هجرة العقول
بقلم/ دكتور/محمد النعماني
نشر منذ: 17 سنة و 10 أشهر و 25 يوماً
الثلاثاء 05 ديسمبر-كانون الأول 2006 07:48 ص

اقترنت ظاهرة الهجرة بالكائن البشري منذ القدم، فقد تنقل الإنسان وواصل هجراته طلباً للغذاء والأمن تارة، ومن أجل الامن والحرية تارة اخرى. وقد أرتبطت بالذاكرة الاجتماعية العربية والإسلامية بمدلول ديني على اثر هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة ويثرب. وهناك مقولات روحية عن الهجرة إلى الإله والأندماج والتوحد بالمطلق !

في العصور الحديثة ولأسباب عديدة وفي مقدمتها الاسباب السياسية والاقتصادية برزت ظاهرة الهجرات المنطلقة من دول العالم الثالث صوب أوربا والغرب مما ساهمت في بروز مشاكل وأزمات نالت حظاً واسعا من النقاشات الفلسفية والسياسية والثقافية دفعت المعنيين بصهر الوجود الجديد ضمن نسق الثقافة والمجتمع الغربيين. .

هجرة العقول المتميزة ظاهرة عالمية وليست مقصورة على العلماء العرب فقط فهناك هجرة للعقول المتميزة من الهند وباكستان والصين واليابان وبعض الدول الافريقية ولكن اتجاهها دائماً من الدول النامية إلى الدول الصناعية الكبرى مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وبالاخص الولايات المتحدة الامريكية وكل ذلك جاء نتاج عدة أمور منها: -

مئتان مليار دولار خسائر هجرة العقول العربية

أصبحت ظاهرة هجرة العقول العربية الى الخارج خاصة الولايات المتحدة وكندا وبعض الدول الاوروبية تشكل هاجساً مخيفاً للحكومات والمنظمات على حد سواء، وقدرت التقارير ان تلك الهجرة التي تكاد لا تتوقف تتسبب في خسائر مالية تتجاوز 200 مليار دولار.

وانعقد مؤخراً مؤتمرات عربيه وعالميه لمناقشة هذه الظاهرة الخطيرة، توصل خلاله المتحاورون الى مجموعة من الاسباب التي تقف وراء هذه الهجرة وعكفوا على محاولة ايجاد الحلول الناجعة لتجاوز سلبياتها. وتوصل المؤتمرون الى ان هذه الهجرة شملت كوادر متخصصة في تخصصات حرجة ودقيقة، والى ان استفادة الدول العربية من هذه الهجرة ضعيفة للغاية مقارنة باستفادة اسرائيل من مثل هذه الهجرات، مؤكدين على ضرورة التصدي بكل الوسائل لوقف هذا النزيف الذي يلحق الضرر بالتطور الاقتصادي القومي والتركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية.

ثمانمئة واربع وعشرون ألف مهاجر مصري

تعد ظاهرة هجرة الكفاءات والعلماء من الدول العربية الى الخارج أحد أهم العوامل المؤثرة على تطور الاقتصاد القومي وعلى التركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية وتكتسب هذه الظاهرة أهمية متزايدة في ظل تزايد اعداد المهاجرين خاصة من الكوادر العلمية المتخصصة وتتمثل أهم الاثار السلبية في حرمان هذه الدول من الاستفادة من خبرات ومؤهلات هذه الكفاءات في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعاني مصر وغيرها من الدول العربية من اثار هذه الظاهرة حيث يقدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء المصريين المتميزين من العقول والكفاءات التي هاجرت للخارج بـ 824 ألفاً وفقا لآخر احصاء صدر في عام 2003 من بينهم نحو 2500 عالم وتشير الاحصاءات الى ان مصر قدمت نحو 60% من العلماء العرب والمهندسين الى الولايات المتحدة الاميركية، وان مساهمة كل من العراق ولبنان بلغت 10% بينما كان نصيب كل من سوريا والأردن وفلسطين نحو 5%.

