المظلل بالحمام !
بقلم/ محمد مصطفى العمراني
نشر منذ: شهرين و 14 يوماً
الأحد 11 فبراير-شباط 2024 05:03 م
 

قصة قصيرة 

بعد ساعة من المطر المتقطع الذي أحال شوارع حارتنا الترابية إلى برك متجاورة من الماء سكتت أصوات الرعود وخرير الميازيب ، في هذه الليلة الباردة اجتاحني شعور عارم بالوحشة ، لم يزرني أي من الزملاء اليوم ولم أستطع الخروج بسبب المطر ، أدندن بأغنية قديمة كنت أسمعها من صديق وأنا أسخن الشوربة وبقايا الأرز فالبرد يأتي بالجوع ، كأن أحدهم يطرق الباب ، ذهبت إلى الباب فلم أسمع أحد .!

وعاد صوت الطرق لكن ليس بالباب أحد !

أثناء تناولي الطعام سمعت الطرق لكن ليس على الباب وإنما على زجاج النافذة ، أفتح الستائر فأرى رغم الندى حمامة تنقر الزجاج ، فتحت النافذة فدخلت وهي تنفض ريشها المبلل وتطير في أرجاء الغرفة ثم تابعت طيرانها في أرجاء الشقة تستطلعها لتعود وتستقر على مكتبي .

قدمت لها بعض الطعام والماء لكنها لم تلتفت إليه .!

ـ ربما تريد النجاة من المطر بعد تبلل عشها .

تركتها تطير في الشقة وتستقر مرة على المكتب ، ومرة أخرى على الرف ومرة فوق دولاب غرفة النوم .

حين داهمني الجوع مرة أخرى هممت بذبحها وسلقها ، ستكون وجبة لذيذة دافئة في هذا البرد ، جهزت نفسي لإعداد الوجبة لكني حين نظرت في عينها ووجدت تلك البراءة والسلام الذي يكفي لإخماد حروب العالم تراجعت .!

نمت وصحوت ووجدتها ما تزال في الشقة ، فتحت النوافذ لتطير لكنها فضلت البقاء .!

ــ عجيب .!

 

أتصل بي عبد الغني نجيب زميل الدراسة الذي يعمل في أحد مراكز الدراسات وحين ألتقينا عرض علي عملا لم يخطر لي على بال .

ـ نريد من يعمل لنا دراسة ميدانية في وادي عبيدة بمارب 

وأضاف :

ــ دراسة حول مواقف الناس وزعماء القبيلة حول برنامج الحكومة لمكافحة الإرهاب ، وكذلك حول ضربات طائرات بدون طيار الأمريكية ، عن مواقف الناس من الإرهاب ورؤيتهم لحله .

ــ لا أريد السفر ولا الدخول في دراسات من هذا النوع .

ـ هي دراسة ميدانية مدتها من أسبوعين إلى أربعة أسابيع تلتقي بالناس وتستمع إليهم كونك صحفي وستكتب عن هذه القضايا من ثلاثين إلى خمسين صفحة .

اعتذرت له بحزم لكنه فاجأني : 

ـ المكافأة 25 ألف دولار  

ـ مش معقول !!

ـ يمكنك التوقيع على استلام التكليف واستلام ثلث المبلغ غدا ، وأضمن لك الباقي عند انجاز الدراسة .

كان المبلغ مغرياً وجاء في وقته ما جعلني أقبل بالسفر دون تردد .

عدت إلى المنزل فوجدت الحمامة ما تزال مستقرة فوق المكتب .!

في اليوم التالي حزمت حقيبتي وتوجهت نحو مارب .

المفاجأة التي لن تصدقوها أنني فور دخولي السيارة البيجوت التي ستقلني إلى مارب ، كانت الحمامة تستقر فوق السيارة ، ثم تطير بمحاذاتنا حتى وصلنا .! 

حين وصلت مدينة مارب " المجمع " أستضافني تجار من البلاد ونسيت قصة الحمامة .

وحين توجهت بعد أيام نحو وادي عبيدة عادت للظهور ومرافقتي .!

توجهت إلى منزل الشيخ مبخوت عايض وعرفته بنفسي ومهمتي فرحب بي وبقيت في منزله .

في اليوم التالي أثناء تجوالي في الوادي ظللتني مجموعة من الحمام بشكل غريب لفت أنظار الناس إلي ، حيثما أذهب تظللني الحمام .!

وبدأت أفكر : 

ـ هل أنا من أولياء الله الصالحين حتى تظللني الحمام حيثما ذهبت ؟!

وانتشر الخبر وتوافد الناس علي ، البعض يطلب أن أدعو لولده حتى ينجح في دراسته ، والبعض يريد مني علاج مريضه ، وكل له مطلب وأنا ألبي مطالب الناس وأنا غير مصدق ما يحدث .!

لقد نسيت مهمتي وتحولت إلى ولي من الصالحين يتبرك الناس بي ويقبلون رأسي ويدي ، وبعضهم يرمي بنفسه عند أقدامي وأنا مذهول مما يحدث لي .!

