خطبة الوداع " الرئيس الذي كان في مشروعه تحرير فلسطين "!!
بقلم/ ضياء محمود
نشر منذ: 13 سنة و 7 أشهر و 6 أيام
الأحد 27 مارس - آذار 2011 03:20 م

إن مشاعر الفرحة التي تنتابني هذه الفترة جراء صحوة الشعوب وتهاوي العروش الراكدة، لتساوي في الوقت نفسه مشاعر الشفقة التي لا أستطيع إخفاءها كلما رأيت أحد أولئك الذين تربعوا على العروش، طيلة عشرين سنة أو ثلاثين أو أربعين. بعد كل ذلك التجبر والتفاخر والكبرياء والغطرسة واستحقار معارضيهم، وبعد لغة العلو والقوة والتهديد والوعيد، وبعد علامات الانبساط والسخرية في وجوههم... إذا بكل ذلك يتبخر، وتحل محله لغة الاستجداء والاستعطاف، ومحاولة التذكير بالتاريخ النضالي (!)، والتأتأة في نطق الكلمات، وتجميع الجمل...

لقد كنت أستمع إلى كلمة الرئيس التي ألقاها في ميدان السبعين، فكنت أستمع إلى كلمة رئيس يعاني الهزيمة النفسية، ويصارعها بكلماتها التي لا تكاد تخرج حتى يكررها ثلاثاً إلى خمس مرات. شعرت بالمرارة التي يعانيها وهو يلقي كلمته - وربما كلمته الأخيرة أمام جمهور طالما حشدهم ببريق أموال الشعب المنهوبة – فهو يشعر هذه المرة أن الجمهور الذي يقف أمامه ليس جمهورا حقيقيا، ولا هو إفراز حقيقي لإرادة الشعب. كان يدرك هذه المرة أن هؤلاء لم يجتمعوا إلا بعد أن تكبدت خزينة الدولة مئات الملايين لجمعهم، وبعضهم جمعهم كحصاد لأعماله التجهيلية للشعب طيلة حكمه، فها هو يجني ذلك من تأييد جهلة أو مغيبين عن الحقيقة... كان يشعر بذلك ويرى الصورة على الضفة الأخرى، وهي تموج بأمواج بشرية، تعكس إرادة الشعب الحقيقية التي طالما ختقها وسعى في وأدها، هو وزبانيته. أمواج لم تحشدهم أموال مسروقة، ولا تهديدات مرهوبة.

سأقف مع بعض ما ورد في كلمته في السبعين، وفي مقابلته مع قناة العربية. وهي ربما تساؤلات لرئيس يعيش أسبوعه الأخير...

حين يقول: "جمعة التسامح"، أو يقول: "الجملة الأخيرة تجب ما قبلها" فالسؤال هنا: على أي قاعدة يكون التسامح؟

إن التسامح مطلب عظيم، مطلب شرعي ووطني وإنساني... ولكن التسامح لا يكون إلا على قاعدة المظلوم، وليس على قاعدة الظالم، المظلوم هو الذي يحق له أن يسامح، أما الظالم فعليه أن يعترف بذنبه أولا، ويبدي رضاه بحكم الحق، وللمظلوم أن يسامحه أو يعاقبه. فعلى أي قاعدة يكون التسامح؟ هل على قاعدة الدماء التي نحرها قرباناً لتشبثه بعرش متهاوي؟ أم على قاعدة الفساد الذي صار ضحيته مئات الآلاف من الشعب بين فقر وجوع وذل وجهل؟ أم على دعواه بأن قادة الثورة هم تجار مخدرات وتنظيم قاعدة؟ ونحن نعرف مثله تماما من الذي يلعب بورقة القاعدة، ويستفيد منها ويتاجر بها. كما نعلم تماما مثله من الذي يتاجر بالمخدرات، ويستفيد من أثمانها؟

وحين يقول أن المعتصمين يخرجون بالآلاف...خمسة أو حتى عشرين ألفا – فإنما يدل على شخص لا يمتلك مقومات الحكم، حتى الحساب الذي يجيده صغار الصحفيين، لا يمتلكه رئيس اليمن... ربما لا يكون ذلك عيبا (أن يكون ضعيف الحساب)، ولكن أليس عيبا ألا يكون في مستشاريه (الكبار) من يصحح له الرقم، أو يعطيه الرقم التقريبي!! ماذا يريد أن يقول: أن المعتصمين أقلية؟ فلماذا إذن يرضخ بالتنازلات؟ ولماذا يساوم على الرحيل لو أنه مستيقن من شعبيته؟ هو يعلم أنه بلا شعبية، كانت شعبيته تتمثل في القوة المسلحة، فحين انضمت إلى الشعب بدأ يستيقن من الأمر الحق. وفي هذا دليل واضح على أنه يعرف طيلة حياته الرئاسية أنه لم يحكم بالأغلبية، كان يكفي لصناديق الاقتراع أن تزور، لتتم المسرحية، أو تزور الإرادات، ثم تتكفل القوة بالباقي. هذا ما يقوله السيد الرئيس بتناقضه الصريح بين الفعل والقول.

