الوضع اليوم فسنلقى تحوّلاً هائلاً، حيث لم يبق من الفكر العقدي –في حقيقة الأمر- سوى جوهر مباحث التوحيد في المدرسة السلفية. وفي اعتقادي أن للعلاقة التي تربط جمعية الحكمة ونظيراتها خارج اليمن، وكذا بعض الشخصيات العلمية الداعمة لمسارها ماديًّا عن طريق مباشر أو غير مباشر أثرًا غير قليل في إبقاء شارة السلفية، في مجال التوحيد والعقيدة ظاهرة.
ونجد مرونة لافتة في التعامل مع أطياف العمل الإسلامي وغير الإسلامي. حتى تلك التي كانت تصنّف خارج دائرة السنّة كالزيدية والأشاعرة أو الماتريدية، فها هو ذا أحد أبرز قيادات المدرسة (الشيخ محمّد بن محمّد المهدي) يؤكّد في كثير من أحاديثه ألا مشكلة تحول دون الحوار والتآخي والتواصل مع الزيدية، مع تأكيده أنها فرقة شيعية، وأن عقيدتهم اعتزالية، لكن ذلك كله لا يؤثّر سلبًا على الأخوة الإسلامية مطلقًا.
وقد قدّر لي أن زرت مدينة إب في 2 ربيع أول 1429هـ -8 مارس 2008م –في إطار رحلة علمية أكاديمية- والتقيت على مدى يومين متتابعين بنخبة ممتازة من قيادة جمعية الحكمة في المدينة، كما دعيت إلى زيارة مؤسسات الجمعية، التي أبديت إعجابي بوضعها، نظرًا إلى ما تقدّمه من خدمة علمية ودعوية مقدّرة.
لقد شمل الحوار التأكيد على إعذار المخالفين من الأشاعرة وعدّهم جزءا لا يتجزأ من أهل السنة، والحق أن هذا مثّل رأي كل من شارك في الجلسة وفي مقدّمتهم الشيخ محمد المهدي، إلى جانب رفاقه. وخلافًا لما كان يدور من لغط عن الموقف من المخالف في إطار المدرسة السنيّة العامة كالإخوان المسلمين فقد أعلن المهدي أنه يعدّ الإخوان بل والمؤتمر الشعبي العام، وكل من عدا الشيعة من أهل السنة: "أهل السنة مفهوم أوسع من السلفية، فهم بالمفهوم العام يشملون المذاهب الأربعة، والتنظيمات الإسلامية الآن مثل جماعة الإخوان المسلمين بما فيهم "حزب التجمع في اليمن"، والأحزاب الأخرى مثل "حزب المؤتمر" بصفة عامة ممن لم يتبنوا العلمانية منهجا، والسلفيين وجميع المسلمين غير الشيعة".
والحق أن هذا التعميم جدّ جدير بالتوقف والنقاش، أمّا ما قد يبدو في حديثه من إقصاء لطائفة كبرى هي الشيعة، فلا يجوز أن يستدل من خلاله على إخراجهم من دائرة الإسلام، لكونه عدّهم خارج دائرة أهل السنة، فهذا لزوم ما لا يلزم! كيف ذاك وقد عُرِفت أطاريح الشيخ فيما يتصّل بالزيدية -وهي واحدة من فِرق الشيعة- بالرفق وحسن الظن والدعوة إلى الحوار والمناصحة والتآخي. والحق أن الشيخ المهدي يتميّز بحصافة نادرة في علاقاته وحواراته الفكرية، ولذلك يعوّل عليه -إلى حدّ بعيد- في تحقيق هدف الوحدة والائتلاف، برغم الخلاف.
ثانيا: معالم التحوّل السياسي:
وإذا كان ما تقدّم إشارة إلى جانب هام من التحوّل الفكري لدى مدرسة جمعية الحكمة؛ فإن التحوّلات السياسية أكثر مدعاة للتوقف والنقاش.