بعد أيام ذهبنا مع الشيخ إلى مزرعته وفوجئت بأن الحمام قد رحل عني ولم تبق إلا حمامة واحدة ترافقني .!

قلت لنفسي : 

ــ يبدو أن الله قد نزع الكرامة العجيبة عني .!

وبقيت استغفر وأسأل الله أن يعيد لي كرامته فقد استهواني حب الناس وتقديسهم لي .!

وعادت الحمام ترافقني ففرحت من أعماق قلبي لأن الله رضي عنه وأعاد لي كرامته .

بعد أيام أتصل بي أحد الزملاء وتحدثنا عن سفري لمارب ، ثم أخبرته بقصة الحمام فتعجب كثيرا ثم قال :

ـ لا تظن أنك ولي هذه القصة لم تدخل دماغي .!

وأضاف : 

ــ أكيد في حاجة مش طبيعية .

لقد أزعجني حديثه وبدأت أفكر في الأمر بجدية ثم فاتحت الشيخ في الموضوع فقال : 

ــ غدا نعرف الحقيقة 

ــ كيف يا شيخ 

ــ ولا تستعجل خلها على الله ثم على أخيك .

حين خرجنا للمسجد لأداء صلاة الظهر ظهرت الحمام تظللني وإذا بالشيخ يطلق النار بشكل مفاجئ على إحداها لتسقط أرضا وتطير بقية الحمام بعيداً ، وفوجئنا بأن الحمامة آلة معدنية داخلها كاميرا دقيقة تصور وتسجل .!

ــ أبوك يا الولد ما ناقص إلا الحمام يتجسس علينا ؟!

 

وخاب أملي في نفسي وهويت من سماء الكرامة والولاية إلى الفخ الذي نصب لي فغادرت القبيلة فورا وعدت إلى صنعاء .

هرعت إلى مدين فأمسكت بتلابيبه :

ــ هكذا تفعلون بي ؟!

أقسم الأيمان المغلظة أنه لا يعلم شيئا وتعجب من قصة الحمام قائلاً : 

ـ لماذا سيتجسسون عليك ؟ من أنت ؟

 وأضاف : 

ـ طائراتهم وأقمارهم الصناعية ترصد كل شبر في وادي عبيدة ومناطق اليمن والعالم ولا يحتاجون لأمثالك فلا تكبر الموضوع .

وهدأت قليلا ثم غادرت إلى القرية وإذا بعبد الغني يتصل بي :

ــ أين الدراسة يا أستاذ ؟!

ــ قصة الحمام جعلني انسى الموضوع كله .

ـ وأنا ما دخلنا يا أستاذ بقصة الحمام أو العصافير ؟!

وأضاف :

ــ أنت استملت المبلغ عهدة بضمانتي فإذا لم تنجز الدراسة سوف أتحمل أنا المبلغ فهل هذه هي أخلاق الزمالة ؟! أوفر لك عمل مغري فيكون هذا جزائي ؟!

ــ مركزكم منسق مع الأمريكان 

ــ غير صحيح ، وأفرض أنهم يدعمون المركز كغيرهم طالما وقعت على تكليف المهمة نفذها أو أعد المبلغ .

وعدته بأن نتفاهم حين أعود لصنعاء .

وبقيت في صراع نفسي لأيام : هل أكتب الدراسة التي وعدته بها ؟ أم أصر على موقفي وأجعله يتحمل نتيجة ثقته في ؟ ثم ما ذنبه هو ؟ ثم لماذا لا أكتب دراسة بحثية موضوعية كأنها لأي مجلة رصينة ؟

كما يكتب محمود ياسين استطلاعاته لمجلة نوافذ ..

بعد عودتي لصنعاء جاءني نجيب وبعد نقاش طويل قال :

ــ تخيل أن مجلة قد أرسلتك لتلك المنطقة لعمل استطلاع ، ثم أكتب بصدق وضمير وسلمني ما كتبت وأستلم بقية المبلغ .

كتبت الاستطلاع وسلمته لنجيب واستلمت المكافأة حتى أورط زميل وضع ثقته في ثم قطعت صلتي به من يومها . 

بعد أيام عاود المطر هطوله في الليل وفجأة سمعت النقر على زجاج نافذتي ، حين رأيت الحمامة أحسست بالخوف ، اذا فتحت لها فقد تنفجر في فورا ، لكن لماذا سيغتالونني ؟! من أنا ؟! 

وبعد لحظات من التردد فتحت لها فدخلت تنفض ريشها ثم استقرت على المكتب في مواجهتي نظرت إليها ثم ألقيت ما يشبه محاضرة على الأمريكيين عن الإرهاب وحقيقه والجرائم التي ترتكب باسمه . 

بعدها أحسست بالارتياح لقد أوصلت رسالتي لطغاة العالم .

وحين داهمني الجوع ولم أجد ما آكله ذبحت الحمامة وفوجئت بأنها حمامة فعلاً وليست آلة تسجيل وتجسس ، لقد كان مرقها لذيذا ولحمها شهيا في تلك الليلة الباردة !

 

****

مشاهدة المزيد