وتشير احصاءات جامعة الدول العربية ومنظمة العمل العربية وبعض المنظمات المهتمة بهذه الظاهرة الى ان الوطن العربي يساهم بـ 31 هجرة الكفاءات من الدول النامية، وأن 50% من الاطباء، 23%من المهندسين، 15% من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون متوجهين الى أوروبا والولايات المتحدة وكندا بوجه خاص وأن 54% من الطلاب العرب الذين يدرسون بالخارج لا يعودون الى بلدانهم ويشكل الاطباء العرب في بريطانيا حوالي 34% من مجموع الاطباء العاملين فيها، وان ثلاث دول غربية غنية هي اميركا وكندا وبريطانيا تتصيد نحو 75% من المهاجرين العرب.

هذه القضية تناولها بالبحث مركز بحوث الدول النامية بجامعة القاهرة في مؤتمر عقد مؤخرا شارك فيه العديد من الباحثين وأساتذة الاقتصاد والاجتماع حيث أكد الدكتور عبدالسلام نوير مدرس العلوم السياسة بجامعة أسيوط ان الخسائر التي منيت بها البلدان العربية من جراء هجرة الأدمغة العربية 11 مليار دولار في عقد السبعينيات، وان الدول الغربية هي الرابح الأكبر من 450 ألفاً من العقول العربية المهاجرة وان الخسائر الاجتماعية نتيجة هذه الظاهرة تقدر بـ 200 مليار دولار.

وأضاف د.نوير أنه في حين تخسر الدول العربية وفي مقدمتها مصر من ظاهرة هجرة العقول فإن اسرائيل تستفيد من هذه الظاهرة بفعل الهجرة عالية التأهيل القادمة اليها من شرق أوروبا وروسيا وبعض الدول الغربية وقال ان مصر تعد الخاسر الأكبر من هجرة الكفاءات في الكم المطلق ففي اميركا حوالي 318 كفاءة مصرية، كندا 110، استراليا 70 و35 في بريطانيا، 36 في فرنسا، 25 بألمانيا، 14 في سويسرا، 40 في هولندا، 14 في النمسا، 90 في ايطاليا، 12 بأسبانيا وفي اليونان 60 وتحظى الولايات المتحدة بالنصيب الأكبر من الكفاءة والعقول العربية بنسبة 39% تليها كندا 3, 13% ثم اسبانيا بنسبة 5, 1% وتتضمن هذه الارقام العديد من الفئات في مهن وتخصصات مختلفة وتتجلى الخطورة في أن عدداً من هؤلاء يعملون في أهم التخصصات الحرجة والاستراتيجية مثل الجراحات الدقيقة، الطب النووي والعلاج بالاشعاع والهندسة الالكترونية والميكرو الكترونية، والهندسة النووية، علوم الليزر، تكنولوجيا الانسجة والفيزياء النووية وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية مضيفا أنه حتى في العلوم الانسانية كاقتصاديات السوق والعلاقات الدولية، هناك علماء متخصصون.

وأشار الدكتور نوير الى القنوات الرئيسية لهجرة الكفاءات العربية الى البلدان الغربية وهي الطلاب في الجامعات الغربية لاسيما المبعوثين الذين ترسلهم الجامعات والمراكز البحثية ولا يعود هؤلاء الى بلدانهم الأصلية مؤكدا أن مصر تعد من أكثر الدول معاناة من هذه المشكلة حيث قدر عدد من تخلف من مبعوثيها في العودة اليها منذ بداية الستينات وحتى مطلع عام 75 بحوالي 940 مبعوثا بنسبة 12%من مجموع المبعوثين خلال تلك الفترة وتركز معظمهم في اميركا، كندا، فرنسا، بريطانيا وكانوا من المتخصصين في الهندسة والطب والأبحاث الزراعية وخلال الفترة من 70 إلى1980 لم يعد الى مصر 70% من مبعوثيها في الولايات المتحدة.

