الفتاوى في اليمن ..خفايا وأسرار
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 14 سنة و 6 أشهر و 4 أيام
الجمعة 14 مايو 2010 06:52 م

للفتاوى في كل بلد ، ظروفها وأحوالها ، وملابساتها ، ولعلّ من هذه البلدان ، اليمن ، فالفتيا في اليمن ، تمر بكثير من المراحل والظروف والأحوال ، نود أن نعرج على بعض هذه الظروف ، لا نبتغي من ذلك إلا وجه الله والدار الآخرة ، وسأجتهد أن أتجنب ذكر الأسماء والمسميات والهيئات والمؤسسات ، لأن الذي يهمنا هو المعالجة والإصلاح ، قدر الإمكان وقدر الإستطاعة ، وليس هدفنا النيل من الأشخاص والمؤسسات .

فأول سر تتأثر به الفتيا في اليمن هو \"القات\" ومجالِسه ، وأعتقد جازماً أن بعض الفتاوى المزلزلة ، الأشبه ببركان ايسلندا ، إنما تصدر عن مجالس القات ، ولعلّ البعض يستغرب مثل هذا القول ، وربما ظنه من باب المزاح والدعابة والفكاهة الصحفية ، وأحسب أنه بعد مطالعة ما سأذكره ، سيتغير الموقف ، فمعلوم أنّ للقات تأثيراً بالغاً في صياغة الآراء والتوجهات والقرارات في اليمن ، سيما بعد التقارير الطبية لمنظمة الصحة العالمية التي تؤكد أن القات يعد من أهم أنواع المخدرات وأخطرها ، ومن أراد التأكد فما عليه سوى الرجوع إلى وزارة الصحة اليمنية التي تحتفظ بهذه التقارير .

بالطبع قبل أن أسترسل في ذكر تأثيرات هذه الآفة على الفتيا في اليمن ، أود أن أبرأ ساحة العلامة المجتهد / محمد بن علي الشوكاني ، وتلاميذه المتقدمين منهم والمتأخرين ، فالعلامة الشوكاني ، كان يتعاطى هذه المادة ، حتى روي عنه أنه قبل وفاته بلحظات ، طلب غصناً منها ، فمضغه ، ثم توفي ، رحمه الله ، بيد أن العلامة الشوكاني كان يمضغ القات ، وهو يجهل ما فيه من علل وأسقام وأوبئة ، لم تكتشف إلا في العصر الراهن ، كما أنه إنما كان يتناول القات بقدر معقول ، فكان أشبه ما يكون بالعلك أو اللبان ، بمعنى أنه لم يكن يخزن على جنبيه أو شدقيه، أو على كل وجهه ، ولِساعات طويلة ، كما يصنع بعض طلبة العلم المتأخرين ، الذي يطلقون فتاواهم ، تحت تأثير هذه المادة السامة .

إضافة إلى أننا نحسب أن هذه السيئة لا تكاد تذكر، في سجل العلامة الشوكاني ، فهي تغمر في بحار حسناته العظيمة، والله تعالى يقول : {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}المؤمنون102.

هذه الصورة المستثناة فقط من القاعدة العامة ، وإلا فآفة القات كارثة كبرى على اليمن وعلى العلماء ، وطلبة العلم والدعاة في اليمن على وجه أخص.

فلقد علم بالطب ، وعلم بالاستقراء ، أن من يتعاطى هذه المادة السامة ، يفقد كثيراً من عقله وصوابه ، سيما إن تعاطاه بكميات كبيرة ، كما يفعل بعض طلبة العلم ، الذين يحرصون على التخزين ، ولا يعتبر تخزيناً ، ما لم يملأ أحدهم شدقيه ومقدمة فمه ووجهه ، ليشعر بالنشوة الحقيقية .

ومما روي في هذا الصدد ، أن أحد المخزنين وزوجته خزنا في ليلة من الليالي ، وفعل فيهم القات فعلته ، وكانا يسكنان في عشة من العشش ، (العشة بيت من الشجر والسعف ، ونحوه) ففكرا تحت تأثير القات ، أن يهدما هذه العشة ، التي لا يملكان سواها ، على أمل أن يأتي الصباح فيبدئان بالبناء ، لمنزل حديث مسلح ، فهدما تلك العشة المسكينة ، وأصبحا بلا مأوى .

ومثل هذه الرواية ليست نكتة ، بل هي حقيقة ، تتكرر كثيراً في أوساط المخزنين .

ومن الطريف في هذا المقام أن أذكر هنا أن أحد المشايخ ممن يدير بعض الأربطة العلمية والفقهية ، قرر منع القات في هذا الرباط العلمي ، وكلف من يعد لائحة بذلك ، ضمن لائحة شئون الطلاب والإسكان ، وفعلا أعدت اللائحة وكتبت ونشرت ، وتضمنت أنه \"يمنع منعا باتا تعاطي مادة القات داخل السكن الجامعي ، أو الغرف السكنية \" بيد أن الشيخ فشل فشلا ذريعاً في تنفيذ هذه المادة،، لسبب بسيط هو أنّ من كتب هذه المادة ومن يشرف على تنفيذ هذه اللائحة هم من كبار طلبة العلم المخزنين ، وصارت هذه المادة محل تندر من أمة المخزنين ، ومعلوم أنه في اليمن للعلاقات الشخصية دورها السحري في إلغاء أي مادة أو قانون أو حكم ، أيا كان ، سيما إن كان ذوو الدم الأزرق القاني طرفاً فيها .

