أشجان مرتبكة وحنين مبعثر
بقلم/ جمال أنعم
نشر منذ: 6 سنوات و 3 أشهر و 9 أيام
الأحد 16 سبتمبر-أيلول 2018 08:04 م
 

ليس سهلا على رجل تربى وعاش عمره في تنظيم تشكل فيه وعيه ووجدانه وانفتحت مداركه وصار بعضا من شخصيته وروحه وتاريخه ودوال حضوره.

الأمر مرتبط بأشواق وحنين ووشائج وعلائق روحية وإنسانية وجودية من الصعب نسيانها أو التعامل معها بإنكار أو رميها خلفك ببساطة في لحظة حنق وتذمر أو عند نشوب أي خلاف.

لم اكن يوما على الحافة بل كنت في قلب الإعتراك وشاركت في مؤتمر التأسيس الأول كعضو مؤسس وانا الشاب اليافع خريج الجامعة المزهو بمشاركته الباكرة كأب مؤسس وهو في الريعان. لهذا بقي الإصلاح لدي ذلك الشاب الذي يكبر في الفعل والحضور دون أن يهرم أو يشيخ.

اقتربت من دوائر صنع القرار داخل الحزب بما يكفي كي أعرف الكثير مما ألوم عليه وأعذر، ولقد ابتعدت فترة عن الحياة التنظيمية والنشاط الداخلي لكني لم انقطع عن العمل الحزبي العام ولم أتوقف عن السير كإصلاحي صميم.

في العام 97 التقيت الأستاذ نصر طه وكان يرأس المركز اليمني للدراسات الإستراتيجية وكان لقاءنا يومها رفقة الأعزاء الراحل الملهم حميد شحرة رحمة الله عليه وسعيد ثابت شيخي وأستاذي وصاحبي الأكثر قربا واستنارة وتقدما في الطريق وكذا رفقة العزيز الأستاذ محمد زبارة المدير التنفيذي للمركز حينها.

وانظم الينا لاحقا الزميل البهي والمبدع محمود ياسين حيث كانت أول إطلالاته من خلال "نوافذ" مجلتنا الأثيرة والتى كانت نتاج شغف جماعي ومحبة ووعي متجاوز، وتضافر إبداعي ضمن لها عمرا من الصدور والإنتشار المثير للإنتباه والإهتمام والريبة والحنق، وشكلت منطلقا لزملاء كثر نبيل الصوفي وعلي الجرادي وعادل الأحمدي ورفاق عديدون أسهموا في تعزيز نوافذ ومنحوها الكثير من الخصوصية والفرادة والألق والثراء والتنوع.

 

ولقد اختبرنا سويا معنى أن نعانق آفاقا أكثر حرية، وكيف صارت "نوافذ" فضاءات للروح والعقل! وكيف استطاعت بلورة خطاب مختلف اخترق العديد من التابوهات بسلاسة ومرونة وملاسة وذكاء! وكيف شكلت نوافذ مساحة تنوع وتعدد وانفتاح استقطبت من الصداقة والمحبة ما هون علينا نوبات مقت عارمة ونظرات ريبة وتشكك لمتشددين نافذين في دوائر القرار!

ولقد صرت اكثر قربا من القيادة خلال اكثر من عقد في الصحوة بصفتي الوظيفية والمهنية وببقائي كاتبا منقطعا بالقطعة رفقة محيط كبير من الزملاء النبلاء الموهوبين والمبدعين ممن نراهم اليوم أسماء لامعة ومكرسة في الوسط الاعلامي والصحفي عموما.

مثل العمل في الصحوة مسارا متصلا لما بدأناه في "نوافذ" وما زلنا كصحفيين عناصر فاعلة في المشهد العام وقد استطعنا تشييد علاقة جيدة مع قواعد التنظيم وقياداته المحلية وكذا مع الجمهور العام والنخب السياسية والثقافية والإجتماعية، ومارسنا ضغطا هائلا على قيادة الاصلاح تجلى في ردات فعل قوية ضد السياسة التحريرية وما عده البعض خطأ يمس الدين ويهدد الحزب. كنا ندرك أننا نتقدم بالخطاب بأكثر مما تطيق المؤسسة التنظيمية بمنطلقاتها ومنهجها وآلياتها المعتمدة ربما وهو ما أحدث إرباكا ووضع الدوائر الحزبية أمام تحديات مقلقة ومهددة للوعي المؤطر وللإنضباط التنظيمي وتماسك الصف حتى بلغ التوجس حد وضعنا ربما في دائرة الشكوك والترصد والمتابعة وإخضاعنا للتفتيش واعتماد إجراءات مكبلة للعمل الأمر الذي انتهى بنا خارج الصحوة والإصلاح فيما يتعلق بنبيل.

 

تلك مرحلة هامة بالنسبة لي أتمنى أن تتاح الفرصة للكتابة عنها بشفافية وموضوعية ومسؤلية وتجرد وإنصاف يعترف لقيادة الإصلاح بأكثر مما ينكر، فما كان للإعلام الإصلاحي أن يكتسب كل تلك الفعالية لو لم يحظ بدعم كبير من القيادات العليا للحزب إبتداء.

من خلال تجربتي ومعايشتي لم أشهد يوما أن الإصلاح مارس رقابة لصيقة على عملنا مطلقا سوى تلك الفترة النكدة التى تصاعد فيها سوء الفهم وارتفع الخلاف الى ذلك الحد الذي اشرت اليه سابقا، ولا التمس بالطبع البراءة لنا كصحفيين من الخطأ وسوء التقدير كما أن نزوعنا المستمر للعمل بحرية أكبر كان يضعنا في مواجهة دائمة مع سياسات التحفظ والضرورات التنظيمية القاهرة.