وعن أثر العوامل الاقتصادية لهجرة الكفاءات أكد الدكتور سعد حافظ استاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومي ان هناك اسبابا مشتركة وراء الهجرات السكانية سواء أكانت داخلية او خارجية أهمها الفقر حيث لا يقتصر على مفهوم واحد ولكنه يمتد ليشمل فقر الامكانيات والقدرات والذي يعكس نقص الخدمات الاساسية، انخفاض مستوى المعيشة ونوعية الحياة معا ويرتبط الفقر بهذا المعنى بنقص التشغيل، البطالة التهميش وضعف أو انعدام فرص الحراك الاجتماعي وهو المحرك الاساسي لانتقال الناس مكانيا اضافة للاضطهاد وعدم الاستقرار السياسي لاسباب ايديولوجية أو عرقية أو ثقافية أو دينية تلعب دورا هاما في الهجرات الجماعية الى جانب التعرض لاشكال القهر بدءا بالحرمان من الحقوق السياسية، والاعتقال دون قوانين وكبت الحريات الى التعذيب والتصفيات الجسدية.

اسباب الجذب

ويضيف الدكتور سعد أنه قد تكون الأسباب العامة دافعا للهجرة ولكن هناك أسباب أخرى لهجرة العقول والكفاءات وهي في الغالب خاصة تتلخص في توفر امكانات البحث العلمي في الدول التي تتم الهجرة اليها سواء مايتعلق بمناخ البحث العلمي السائد أو الامكانات المادية من معامل ومختبرات وتمويل وفرق عمل بحثي متكاملة الى جانب وجود الجماعة العلمية المرجعية المحفزة للابداع العلمي وكذلك العوامل النفسية للمهاجر نفسه وأيضا عوامل الجذب والمغريات التي تقدمها دول المهجر.

ويركز الدكتور سعد على اثر انخفاض مستويات الدخل والمعيشة على هجرة الكفاءات من مصر حيث تنشأ الكفاءات المصرية المهاجرة منها والمتميزة في البناء بالوطن في خلل بيئة معيشية تصنف حسب دليل الفقر البشري ضمن مجموعة الدول المتوسطة ووفقا لهذا الدليل فإن حوالي 3,10% من السكان لا يتوقع لهم أن يعيشوا حتى سن الأربعين ويزيد معدل الأمية للقراءة والكتابة عن 50% ويحرم13% من السكان من الحصول على المياه المأمونة، و1% على الخدمات الصحية و12% من الصرف الصحي، ويعيش تحت خط الفقر 3, 23% من السكان ووفق هذا التقرير يتراوح متوسط دخل الفرد في السنوات الخمس الأخيرة بين 1015 - 1400 دولار دونما اعتبار للفروق الحادة في توزيع الدخل.

وتندرج أغلب الكفاءات تحت ظل أصحاب الدخول الثابتة ومع اضطراد معدلات البطالة السنوية ونمو الاسعار بمعدلات تضخمية فلقد تولدت عوامل طاردة لهجرة الكفاءات للخارج تعوزها الفرصة أو قبول دول المهجر، وحتى بالنسبة لمن أتيحت لهم فرص العمل من أصحاب الأجور وعلى الرغم من تميز أجور قطاع الاعمال العام والخاص عن القطاع الحكومي فإن معدلات الزيادة في الاجور تراوحت ما بين 1, 1%، 2,1% في حين زادت الاسعار بمعدلات تراوحت بين 8, 2% ، 3, 22%

ويضرب الدكتور سعد مثلا بأجور الكادر الجامعي حيث تنضوي أجور العاملين بالجامعات والمعاهد العليا والمراكز البحثية في مصر تحت طائفة أصحاب الاجور الثابثة والمجمدة باللوائح الأجرية وعلى الرغم من الارتفاع النسبي الظاهري للأجور النقدية لهذه الفئة فهي تقل عن نصف نظيرتها بالكادر القضائي وعن 15% من رواتب العاملين بالهيئات الدبلوماسية ويضيف أنه بالرغم من زيادة معدلات الأجور الثابتة والمتغيرة خلال الفترة 1988 وحتى الآن بما يقارب 70% فإن معدلات زيادة المتوسط العام لأسعار المعيشة في الحضر قد سجلت زيادة تقدر بنحو 352% بالإضافة إلى عدم حصول هذه الفئة على ما كانت تتمتع به من مزايا عينية، مثل الحصول على مسكن ملائم وقريب من مكان العمل، بتكلفة إيجارية محدودة أو بقيمة مقبولة