تقارب مع السلطة:
ومما يمكن الإشارة إليه في هذا السياق مراجعة الموقف من العلاقة التقليدية بالحاكم، تلك التي بدت متذبذبة في فترة سابقة بل كانت إلى المعارضة أقرب أحيانًا، على حين أننا نجدها في السنوات الأخيرة أقرب إلى الوفاق مع سياسات الحزب الحاكم. ولعلّ أبرز شخصية سلفية تمثّل الموقف العام لهذه المدرسة هو الشيخ محمّد المهدي، بوصفه أكثر الشخصيات تفاعلاً مع الحراك السياسي في البلاد، وأكثرهم حضورًا إعلاميًّا.
وقد سئل في حوارات صحفية أخيرة عن علاقة جمعيته بالسلطة المحلية فقال: "هي علاقة الرعية بالراعي، وعلى مبدأ السمع والطاعة في الخير، وفي المعصية لا سمع ولا طاعة... ولا أخفيك أنه قد توفر من المسئولين الصالحين في لواء إب ما لم يتوفر لمنطقة أخرى حسب معرفتي وعلاقتي".
وحين سئل عن الوضع الحالي ولا سيما في ظل الظروف المتوترة في المحافظات الجنوبية؟ أجاب:
"لست راضيًا عن هذا الوضع، وأنكر أسلوب طرفين: أسلوب الغلو في المعارضة، وأسلوب الدعوة للانفصال والخروج على ولي الأمر. فلا أجيز لنفسي ولا لغيري في المجتمع أن نجعل من هذا الوضع سببًا للخروج والصراع السياسي؛ لأن هذا هو مذهب أئمة المذاهب الأربعة. حتى نرى الكفر البواح. وإذا رأينا الكفر البواح وليست لنا قدرة على الخروج لم يجز لنا ذلك للمصلحة العامة. ونعمل في تصحيح الوضع بما يتيسر لنا "فالميسور لا يسقط بالمعسور".
ويرى بعض خصوم جمعية الحكمة -وكذلك بعض المراقبين- أن ثمّة تحوّلاً لافتًا وواضحًا في إطار العلاقة بين الجمعية والسلطة. وقد سعى الشيخ المهدي في غير ما مناسبة ليدرأ عن نفسه وجمعيته أو جماعته تهمة الارتباط الانتهازي بالسلطة، ففي إجابة مطوّلة على صفحات مجلة المنتدى (لسان الحال) سئل: "اتخذتم منذ وقت طويل سياسة مستقرة بينكم وبين ممثلي السلطة في البلاد؟ هل تقدّمون هذا الموقف كنموذج للعلاقة مع السلطة؟ أم أن هذا راجع لضغوط تواجهها الدعوة السلفية؟..." ومما ورد في إجابته المطوّلة تقريره أن ذلك هو منهجه مذ عاد من الدراسة سنة 1398هـ، "حتى اتهمتُ في فترة من الفترات أنني من الدولة وإلى الدولة..." واستطرد في تكييف ذلك الموقف شرعيًّا بما حاصله أن هذا هو منهج أهل السنة في العلاقة مع الحكام، وأن ذلك هو مغزى تشديد أهل السنّة على مراعاة المصالح والمفاسد من كل نواحيها.
والجدير بالتوقف عنده مليًّا تأكيد أن مسألة العلاقة مع السلطة في بلد كاليمن تتداخل فيه جملة عوامل دينية واجتماعية وقبلية وملابسات شتّى ليست بالأمر الذي يؤخذ –جوهريا- سلبا على جمعية الحكمة في الحالة السلفية.
الحوثية هي الجامع:
ولكن –من الجهة المقابلة- فإنه مهما حاول الشيخ المهدي تقديم مسوّغات تهدف للإقناع بأن الدوافع لتلك العلاقة شرعية علمية فحسب؛ فلا شك أن ثمّة اعتبارات أخرى، أهمها وجوهرها الذي تسبب في دفع بوتيرة تلك العلاقة مع السلطة قدما ظهور الفتنة الحوثية في صعدة بدءا منذ 1682004م، وحتى الساعة. فذلك الموقف مثّل قاسمًا مشتركًا ولقاءً تاريخيًّا بين السلطة التي تخشى انفلات الأمور من قبضتها، والسلفية التي تذكّرت تاريخها غير الجميل مع الشيعة الإمامية، تلك التي يصنّف الحوثيون عليها. وقد دشّنت تلك العلاقة رسميًّا باستقبال الرئيس علي عبد الله صالح، عددا من قيادات جمعية الحكمة.