خص -في حديثه للعربية –الحركة الإسلامية والإخوان بكثير من الحديث... وكنت أظن أنه بعد ثلاثة وثلاثين عاما يبدو أكثر فهما للشعوب التي تريد صوت الإسلام عاليا في مآذن المساجد، ومنابر البرلمان والرئاسة أيضاً. يقول أن الإسلاميين يتمسكون بالسلطة، وهم أطوع للغرب، وليس في مشروعهم تحرير فلسطين... لا أدري من أي تجربة أخذ هذه المقولة؟ أمن الإسلاميين في تركيا؟ أم من فلسطين؟ رأينا من هو أكثر تمسكا بالسلطة في فلسطين، حتى إنه ذبح شعبه وباعه للشيطان من أجل الكرسي. ورأينا مواقف الإسلاميين في تركيا الذين ناصروا الحق الفلسطيني وتحدوا الجبروت الغربي..في حين لم نسمع من أصحاب الثلاثينات والأربعينات كلمة إدانة لما حصل في غزة... لا أدري: هل كان في مشروعك سيدي الرئيس تحرير فلسطين؟ لم لم تظهر ذلك حتى تتعاطف معك الشعوب؟ أم أن ذلك في مشروعك: ألست تخشى من الغرب إذن؟ إنها لعبة سخيفة تمارسها في أسبوعك الأخير. لماذا لم تترك بعدك مقولة (الرئيس الذي كان في مشروعه تحرير فلسطين!!). إن التشبث بالسلطة هو ما جعلك تقف هذا الموقف أمام شعب جبار عظيم، ماذا نقول عن شخص يحكمنا منذ 33 سنة؟ هو غير متمسك بالسلطة؟ شخص يرى السلطة مغرما؟ أي سخف بربك هذا! أي سخف أن نذبح الشعب في سبيل التشبث بالسلطة!!

وحين يقول أن الناس تخاف من الإسلاميين؟

فسؤالي: من هم الناس؟ ومن هم الإسلاميون؟ إذا كنت تعني بالناس الغرب، فأعتقد أنك لم تفهم بعد أن الشعوب العربية اليوم تسعى إلى التحرر، تريد أن تكون ذات سيادة على أرضها، دون وصاية من الغرب. فالشعب اليمني مثلا اليوم لا يريد أن يكون رئيسه عميلا لأمريكا، ويقول لها: اقصفوا وأنا سأغالط الشعب. الناس اليوم لا تخاف من أحد، لقد خفنا كثيرا من أمريكا ومن عملائها، ولكن علمتنا الثورة التونسية والمصرية أن الشعب أقوى، وأن الخوف ولى، وأن الذي يخاف هم العملاء والخونة فقط. أما إذا كنت تعني بالناس الشعوب، فالشعوب ستختار من يمثلها بإرادة حقيقية لا تزوير فيها، وهذه الشعوب لا تخاف ممن يمثلها وينطق باسمها ويعبر عن إرادتها، وحين يخرج عن ذلك، ستخرج لتنحيته دون قطرة دم واحدة. لقد مضى زمن تخويف الناس بالقاعدة والإسلاميين، سواء الشعوب العربية أو الغربية. فحتى الغرب أيقن اليوم أن التطرف لم يتفرخ إلا في ظل أنظمة الاستبداد التي رعاها عقودا طويلة. وبذلك نفض اليوم يديه عن رموز الاستبداد وأنظمته.

لو كان الشعب يحبك ولم يخف من بقائك في الحكم – فلماذا خرج اليوم إلى الشارع يطالب برحيلك؟ ما الذي قدمت له أنت وأولادك بعد ثلاثة وثلاثين عاما؟ تغول للفساد! مزيد من الفقر!! والجهل!! والمرض!! والذل!! ورؤوس تمشي على استحياء في دول العالم!! وسمعة سيئة!! وأخيرا دماء طاهرة برئية تشكوك عند ربها، وتقول:"بأي ذنب قتلت"؟.

أقف وقفة أخيرة مع دعواه أنه رئيس دستوري، وأن علي محسن ضابط موظف. فنقول يا سيدي: أنسيت أنك ضابط، سرقت السلطة، وخدعت بعض الشيوخ، ثم مكثت فيها أكثر من ثلاثين عاما؟ وهذا هو الفرق بينك وبين علي محسن، فهو ضابط نعم، ولكنه لم يسرق السلطة مثلك. ثم لما ذا التعالي: هو ضابط موظف، وأنت ألست موظفا (لو كنت رئيسا دستوريا كما تزعم) من حق الشعب أن يقيلك إذن؟ ألم تنقلب أنت على من سبقك بكيفية ستكشف بعد أسابيع من رحيلك؟ ثم تزعم أنك دستوري؟! أي دستور هذا الذي تعنيه؟ دستور القوة؟! أم ماذا؟!

لقد قال كلاما كثيرا، يحتاج إلى وقفات، ولكن لا الوقت يسعفني، ولا المقال يسمح بأكثر، إنما آسف لرئيس لم يفهم بلاده بعد أكثر من 33 عاما اغتصب فيها الحكم. لا يفهم الفرق بين الثورة والمظاهرات، ولا يفهم أن الشعب عصي على الانقسام أو الانشطار أو الحرب الأهلية، وأنه ظل طيلة حكمه يزرع بذور الطائفية، كي يضمن بقاءه في الحكم. ولا يفهم أن الشعب اليمني أحسن ثقافة وأكثر حضارة من غيره، ولكنه عمل على تجهيله وتخلفه.

سيدي الرئيس أستودعك الله. هذا خطابي الأخير لك. لقد رأيتك في قناة العربية فعلمت من خلال كلماتك وحركاتك ومشاعرك أنك تودع الكرسي الذي تشبثت به. ورأيتك في ميدان السبعين، فعلمت أن هذا هو الحشد الأخير الذي سيجتمع لك، حشد ربما يعكس الشعور بالخوف والحرمان الشعبي الذي تعانيه بداخلك، فجيئ بهذا الحشد حول قصرك، لتشعر أنك ما زلت بأمان، أو تخدع نفسك بهذا الشعور. ليس أكثر.