ومن شأن هذه العوامل أما استنزاف قدرات وطاقات الباحثين العلميين في تحسين مستوى المعيشة بكافة الاشكال كالاشتغال بمهام وظيفية أخرى مدره للدخل وأما تفضيل الهجرة والتي تتوافق والعوامل الأخرى المشار إليها كالبيئة البحثية والإمكانيات التمويلية والتقنية للعملية البحثية وبذلك تشكل ظروف المعيشة أحد حوافز هجرة العقول وفي حصره للخسائر الناتجة عن الهجرة أشار الدكتور سعد إلى أن هجرة الكفاءات سواء أكانت دائمة أو مؤقته والتي تقدر بنحو 4, 50%من إجمالي العمالة المهاجرة والبالغة 276, 675, 3 قد كبدت الميزانية العامة للدولة خسارة في الاستثمارات المنفقة على التعليم الحكومي بما يتراوح ما بين 01, 43 مليار جنيه و349, 62 مليار خلال الفترة من 62-2000 ولا تتضمن هذه التقديرات موارد انفاق الأسرة على التعليم الخاص والانفاق المكمل للانفاق.

الهجرة واجيال المستقبل

كما تشير الدكتورة ماجدة صالح أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة إلى أن أسباب هجرة الكفاءات المصرية قد تتشابه مع أسباب الهجرة العادية للعمال أو الفنيين خاصة في السبب الاقتصادي وهو الأمر الذي يشير إلى أن قرار الهجرة تتحكم فيه بصورة أساسية العوامل الجاذبة وليست الطاردة وحدها فلو توفرت العوامل الطاردة ولم تتوفر العوامل الجاذبة وأولها التشريعات والقوانين والامتيازات الاقتصادية لن تكون هناك هجرة وتضيف أن هجرة الكفاءات تحدث لأسباب عدة أولها سياسات دول العالم الصناعي في اجتذاب المهارات من مختلف الدول في إطار من التخطيط الواعي وعلى أساس انتقائي وهي المهارات التي غالبا ما تبقي في الخارج لأسباب متعددة مما يهدر مهارات بشرية مؤهله لقيادة خطط التنمية خاصة في الدول النامية.

وترى صالح أن الأسباب التي تدفع لهجرة الكفاءات المصرية ويأتي في مقدمتها الأسباب العلمية والمادية والتعليمية وهذه الأسباب في حاجة لأن تكون منظمة للتقليل من حدتها حتى لا تفقد مصر مزيدا من كفاءاتها في سوق العمل العالمي وقدرته التي هي الأساس لوضع السياسات وفي الوقت نفسه هي تعني المزيد من العمل من أجل تفعيل عدد من السياسات والمواد التي جاءت بقانون الهجرة ومازالت لم تدخل حيز التنفيذ خاصة مع تصاعد هجرة الكفاءات في ظل زيادة تيار العولمة تأسيسا على مصالح الدول الصناعية المتقدمة.

وتشير إلى أن خطورة الأمر تكمن في أن الهجرة سوف يكون لها تأثير كبير على الاجيال الأصغر من كفاءات الدول النامية خاصة من ينتمي منهم إلى الفئات الاجتماعية الأقدر حيث يتيح لهم أن يكونوا أكثر استعدادا من خلال وسائل الاتصال، والتعليم للهجرة إلى الخارج الأمر الذي سيلحق مزيدا من الضرر بالدول المصدرة لهذه الكفاءات بدء من الفاقد في الاستثمار في التعليم وإنتهاء بإضعاف القدرة الذاتية للمجتمع على القيادة والإدارة ومرورا بإضعاف قوى التنمية في المجتمع وعن الجانب الاجتماعي لظاهرة الهجرة أكد الدكتور محمود فهمي الكردي أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة إلى أن المكاسب التي تجنيها الدول المتقدمة من جراء هجرة العقول إليها هي نفسها وبصورة معكوسة تمثل الخسائر التي تمنى بها الدول الأقل تقدما نتيجة هجرة العقول إليها وتتكامل المشكلة حينما تسعى المجتمعات التي هجرها أبناؤها واتجهوا صوب المجتمعات الأكثر تقدما إلى الاستعانة بناتج عمل هؤلاء. وهم أبناؤهم، فمثلا في المبتكرات التكنولوجية التي أنتجوها أو السلع التي طورها أو مجسدا فيهم شخصيا حين يعودون إلى بلادهم في زي الخبراء الدوليين .