وبحسب موقع المؤتمر نت (لسان حال حزب المؤتمر الحاكم) فقد أشاد رئيس جمعية الحكمة عبد العزيز عبد الله الدبعي وأعضاء الجمعية بمواقف فخامة الرئيس وما يقدمه من الرعاية والاهتمام للعلماء والخطباء والمرشدين. وعبروا عن تقديرهم للمواقف الوطنية والقومية والإسلامية للأخ الرئيس المدافعة عن الدين والمناصرة لقضايا الأمة. وأشاد الرئيس من جهته بالجهود التي تبذلها الجمعية في مجالات العمل الدعوي والخيري والإنساني، منوهًا بمواقفهم الوطنية المشرفة، مؤكدا أن الدولة ستظل تدعم العلماء والمرشدين وترعاهم من أجل أداء رسالتهم لخدمة الدين والوطن وفق المنهج الصحيح".
تباعد مع المعارضة:
إن هذا الموقف المتوائم مع السلطة صحبه موقف غير ودّي -بدرجات متفاوتة- مع أحزاب المعارضة المتمثلة في اللقاء المشترك.
ويبدو أن الطابع العام للعلاقة بين الإصلاح والحكمة تسوده السلبية والجفاء غالبًا، على المستوى المؤسسي، وإن كان أخف كثيرًا على المستوى الفردي. ولعله مما يشهد لهذا الاستنتاج ما لمسه كاتب هذه السطور من ودّ ظاهر بين بعض رموز الإصلاح وبين الشيخ المهدي على وجه الخصوص.
حزب سلفي سياسي ...متى؟
أما الموقف من التعدّدية فغاية ما قد يتحفظ عليه الاجتهاد الجديد في إطار جمعية الحكمة هو مشروعية قيام أحزاب لا تعتمد مرجعية الإسلام عقيدة لها وشريعة حاكمة في الفكر والسلوك، بخلاف الموقف من إنشاء الأحزاب الإسلامية، وما هو قريب منها كالأحزاب الوطنية، تلك التي لا تحمل أيدلوجيا مضادة للإسلام. وقد مرّ بنا وصف أحد رموز الجمعية لحزب المؤتمر الحاكم بأنه من أهل السنّة بصرف النظر عن أيّ استثناءات لا تغيّر من حقيقة الموقف شيئًا يذكر!
ويبقى السؤال الأكبر هنا: في ضوء التطوّرات المشار إلى أبرزها سواء على المستوى الفكري أم السياسي؛ هل يعتزم فصيل جمعية الحكمة أن يتحوّل إلى حزب سلفي سياسي؟ فيما يظل لنشاط الجمعية الخيري والدعوي مساره، كما فعل آخرون؟
الواقع أن القائمين على شئون جمعية الحكمة ما فتئوا يؤكّدون في غير ما مناسبة أن جمعيتهم دعوية خيرية وليست سياسية، ومن ذلك تصريح الشيخ عبد القادر الشيباني أمين عام الجمعية الأسبق منذ وقت مبكّر نسبيًّا أن جمعيته جمعية خيرية علمية دعوية اجتماعية وليست حزبا سياسيًّا.
أمّا الشيخ عمّار بن ناشر العريقي (أحد أبرز الوجوه الفكرية والسياسية للجمعية في محافظة عدن) فقد أجاب عن السؤال وإن كان قد أتى في سياق الحديث عن العلاقة بالسلطة والمعارضة المتمثلة في اللقاء المشترك؟ قائلا:
"المنتسبون للدعوة السلفية لا يخفى عدم اشتغالهم بالعمل السياسي الحزبي والتنظيمي، ولا يملكون جمهورًا واسعًا كغيرهم ولا تنظيمًا دوليًّا ولا مؤسسات إعلامية أو اقتصادية كبيرة. وقد تركزت جهودهم في نشر العلم وبيان الأحكام الشرعية وتصحيح العقيدة ومحاربة الشرك والبدعة والخرافة والدعوة إلى تحكيم الشريعة ومحاربة الانحرافات الأخلاقية في الإعلام والشارع، ومساندة جهود محاربة الفساد العام بغض النظر عن جهته ومسماه لما يملكونه من رؤى وتصورات فكرية وسياسية منضبطة بالشرع والدليل إن شاء الله".
