لماذا تخلف العرب؟
بقلم/ عبدربة السقاف الطهيفي
نشر منذ: سنتين و شهر و 13 يوماً
السبت 17 سبتمبر-أيلول 2022 10:47 م

أهم مشروع فكري معاصر، كما يصفه الكثيرون هو: مشروع الفيلسوف المغربي: الدكتور محمد عابد الجابري (نقد العقل العربي) لا يكاد يكون هناك عربي لا يفكر و يتألم على الحال التي وصل لها العرب بعد أن كانوا حضارة عظيمة بَنَتْ للبشرية علومًا و معرفة كبيرة، و الجميع يسأل: لماذا توقف العرب؟ و أين تكمن المشكلة؟ و فعلاً يجب على المفكرين و العلماء أن يشخصوا المرض و يرسموا الخطط، بحيث تعود الأمة العربية لمسارها الطبيعي بين الأمم.

و قد تعددتْ الأفكار حول أسباب تخلف العرب، فكثير منهم علق التخلف على شماعة الاستعمار، و البعض أُصيب بحالة احتقار الذات (imposter syndrome ) و يلوم الجين أو الدين أو المؤامرات الخارجية، لكن الدكتور الجابري قام بفحص دقيق، لا نظير له في عصرنا، إذ أنه درس المشكلة وفكك تفاصيلها وبحث عن أسبابها، وكأنه محقق بوليسي، يجمع الأدلة و يربط الأحداث بموضوعية كبيرة،

و لا يخفى على من يقرأ صفحات من هذا المشروع أن الجهد الذي بُذل فيه جهدًا جبارًا، أفنى جزءًا كبيرًا من عمره فيه، وهو كتاب يتكون من اربعه أجزاء: تكوين العقل العربي بنيه العقل العربي العقل السياسي العربي العقل الأخلاقي العربي و الجميل أن الجابري لم يبحث بعقل عربي عن مشكلة الأمة العربية؛ إنما بحث في العقل العربي، وقال الجابري: إنه لا يزعم أنه سوف يجد الحل الكامل بمشروعه هذا، ولكنه يهدف إلى تحريك المياه الراكدة، و هذه الحركة سوف تنتج فكرًا وأفكارًا لعلاج المشكلة. وهذا ما نأمل أن يحصل، ابتداءً من رد الفيلسوف الراحل:جورج طرابيشي (نقد نقد العقل العربي) في أربعة أجزاء أيضا: نظرية العقل العربي إشكاليات العقل العربي وحدة العقل العربي العقل المستقيل في الإسلام.

و لا تكتمل الصورة عند من يقرأ (نقد العقل العربي) لمحمد عابد الجابري، الا اذا قرأ أيضا (نقد نقد العقل العربي) لجورج طرابيشي ابن حلب الذي رحل في 2016 و قلبه يقطر زماً و ألمًا على أمته العربيه، و سوريا و مدينته المنكوبة حلب، وقد كتب مقاله الأخير قبل وفاته بأربعه ايام، بعنوان "ست محطات في حياتي" كانت المحطه السادسة هي (الشلل التام) مثل ما وصفها وقال: إنه في انتظار الموت، ولكن مشروعة و مشروع الجابري و مشروع كل عقل عربي لن يموت حتى تتخلص الأمة من مشكلة (العقل المستقيل) مثلما أسماه الجابري. فالجابري يرى أن بُنيه العقل العربي الابستمولوجي ثلاثة أنواع:

1-العقل البياني: وهو عربي اصيل ينتصر فيه اللفظ على المعنى الا أنه محكوم بقواعد منطقية قويه.

2-و العقل العرفاني: وقد تسلل للأمة من الحضارات الشرقية الهرمسية، الغنوصيه، العرفانية، و خلقت التصوف، و الباطنية، و خلقت العقل المستقيل.

3-و العقل البرهاني: وهو الرياضيات، و المنطق، و العلوم الطبيعية تتبع الجابري مسيرة العقول الثلاثة، متى ولِدَتْ؟ وكيف ترعرعت؟ و ماهو تأثيرها؟ وكيف شكلت و تشكل عقلنا العربي؟ من يقرأ هذا البحث الشيق يحس أنه أمسك بطرف خيط المشكلة، و تتجلى له زوايا جديدة منها، غير الزوايا التي يُكرَّرُ لفت النظر إليها بواسطة السطحيين من المُسْتَغرِبين، و ممن يقترحون استنساخ أفكار وطرق، و حتى قيم أمم أخرى، هؤلاء لا يقلون تسطيحًا عن من يقترحون استنساخ حلول قديمة من أزمنة غابرة أخرى في هذا المشروع سوف تلمس عمق أفكار الجابري رحمه الله، ومثلما قال: "لا يمكن تبني التراث ككل لأنه ينتمي الى الماضي ولأن العناصر المقومة للماضي لا توجد كلها في الحاضر ، وليس من الضروري ان يكون حضورها في المستقبل هو نفس حضورها في الحاضر . وبالمثل لا يمكن رفض التراث ككل للسبب نفسه ، فهو إن شئنا أم كرهنا ، مقوم أساسي من مقومات الحاضر ، وتغيير الحاضر لا يعني البداية من الصفر" أما رد جورج طرابيشي فهو كما قلنا يكمل صورة مشروع الجابري بنقده للمشروع من المفارقات أن طرابيشي عندما قرأ الجزء الأول من مشروع الجابري، أُعجِب به كثيرًا، و علق عليه قائلًا: "إن الذهن بعد مطالعة تكوين العقل العربي لايبقى كما كان قبلها . نحن أمام أطروحة تُغيّر ،وليس مجرد أطروحة تُثقّف" ولكن طرابيشي بعد هذا الإعجاب الكبير بمشروع الجابري(الجزء الأول) ، غير رأيه عندما انصدم -بحسب كلامه عن بقية الأجزاء - أن منهج الجابري انتقائي، و غير دقيق، و استطرد طرابيشي كثيراً في تعقب غلطات الجابري من هذا النوع مثلاً: اقتباس خارج السياق، أو إحالة إلى مصدر غير موثوق، او اقتباس دون ذكر المرجع، (وهذا ليس بالأمر الأكثر أهمية، با الفكرة هي ما يهمنا بالدرجة الأولى، سواء كانت من بنات أفكار الجابري، أو كانت منقولة من غيره) و اتفق طرابيشي مع الجابري في أمور كثيرة، و حسّن وأضاف أشياء أخرى إلى مشروع الجابري وهذا هو المطلوب.