وأضاف الكردي أن تقدير التحولات الاجتماعية في زيادة معدلات هجرة الكفاءات العلمية عالية المستوى أو في انخفاضها لا تزال محل جدل ومنافسة فالبعض يرى أن بنية التحولات المجتمعية قد تؤدي إلى حالة من عدم التوازن الاقتصادي والاجتماعي وبالتالي صعود شرائح اجتماعية جديدة وهبوط أخرى ومن ثم عدم تحقيق العدالة الاجتماعية بالصورة المطلوبة لذلك تبحث الكفاءات العلمية عن دور فردي لها وتتجه نحو العالم الخارجي وهو المتقدم بطبيعة الحال

ويضيف أن هجرة الكفاءات العلمية أصبحت ظاهرة لافتة للنظر ليس بمصر وحدها وإنما على مستوى بلدان العالم الثالث وأن الخط النمطي المؤقت هو الشكل السائد لهجرة المصريين إلى الخارج رغم وجود نسبة من الهجرات الدائمة ويرى أن كافة الشرائح والفئات المكونة للبيئة الطليعية معرضة لعملية الهجرة بل ومشاركة فيها أما الأسباب والدوافع فترتبط ببيئة المجتمع المادي وما يصاحبه من تدن في مستويات الحياة وبخاصة فيما يتعلق منها بكمية الغذاء ونوعيته وحالة المسكن وأوضاع المرافق وأحوال البيئة ويرى أن هذا النمط من الفقر لا يرتبط بالضرورة بانخفاض مستوى التعليم بل قد يكون العكس هو الصحيح احياناً الأمر الذي يرفع من مستوى الطموح فيدفع الفرد دفعا إلى تغيير مكان الإقامة بالهجرة

ومن بين الأسباب الأخرى ضآلة فرص العمل بل انعدامها أحيانا الأمر الذي يؤدي إلى ظهور أشكال متعددة للبطالة السافر منها والمقنع.

1.ان الدول النامية لا تميز في كثير من الاحيان بين المتميز وغيره حيث توجد الانظمة الجامدة التي تعامل الجميع بنفس المقياس ولا تعطي للمتميز ما يشجعه على مزيد من البذل والعطاء ناهيك عن ان مجال العمل والبحث والتطوير محدود أمامه مما يجعله بين خيارين اما الاستكانة والقبول بالامر الواقع وهذا الاسلوب راح ضحيته آلاف من العلماء المتميزين ويذهب ضحيته اعداد هائلة في وقتنا الحاضر والخيار الثاني هو قبول العروض المغرية التي تقدمها المراكز العلمية في الغرب لكل متميز مبدع والتي تتمثل بالمال والجاه وكثير من المميزات التي لا يحلم بها في وطنه الأم. 2.من أهم أسباب الاحباط هو ان يكون الاقل كفاءة هو المسؤول عن تسيير دفة العمل والتخطيطفي المراكز العلمية مثل الجامعات ومراكز الابحاث وغيرها فمثل هؤلاء تجد ان لديهم مركب نقص ويعرفون في دواخل أنفسهم مستواهم لذلك يعتبرون كل متميز عدواً لهم لان وجوده يظهر نقصهم امام الاخرين فيلجأون إلى كل وسائل الإحباط الممكنة للتخلص منه وإذا عجزوا عن ترويضه بالطرق العادية لجأوا إلى الهمز واللمز وإلصاق التهم وما أكثر أصحاب هذا النوع من الدس الرخيص في العالم الثالث.