من جهة أخرى بعض الأحزاب الإسلامية في اليمن ، اتجهت نحو مقاومة \"التخزين\" ، وعممت على بعض مؤسساتها الانتهاء السريع عن التخزين ، ولو في المقرات الحزبية ، والمؤسسات التربوية والتنظيمية التابعة للحزب ، لكن الفكرة فشلت في مهدها حسب علمي ، ولو نجحت الفكرة ، واتسعت وانتشرت ، لربما نجح هذا الحزب في كثير من شؤونه السياسية والفكرية ، واختصر كثيراً من الأزمنة والجهود .

من جهته أعلن قديماً فخامة الأخ الرئيس وبنفسه منع تعاطي القات في مؤسسات الدولة وأجهزتها ، واستبشرنا خيرا بهذا القرار ، وظنناه قرارا سينقل اليمن إلى تاريخ جديد ، على طريق يمن بلا قات ، بيد أنا لم نر هذا القرار واقعاً ملموساً ، ولو في مؤسسة واحدة ، أو حتى جهاز الحراسة في دار الرئاسة ، ولربما ولعلّ من أسباب فشل هذا التوجيه الكريم ، أن القرار اتخذ ، في لحظة نشوة قوية ، ولربما كان فخامة الأخ الرئيس هو الآخر مخزناً حين اتخذ هذا القرار ، لأنه بكل المقاييس لم يكن نابعا عن دراسة وتمحيص ، على الأقل لوسائل وسبل التنفيذ، ولذا ماتت الفكرة قبل أن تولد، كذلك .

هذه الآفة الكبرى في تاريخ اليمن السعيد امتدت وبقوة إلى أربطة العلم والجامعات والمؤسسات ، ومراكز الفتيا ، وأثرت ثأثيرا بالغاً في كثير من الفتاوى والرؤى والفعاليات بل والقرارات ، وأعتقد جازماً أن في القضاء على ما يسمى ب\"التخزين\" قضاء على 80% من مشكلات اليمن .

ولذا فإني أنتهز هذه الفرصة وأقترح على أخي الحبيب وصديقي العزيز ، الدكتور/ عبد الملك التاج ، أن ينشأ مركزاً لمكافحة القات ، يعمل جنباً إلى جنب ، مع مركز الإيمان ، ليكمل أحدهما الآخر ، فلو استطعنا الحد من التخزين ، ولو في صفوف المشائخ وطلبة العلم ، لخفت كثير من الفتاوى التي تثير الصحفيين والإعلاميين ، على العلماء وطلبة العلم ، ولَسرنا سيراً مباركا في درب الإيمان وتقويته وزيادته ، بإذن الله ، بعيداً عن النقاشات البيزنطية ، والمسيرات المليونية ، ولتحركنا نحو العمل والإنتاج ، بلا قات ، ولكانت بإذن الله ثمرة الإيمان أعظم وأكبر .

باختصار نحتاج إلى ثورة شاملة ضد القات ، تبدأ من أفواه طلبة العلم أولا ، ولو بالتدرج بأن ندعو إلى التخزين في أوساطهم على جنب واحدة ، بدلا من الجهتين ، على طريق اجتثاث القات كلية في يوم ما من جذوره ، ونرى علماء وطلبة علم ، بلا قات .

السر الآخر في الفتاوى اليمنية المثيرة للجدل ، أن بعضها تصدر من بوابات السفارات الأجنبية ، وليس من تحت مآذن المساجد ، بمعنى آخر ، أن ثمة توجهاً جديدا ، لدى قوى الهيمنة الدولية يرى تجزئة المجزئ ، والتغلغل في أوساط الإسلاميين ، بحثاً عما يسمى ب\"الاتجاهات الوسطية المعتدلة \"، وهذا هو السر في مغازلة بعض القوى الاستعمارية للإسلاميين ، في أكثر من بلد ، بالطبع ليس حباً في الإسلاميين ، وإنما بحثاً عمن يستجيب للمطالب الاستعمارية والرؤى التجديديه ، نحو صناعة إسلام حداثي ، يجمع الاتجاهات المعتدلة من كل الديانات ، لمواجهة ما يسمى بالتطرف الديني ، ومن هنا نسمع عن بعض الفتاوى العجيبة الغريبة ، مثل القول بأن اليهود والنصارى ليسوا كفارا ، وإنما هم أشقاء للمسلمين ، والجميع ذوو رسالة واحدة ، هي رسالة الحب والسلام ، بغض النظر عن عشرات النصوص المتواترة وإجماع الأمة ، ومثل القول بجواز إمامة المرأة للرجال وجواز تأذينها لهم وخطبتها للجمعة فيهم ، وهذا ما يفسر لنا من جهة أخرى سر الهجوم الكاسح من بعض الأقلام على الشريعة الإسلامية بإطلاق ، وغير ذلك مما لا يخفى على متابع .

في تقديري هذان هما السببان الرئيسان البارزان في صناعة الزوابع الفكرية التي تحيط بالفتيا في اليمن ، وأرى ضرورة ترشيد الفتيا ، بألا تصدر الفتيا إلا من جمهرة العلماء الذين استفاضت شهرتهم وعدالتهم في الناس ، وممن التف السواد الأعظم من الأمة الراشدة حولهم ، وسارت في ركاب دعوتهم ، وأن تعرض الأمة صفحاً عن الفتاوى الفردية من أئمة التخزين ، وأساتذة القات ومجالسه ، وأن تعرض صفحا كذلك عن فتاوى رواد وزوار وزائرات السفارات الأجنبية .

ملحوظة : كاتب هذا المقال غير مخزن .

والله من وراء القصد ، والحمد لله رب العالمين ،،،

Moafa12@hotmail.com