إن المراقب للحالة السلفية وتحوّلاتها لن يجد صعوبة في استنتاج أن أمر إعلان حزب رسمي علني مسألة وقت وظرف مرحلة ليس أكثر. ولعل تطوّرات داخلية أو خارجية تحدث هنا أو هناك في المنطقة، قد تسهم في التعجيل بإعلان ذلك. وليس عنّا ببعيد ما حدث في الكويت -على سبيل المثال- حين أعلن حزب سلفي (تجديدي) عن نفسه تحت مسمّى حزب (الأمّة) حزبًا سياسيًّا رسميًّا بقيادة الدكتور حاكم المطيري.
فإذا جئنا إلى الموقف من العملية الديمقراطية وما يترتّب عليها من انتخابات نيابية على وجه الخصوص -عدا الاشتراك في الانتخابات والأنشطة النقابية والمهنية- فسنرى تلك الصرامة القديمة تحوّلت –بعد المراجعة- إلى مسألة اجتهادية، وإن ظل التحفّظ لدى بعضهم قائمًا على المصطلح ذاته، أمّا عما كان يشكّل أبرز الجدل حول بعض متضمناته كالانتخابات النيابية –مثلاً- فلا إشكال يذكر، كما ورد تقرير ذلك في رسالة موسومة بـ(المختصر في أصول ومعالم الدعوة السلفية)، وقد أعدّه وراجعه مجموعة من دعاة الجمعية وباحثيها، وقدّم له الشيخ/ أحمد بن حسن المعلّم: أحد أبرز قيادات الجمعية بصورة عامة وفي محافظة حضرموت بوجه أخص. ففي البند السابع من (منهج التغيير الدعوي) من الرسالة: "الوسائل التي تختلط فيها المصالح والمفاسد، كتولي الولايات في ظل الحكومات المعاصرة، والدخول إلى المجالس النيابية، في ظل الأنظمة المسمّاة بالديمقراطية، والانتساب إلى الاتحادات، والنقابات العمالية المهنية وما أشبهها؛ محلّ اجتهاد ونظر يقدِّره أهل الحلّ والعقد والاختصاص في كل زمان ومكان بحسبه".
السلفية ..مراجعة أم تراجع
والحقيقة أن ثمّة تحوّلاً -وإن شئت فقل مراجعة-؛ فلم يكن هذا هو الموقف المعروف لدى السلفية بعامة -والحكمة منها قبل التمايز-. وقد يُحمل تصريح الشيخ المهدي بما تقدّم من عدم التغيير أو التبديل في الموقف، على أنّه رأي شخصي له في أحسن الأحوال، مع أنه لم يكن ذلك مشتهرًا عنه، ولا متميّزًا به، حسب المتابعة المتواضعة لكاتب السطور، ثم إنه لم ير بأسًا بتغيير الموقف رجوعًا إلى الحق. وعلى أي حال فإن أحدًا من المتابعين والمهتمين لا يمكنه أن ينسى الموقف الحادّ العنيف لشباب بعض رموز الجمعية –ولا سيما في أمانة العاصمة- إبّان الانتخابات النيابية 1993م، من حيث موقف التشكيك بمشروعية الانتخابات من أساسها، ومواجهة المخالف بالاتهام في الدّين، ومحاولة تحريض الجماهير على ذلك، مستخدمًا بعضهم منابر المساجد، من منطلق القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوقوف في وجه اللعبة الديمقراطية العلمانية!.