3.بعض من ملكة العقل المتميز يدفعه إلى الهجرة طموح علمي لا يحققه الموقع الذي يتواجد فيه حتى وان احترم وقدم على غيره لذلك تجده يذهب إلى حيث يجد ضالته وهي إشباع روح البحث والتطوير أو المشاركة الفاعلة في الرأي والخبرة أو الحصول على الدعم المادي والمعنوي وإلى حيث يستجاب لطلباته مهما كلفت ما دامت سوف تؤدي إلى نتيجة تفيد الممول وتحفظ حق العالم والمؤسسة العلمية.

4.بعض منهم يكون قد ذهب لتلقي العلم هناك كطالب وبعد تخرجه بتميز يجد فرص العمل متاحة أمامه بل يُخطب لكي يلتحق به فيقرر بعضهم انه سوف يبقي هناك لفترة معينة ويعود إلى وطنه ولكن في الغالب يطول به المقام خصوصاً اذا حافظ على تميزه مما يجعله يتدرج في سلم المجد العلمي فيصعب عليه التفريط بما حققه من انجاز ناهيك عن عدم وجود ما يعول عليه في العودة إلى الوطن. من الناحية العلمية والمادية.

5.بعض منهم يضع اللوم على الاوضاع السياسية أو الاقتصادية في بلده لذلك نجد ان أكثر العلماء المهاجرين ينتمون إلى دول غير مستقرة سياسياً أو إلى دول فقيرة جداً ناهيك عن وجود نزاعات عرقية أو طائفية أو مذهبية بالإضافة ان بعضهم لا يتوافق ايدلوجياً مع النظام القائم في بلده مما يدفعه إلى البحث عن مخرج وكل هذا طبيعي فالاستقرار السياسي والوضع الاقتصادي الجيد من ابرز مقومات التنمية بما في ذلك المحافظة على العقول المتميزة في مختلف التخصصات العلمية والادبية وغيرها.

وعلى أية حال فإننا اذا تركنا الحديث عن الاسباب العامة التي ادت إلى الهجرة واردنا ان نتحدث عن الواقع القائم اليوم نجد ان العالم العربي لا زال في طور النمو ولا زالت المحسوبية عنصراً قائلاً لكثير من الطموح ناهيك عن عدم الاستقرار السياسي والامني في المنطقة وعدم إقدام الدول العربية على منهجية اقتصادية جماعية تجعل منها محور اقتصادي فاعل وبالتالي ينعكس على أوضاعها الاقتصادية ليس هذا فحسب بل ان اعداد المتعلمين الذين تدفع بهم الجامعات والمعاهد المتخصصة في ازدياد مستمر مع عدم توفر فرص العمل المناسبة مما يجعل كثيراً من المتميزين العرب عرضة لمغريات الهجرة إلى دول الغرب أو الشرق حيث تتوفر فرص العمل وإرضاء الطموح.

ومن الاسباب المستجدة التي تدفع إلى مزيد من الهجرة عدم القبول في الجامعات مما يدفع بالبعض إلى السفر للخارج للدراسة على حسابه الخاص وهناك ربما يحصل على مغريات للبقاء ان هو تميز. وربما استثنى من ذلك دول الخليج بصورة عامة والمملكة بصورة خاصة ذلك ان المملكة تتميز بالاستقرار السياسي والوضع الاقتصادي المتين بالإضافة إلى ان من يذهب إلى الغرب للدراسة والتعليم يذهب في الغالب على بعثات حكومية ويتلقى كثيراً من التشجيع خلال بعثته، ناهيك عن المملكة تقوم على اساس تحكيم الشريعة الإسلامية في كل أمورها مما يجعلها محط انظار الآخرين فكيف بأبنائها الذين يعودون إليها فور تخرجهم لذلك لا يوجد هجرة للعقول السعودية وان وجدت فهي لا تذكر لقلتها.

وعلى أية حال فإن الدعوات التي كانت تنادي بعودة العقول العربية المهاجرة إلى منشئها لتشارك في البناء أصبحت أقل قابلية لقصورها والآن حل محلها النداء الاكثر عقلانية وهو الذي يدعو إلى بناء شراكة مع العقول العربية المهاجرة فالعلماء العرب اليوم يتواجدون في اعرق المراكز العلمية والجامعية والبحثية والصناعية ويطلعون ويطورون كثيراً منها لذلك فإن بإمكانهم عند تقديم دعوة صادقة لهم للمشاركة من مواقعهم في بعض البرامج القائمة هنا في مراكز البحث والجامعات العربية ان يكونوا خير عون اذا أحسن الاختيار وصدقت النوايا من الجانبين خصوصاً مع الحملة الصهيونية من كل من ينتمي للعرب أو الإسلام بصلة.