مثلاً يرى الجابري أن سبب استقالة العقل العربي هو: ثقافة خارجية تسلّلتْ للعقل العربي من الشرق من الثقافة الهرمسية، و المانوية،و الأفلاطونية المحدثة و يرى طرابيشي أن سبب استقالة العقل العربي سببًا داخلي. بالمناسبة اُسيءُ فهمُ الجابري، بخصوص وصفه الثقافة الشرقية و الغربية، واعتقد الكثير أنه يقصد بالمشرق، المشرق العربي و المغرب، المغرب العربي بالمفهوم الحالي،

بينما كان واضح من حديثه أنه يقصد بالمغرب: بغداد و ما غربها و المشرق: هي فارس و محيطها الجابري قال إن الحضارات الثلاث اليونانية،و العربية، و الأوروبية، هن الحضارات التي استخدمت العقل في فهم العقل وقال: إن الحضارات الأخرى كانت تستخدم العقل للتفكير بأمور أخرى و يصاحب فكرها السحر، و الخرافات الغير عقلانية، و طرابيشي يرفض هذا، وكان نقد طرابيشي لهذه المسألة نقدًا متينًا -ونقده كذلك لكثير من المسائل- فقد حشد الأدلة التي تثبت أن الفكر تراكمي بين الأمم، و أن في فكر كل أمة أمور غير عقلانية، و من الطريف بحث طرابيشي في أصل كلمة فلسفة ( philos Sophia ) ( محب الحكمة) وأثبت باعتراف سقراط نفسه في محاورة اقراطولس أن كلمة( Sophia = الحكمة) أجنبيه بالنسبة لهم و غامضة، إذاً تعبير (فيلسوف = محب الحكمة ) أجنبي و الحال ان الحكيم بالعربية هو الشافي، و جذر الكلمة بابلي فعند البابليين كان يقال للحكيم الشافي Ashipou بالمقابلة مع الطبيب الآسي ذي العلم الحِرَفي Asou و للحكمة Ashipoutou بالمقابلة مع الطب Asoutou وكان للطب البابلي شهرة عالمية، كانوا يستقدمون إلى بلاطات الملوك في جميع أنحاء المعمورة المتحضرة، و من ثم لا عجب أن يكونوا أذاعوا مع شهرتهم اسم (شافي) ،

اضف إلى ذلك أن سفر القضاة (الحكماء) في التوراة يعرف باسم (شوفتيم) كما أنه كان يقال للحكام / الحكماء، في قرطاجة ( شفاه) وقد لا يكون من الصدفة، أن ابن سينا جعل عنوان موسوعته في الحكمة و الفلسفه (الشفاء).

فعلاً التراكم المعرفي ينفي المعجزات و العجز و إذا نظرت إلى تاريخ الفلسفه اليونانية سوف تجد الكثير من الفلاسفة ليس فقط تعلموا في بلدان أخرى مثل مصر و العراق و الشام ولكن أيضا كثير منهم من أصول فينيقيه مثل طاليس و فيثاغورس و زينون و القائمة تطول الجابري يهدف إلى أن يعيد العرب تفعيل العقل و المنطق، و التخلص من الهرطقات الدخيلة، التي تعقبها وتتبعها في بحثه هذا بشكل بوليسي دقيق وشيق، وأثبت انتمائها للثقافة المجوسية، و الهرمسية ، و المانوية ، مثل تعظيم الزعماء، و إضفاء نوعًا من التأليه عليهم و على الكهان، وهذا دخيل علينا ولم يكن موجودًا في فجر و ضحى دولة وثقافة الإسلام، كنا ننظر للحاكم على أنه موظف كما هو الحال الآن في دول العالم الأول، و كنا نطلب من العالم الدليل على ما يفتي به ولم نكن نتخذ أحبارنا و رهباننا أولياء، من دون الله كان التفكر ثقافتنا بل كان فريضة كما يثبت ذلك المرحوم محمود عباس العقاد في كتابه (التفكير فريضه إسلامية) المشروع ضخم و لا يتسع المقال و المقام إلى تلخيصه إنما هذه دعوة لقراءة هذا المشروع و المشاريع المشابهه و كذلك دعوه للمفكرين و الفلاسفة للإسهام في تنقيح و تصحيح هذا المشروع وأي مشروع يهدف إلى انتشال الأمة من وضعها الراهن، و المساهمة في تفعيل العقل العربي المستقيل، كما أسماه الجابري أو العقل النائم كما يقول طرابيشي، إن العقل العربي ايقظته أصوات مدافع نابليون؛ ليكتشف العرب أن العالم تقدم وهم نائمون، يستجرون الماضي، و يعيشون في وهم التفوق، ويبدو أن المرحوم محمد عابد الجابري متفائل، و يعتقد أن هذا القرن سوف يشهد النهضة العربية ،ولكن هذا يتطلب مضاعفة الجهود في التثقيف و تفعيل العقول.