غير أن ذلك الموقف اختلف بعد ذلك؛ إذ تحوّل الإنكار في انتخابات عام 1993م إلى موقف الصمت العام في انتخابات 1997م، وهو ما يومئ بالرضا الضمني، الذي ينمّ عن مراجعة مقدّرة للمسار. بل لقد بلغ الأمر في محافظة حضرموت درجة من التعاون الظاهر مع حزب التجمع اليمني للإصلاح، تمثل في الدفع بشباب الجمعية ومناصريها إلى دعم مرشحيهم. وكان لذلك دوره الإيجابي الذي لا ينكر، في تحقيق نصر مقدّر لمرشحي الإصلاح هنالك. وكذا تكرّر الأمر في انتخابات 2003م.
إن المراجعة الأدبية الشجاعة أمر يحمد عليه صاحبه، ومن المكابرة بمكان أن تأخذ بعض المراجعين العزّة بالخطأ، ليتحوّل من موقع التقدّم على أكثر من صعيد، إلى المربع الأول، حيث النكوص والتراجع السلبي. إذ يخيّل إليه أنّ في ذلك تشفّيًا وتسجيلاً سلبيًّا من قِبل الخصوم والمتربّصين.
ولِم لا يقتفي مَن يعاني مِن هذا الهاجس غير المبرّر منهج أحد أبرز الوجوه الفكرية المستنيرة في هذه المدرسة -وهو الشيخ عمّار بن ناشر العريقي- الذي يُعلن في غير ما مواربة أن ثمّة مراجعات حقيقية في إطار المدرسة السلفية –بوجه خاص-، إذ يورد في إطار موضوع معمّق وسمه بـ(المنهج المثل لتجديد الخطاب الدعوي: فقه المراجعات) جملة من المراجعات التي تمّت ومنها قوله: "كما تشهد الدعوة مراجعات في الحدّ من الاعتماد على الإمكانات المادية في كثير من مجالات الدعوة والتربية، كما خفّت حدّة قضية المجالس النيابية، وقرّر جواز المشاركة فيها، أو وجوبها، علماء مصر والحجاز ونجد والشام واليمن، إلا القليل وهي مسألة اجتهادية" (29).
وكان الشيخ العريقي قد صرّح بأكثر من ذلك في عدد سابق من (المنتدى)، إذ قال -في معرض مناقشته لظاهرة السطحية التي تهدّد مسيرة الدعوة ومؤسساتها وبعد أن أشاد بتجربة حزب العدالة والتنمية بتركيا عادّا لاجتهاداتها عين العقل والحكمة، وموافقة لأصول الشرع وقواعده-: "واليوم يعترض بعض الدعاة مشاركة بعض الإسلاميين في مجلس النواب، بحجّة أن هذا إقرار بالديمقراطية الكفرية! ورأيي أن في بعض الديمقراطية كثيرًا من الإيجابيات التي لا تخالف الشريعة من ناحية، ثمّ هي خير من الديكتاتورية الكفرية، التي تقضي حتى على مصالح الدين والدعوة...".
ومع تأكيد التقدير لنفس المراجعات الداخلية في مسار الجمعية؛ فلا ينبغي إنكار دور بعض المؤثّرات الخارجية في إطار العلاقة الوثيقة التي تربط بين جمعية الحكمة في اليمن، وجمعية إحياء التراث في الكويت، مع الإشارة إلى علاقة المتغيّر التابع بالمتغيّر المستقل. وقد يغدو من قبيل الاستقراء التام أو شبهه استخلاص أن ما يمسي في جمعية إحياء التراث بالكويت يصبح في جمعية الحكمة باليمن! ولعل لبعض ما ورد في حوار الشيخ ناظم المسباح عضو مجلس إدارة جمعية إحياء التراث الكويتية مدلوله في هذا السياق، حيث أورد في حواره مع مجلة (المنتدى) المراحل التي مرّت بها جمعيته. فبعد أن أشار إلى مراحل التطوّر في مسار العمل السلفي هناك، انتقل إلى تجربته في الاشتراك في عدد من تجارب العمل النقابي، على مستويات عِدّة أردف ذلك ثمّ أردف بالقول: "بعد ذلك توسّع العمل فدخلنا في المجلس النيابي (مجلس الأمة)، والحمد لله حقّقنا أمورًا عظيمة...".
* أستاذ بكلية التربية- جامعة صنعاء اليمنية