ان توطين التقنية ونقل المعرفة من الدول المتقدمة صناعيا مثل أمريكا واليابان وجنوب شرق آسيا وأوروبا يحتاج إلى قناة اتصال اساسها العنصر البشري لذلك فإن وجود عقول عربية ذات خبرات وكفاءات متميزة في الدول المتقدمة يساعد في الإسراع في عملية النقل وخير شاهد على مثل هذا التوجه استفادة كل من الهند من علمائها المهاجرين وكذلك الصين وفي نفس الوقت لا ننسى تجربة اليابان وربما يكون أكبر من استفاد من هذا الاسلوب عدو الامة والبشرية إسرائيل حيث يهود الشتات وعلمائهم المنتشرون في كل مكان. ان هذا يعني ان وجود العقول العربية المهاجرة يعتبر عنصر شراكة بين الغرب والعالم العربي حيث انها زرعت في العالم العربي ثم اتت اكلها في الدول الغربية.

وفي الآونة الاخيرة قام العلماء العرب في الغرب بإنشاء شبكة للعلماء العرب في المهجر تسمى "شبكة العلماء والتكنولوجيين العرب في الخارج" والتي تعرف اختصاراً باسم الاستا ( ALSTA ) وقد انبثقت الشبكة نتيجة للمؤتمر الأول للعلماء والتكنولوجيين العرب في الخارج الذي عقد في عمان عام 1992م وهذه تهدف إلى التعريف والكشف عن مواقع الكفاءات في الدول الغربية ورصد إسهاماتها في مسيرة التقدم العلمي الحديث وذلك كخطوة أولى لاعداد دليل متكامل عنهم لكي توضع لمثل تلك الحقائق في متناول اصحاب القرار السياسي والاكاديمي والصناعي والاقتصادي في العالم العربي ناهيك عن تعريف العامة والخاصة بوجود مثل تلك العقوبات وإسهاماتها المتميزة.  

وعلى العموم فإنه لا يمكن رصد جميع الكفاءات العربية بالمهجر ذلك ان تلك الكفاءات تتراوح ما بين الفني والاخصائي والتاجر إلى العلماء من حملة الشهادات العليا وغيرهم وبالتالي فإن المتميزين من أساتذة الجامعات وحملة الدكتوراه يمكن الوصول إليهم لانهم يشغلون مراكز مرموقة في كل من الجامعات ومراكز الابحاث والوكالات المتخصصة ناهيك عن كونهم من ابرز العاملين في مجال البحث والتطوير على المستوى العالمي. والإحصائيات الاولية تشير إلى وجود (284) استاذا جامعيا في مجال العلوم الهندسية والتطبيقية و(179) أستاذاً في مجال العلوم الحياتية والزراعية و(152) أستاذاً في مجال الصحة و(225) استاذا في العلوم التطبيقية والرياضيات و(136) استاذاً في مجال العلوم الإدارية وبالطبع فإن تلك الإحصائيات ربما لا تكون دقيقة بما فيه الكفاية إلا ان المعلومات المتوفرة تشير إلى نسبة العقول العربية المشاركة في التقدم العلمي والتربوي والتكنلوجي في الدول المتقدمة تصل إلى 2% من مجموع المتميزين فيها. وفي احصائية حديثة وجد ان عدد المتخصصين المصريين من اساتذة الجامعات المهاجرين إلى الدول الغربية يربو على (650) متخصصاً وجميعهم في العلوم التطبيقية والتكنولوجية تقريباً.

