القرآن بين تجارة الدنيا وربح الآخرة.
بقلم/ ابو الحسنين محسن معيض
نشر منذ: 12 سنة و شهر و 20 يوماً
الثلاثاء 25 سبتمبر-أيلول 2012 06:11 م

لاحظ صديقي تغير في طباعي وعصبية في معاملتي اليومية, فأصر على أن يأخذني إلى شيخ يعالج الناس بالقرآن ,وحاولت إفهامه أن التغيرات ناتجة عن تقلبات الحياة وكدر العيش في ظروف صعبة , وأمام إصراره لم يكن أمامي إلا الذهاب معه , وهناك وقفنا ننتظر حضور الشيخ تحت عمارة عُلق على جدارها لائحة كبيرة تحدد اسم المركز العلاجي واسم الشيخ المعالج وعدد من أرقام الهواتف للتواصل معه , وأقبل في سيارته الفارهة وحلته البهية معتذرا عن عدم تمكنه من القراءة الأن على أن نلتقيه غدا صباحا !وفي الطريق أبديت لصديقي رفضي العودة لاقتناعي التام بعدم جدوى علاج من يحترف المتاجرة بكلام الله والتكسب من خلاله ليحوز متاع الدنيا من سيارات وعقارات وهبات ,وهو أمر شائع في أيامنا هذه فكثير من الشباب الملتزم صار يعالج بالقرآن الكريم مرضى المس والعين وأنواع الوساوس والسحر مقابل مال وعطايا مستغنيا بذلك عن أي عمل أخر .

وأنا هنا لا أنكر فضل كلام الله وتأثيره في النفس علاجا وشفاء وسكينة ورُقية , ولكن ما لا أستسيغه أن يتحول كلام الله المتعبد بتلاوته إلى مجرد كتيب عمل تجاري يُسترزق من وراءه بنعيم الدنيا . وخلال مسيرته العملية يقوم محترف هذا العمل يوما وراء يوم بتطوير وسائل الكسب المادي وتوسيع دائرة نشاطه من القرى إلى المدن ومن وطنه إلى أوطان شتى , وربما استعان مستقبلا بفريق عمل يساعده في الأداء وترتيب الزيارات وجدولة الأعمال .

وأغلبنا قد سمع برجل من هذه النوعية في دولة مجاورة استخدم وسيلة عصرية ليمارس عمله عبر قناة فضائية أنشأها لهذا الخصوص ,وقد سافر إليه رجل من أقاربي طلبا لعلاجه ووجد موظفيه الذين أخبروه عن اضطراره للسفر خارج البلاد مطمئنين إياه بأن العلاج موجود ولا حاجة لوجود الشيخ الفاضل ! مشيرين بأيديهم إلى عدد من جوالين العسل والمياه والزيوت المتراصة والتي أضحت جاهزة للاستشفاء بها بعد أن تمت القراءة عليها من فم صاحب الفضيلة . واخبرني خالي أنه أتصل به يوما ليستفسر عن مرض ولده المعاق وإمكانية معالجته فأبدى الشيخ استعداده موضحا له عدم ضرورة حضورهما لتلقي جلسات العلاج ويكفي أن يحول على حسابه البنكي مبلغا محددا من المال ليصله العلاج الشافي دون تأخير مع كتيب طريقة العلاج ومقاديره .

ولقد انتشرت اليوم المراكز العلاجية في مدن وطننا بشكل ملحوظ حيث يتم جمع أكبر عدد من الناس في غرفة واحدة والقراءة عليهم عبر ميكرفون داخلي ليبدأ موال العويل والنحيب ويُصرف لهم العلاج اللازم وهو في العادة موحد لجميع الحالات المرضية بثمن معلوم . ومع جريان المال والعطايا يتحول المعالجون إلى الاحتراف بمهنية وعصرية وفقا لدراسات متخصصة تزيد من مكاسبهم , وصار عدد منهم يتنقل بين دول الخليج والمملكة معالجا أهل الترف والبذخ ومرضى الكسل والفراغ حاصدا منهم المزيد من المال والثراء وتهافت العملاء . ولا يعني هذا عدم وجود نماذج نادرة مخلصة في عملها تقدم الخير والعلاج والاستشفاء طالبة مرضات الله وحسن ثوابه ولا تهتم بموضوع الأجرة كثيرا . وقد زار عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أحد المسلمين وهو مريض وقرأ عليه فاتحة الكتاب فبرئ الرجل بفضل الله، ومرض الرجل مرة أخرى فطلب من رجل زاره أن يقرأ عليه بفاتحة الكتاب كما صنع عمر، فلما قرأ عليه الفاتحة لم يبرئ الرجل فقال الراقي : (والله إن الفاتحة هي الفاتحة ولكن أين يد عمر؟ ) فالقضية إذًا ليست في الآيات وشرعية الرقية بها وإنما في اليد الطاهرة المخلصة التقية التي توضع على المريض فيحصل الشفاء بفضل الله . ومن هنا فأتمنى على الناس أن يتريثوا في كثير من أمور أمراضهم ومشاكلهم , فلا تعني إصابة أحدهم بصداع وفقدان شهية أو قلق وأرق أن ذلك بسبب مس أو عين أو سحر ويستدعي بالضرورة العلاج بالقرآن , ولكن عليهم اخذ الأسباب العلمية والطبية وغيرها من الوسائل وبعد ذلك لكل حادث حديث . وأتمنى كذلك على أهل العلم والاختصاص أن يضعوا هذا الأمر نصب أعينهم نصحا وتوجيها ومراقبة فلا يصح أن يترك حبل هذا الأمر على غاربه . كما لا يصح لكل من حفظ شيئا من كتاب الله أو قرأ كتابا في العلاج بالقرآن أن يبدأ في الاسترزاق بدون خبرة وفهم أو تقوى وإخلاص , ويقوم باستخدام وسائل ضارة بالمريض كالضرب المبرح والصعق بالكهرباء أو الخنق والكي , كما أن البعض منهم قد يقع في محظورات شرعية لا حاجة لها كالإمساك بالنساء في أماكن حساسة من أجسادهن ! بحجة مطاردة الجني الهارب من القرآن عبر شرايين جسدها !

ولو كانوا ولابد فاعلين فليتهم يقرأون على جسد الوطن المعلول حتى يرحل عنه جني عنيد يأبى وحاشيته الرحيل.