ان مشكلة العالم العربي بصورة عامة وكل دولة من دوله بصورة خاصة ان جميع المؤسسات العلمية والبحثية فيها يعمل كل منها على شاكلته فليس هناك برنامج مدروس وهدف محدد ورؤية واضحة ترصد جميع الفعاليات لانجاز ذلك الهدف ناهيك عن عدم توحيد منبع القرار في تلك المؤسسات وجعلها مؤسسات تكاملية بدلاً من كونها تنافسية في المظهر لا في الجوهر لذلك فإن أية دولة عربية تنشد الاستفادة من العقول العربية المهاجرة أو تنشد نقل وتوطين التقنية بصورة عامة عليها ان تعد العدة وتكون جاهزة لذلك من خلال المؤسسات الجامعية ومراكز البحث العلمي والتطوير داخلها وخارجها ناهيك عن الجهات المعول عليها في نقل المعرفة العلمية والتكنولوجية وتوطينها لذلك فإنها منوطة بتبني نظام مبني على التعليم والتدريب والبحث ذلك ان تلك الاساليب هي الاكثر ملائمة للتحديث على المدى القصير والبعيد ولذلك فإن الدول المتقدمة تعتمد على اساليب التدريب المستمر ليس للخريج أو في بداية الالتحاق بالعمل فقط بل هي عملية مستمرة تستهدف الباحثين واساتذة المدارس ومديري الإدارات والفنيين وغيرهم مما يكسبهم التدريب مهارات جديدة وبالتالي ينعكس على ادائهم في عملهم لذلك فإنهم يعمدون إلى التواصل مع المراكز البحثية والصناعية وربط الدراسات العليا والبحث العلمي بالصناعة وجعل الجامعة مركزاً استشارياً عن طريق النزول إلى الميدان بدلاً من التركيز على التدريس وتخريج كوادر متشابهة لا يختلف فيها خريج هذا العام عن ذلك الذي تخرج قبل عشر سنوات وتسبب هذا التخلف في الغالب عدم وجود الحوافز ناهيك عن عدم وجود الدعم المالي الذي هو اساس البحث والتطوير لذلك نجد ان الاسلوب الاخير متفش في العالم العربي ذلك ان الدول العربية لا تصرف إلا نسبة ضئيلة من دخلها القومي على مجال البحث والتطوير وربما أكون متفائلا اذا قلت ان هذه النسبة ربما لا تصل في أحسن الظروف إلى (1) من ألف فقط من الدخل القومي.

وبعد فإن الواجب يقتضي ان تقوم الجامعة العربية بدراسة مكثفة عن واقع العقول العربية المهاجرة وعن واقع الهجرة القائمة حالياً والتي تستنزف اعداداً هائلة من الاكفاء والتي ربما يستفيد منها الاعداء إذا لم تستقطب وتربط بطريقة أو بأخرى بالوطن وشحذ روح الحس الوطني لديهم بدلاً من نسيانهم وذلك يتمثل بتشجيع إقامة تجمعات واتحادات واندية تجمعهم وتتيح لهم فرص التعرف على بعضهم البعض ناهيك عن ان مثل تلك الاتحادات تمكن المتخصصين في الوطن العربي الاتصال بهم والتعاون معهم كل في مجال تخصصه.

اما الوضع العلمي والبحثي والتعليمي في العالم العربي فإنه يحتاج إلى مزيد من التمحيص وإعادة البلورة بما يتوافق مع معطيات العصر ومتطلبات التنمية مما ينعكس ايجاباً على خفض نسبة الهجرة واستقطاب بعض العقول المهاجرة للمشاركة ولو من بعيد بهموم الوطن وحل مشاكله خصوصاً ان العالم اصبح قرية صغيرة والجامعات والمراكز البحثية اصبحت في متناول اصابع اليد في جميع أنحاء العالم بسبب ما حدث من تقدم تكنولوجي وثورة في مجال الاتصالات وربما يكون القادم من الاكتشافات اكثر فعالية ، ومع ذلك فإن ربط عقول متميزة مثل تلك التي تعمل في المراكز البحثية والجامعات العالمية بمراكزنا البحثية وجامعاتنا سوف يكون له بالغ الاثر على كل من الجهد البحثي والعمل الاكاديمي خصوصاً في مرحلة الدراسات العليا. ذلك ان توسيع دائرة الاهتمام والبحث عن الافضل هو ما يميز الجامعات العريقة والمتجددة.