نصر طه وتاجر ماويه.

.

يتذكر العزيز نصر طه في العام 98 إن لم تخني الذاكرة كنا في تعز للمشاركة في عرس الزميل أحمد الشلفي، وعند الغداء توجهنا الى أفخر مطعم استطعنا العثور عليه، كنا مجموعة كبيرة من الأصدقاء والزملاء على مائدة ممتدة حافلة استكثرنا فيها من الطلبات انتهاز لكرم راعي الرحلة وبابتهاج يليق بمهنئين جاءوا من بعيد، وقتها لمحت شخصا بهيا يقف جوار المحاسب يهمس له وبفرح لافت يومي الينا.

قلت للإستاذ نصر كأن الرجل يحاسب عنا فالتفت اليه باستغراب واذا به يقبل متهللا ومحتضنا نصر بحب وشغف وهو يقول ارجو ان تقبل عزومتي، أنا واحد من قراءك المتابعين من زمان ولا أفوت لك مقالا.

وراح يعرفنا بنفسه تاجر جملة في مفرق ماوية، كانت هيئته تفصح عن ذلك، رجل مربوع القامة بملامح إبن بلد أصيل يعرف كيف يعبر عن سعادته وامتنانه لما يكسبه في عالم الروح والعقل والمعنى، ويدرك قيمة أن يلتقي رجلا أحب فيه ذاته وما زال من روافده في رحلة التكون والتعرف على الوجود.

تلك مأدبة لا تنساها الروح شعرنا بالزهو وانفتحت شهيتنا للطعام اكثر وحمدنا لنصر تلك الوليمة بأكثر مما حمدنا له كتاباته.

قلت في نفسي بذار المحبة تثمر يا نصر، الأمر ليس سهلا أيها الأعزاء ولا أظنه سهلا على أحد، ويود المرء أن لو كتب العديد من رفاق الدرب وبصدق وشجاعة وإنصاف يصون الذات عن الخفة ويكبرها عن السقوط في التبخيس المهين لعمر من الإنتماء وتاريخ من الفعل والتفاعل والتأثير المتبادل والعلاقات الكفاحية الممتدة والنضال المشترك.

كتابة تلك التجارب كخبرة إنسانية قد تكون مادة مهمة كاشفة تساعد على النقاش الحر والتفهم وعمل مراجعات حيوية على مستوى الفرد والمجموع، قرار الإستقالة ودوافع ومبررات التوقف والترك والإبتعاد، وحسابات الكلفة والتبعات على مستوى الروح والتاريخ الخاص والعام، والاختيارات اللاحقة ومستويات التبدل. الأمر يستوجب التبرير في اعتقادي كونه يمس جوهر وجودنا في الصميم، عمر من الولاء والانتماء الفكري والسياسي والقناعات والمواقف، حياة كاملة موارة يستحيل التنصل منها بلحظة ورميها خلفنا كنفاية أو كعار وعبء.

ثمة مسؤوليات لا يستطيع المرء التخلص منها ببساطة خاصة عندما يكون شخصية مؤثرة يمثل حضورها حالة الهام جماعية وترتبط مكانتها بالقيمة والمثال.

الأمر أكثر تعقيدا من مجرد الكلام عن الاختيار الشخصي الحر، وامكانية التخلي السهل عن كل ما كناه.

اتمنى أن نقارب هذا البعد بجدية اكبر وروح نقدية تحاول تفكيك هذه الارتباطات بموضوعية وإنصاف وبدون تحيزات أو نزعات خصامية وعلى نحو يساعد في صنع حالة من التكامل والاتساق ينفتح معها موضوع الإنتماء على المعنى الواسع للحرية والإلتزام والمسؤلية بحيث ننفي عن التحزب اعتباراته المقيدة للحرية والسالبة لإستقلالية الفرد والمصادرة لحقه في الاختيار دون أن تلاحقه الإتهامات والشكوك والريب والأحكام الجائرة والمطاعن الدامغة للشرف والفضيلة وللدين في أسوأ الحالات.

التحزب في عوالمنا ميراث عقائدي صعب، اتذكر كاتبا مرموقا في لحظات خاصة كان يتحدث عن شخصيات في التنظيم الوحدي الناصري كان لهم عليه تأثير وسلطان، وبرغم وجع الترك وألم نكران رفاق الدرب، لم يتمالك نفسه حتى اجهش بأسى وأختنق بالدموع.

تمنيت أن اكون متخففا الى درجة أن القي بالرجل الذي كنته ورائي لأعدوا جديدا خفيفا بلا ثقالات، ولا أزمة ذاكرة، ولا درب من اشجان ومواجيد وأخوة وحب، ولا رحلة بحث متواصلة عن الكينونة والمعنى والوجود الحي المنسجم المتماسك المتآلف المتواد والمتآزر.

تتلقاك المدائن بحب وترحاب، كل ما خطه قلمك يشرق ويزهر في الوجوه والوجهات، كلماتك تقابلك هنا وهناك، تسير معك، ترافق خطوك، تعيد ارشادك في لحظات التيه والتخبط، تواصل فعلها بقدر ما فيها من طاقة الحياة.

لم أمتن لشيئ داخل هذا التنظيم العظيم كما امتن للمحبة الغامرة وللحياة الوجدانية الخصبة الغنية، وللروابط الإنسانية الأخوية المتينة، ولنماذج ورموز عاشوا العظمة بصمت وتواضع وبساطة متناهية.

كما أشهد لهذا الحزب بالقوة والحيوية والصلابة والقدرة التنظيمية العالية، والتجذر العميق في قلب المجتمع، والروح الفدائية الواهبة، والسلوك المنضبط، والديناميكية الفائقة، والاستعداد الدائم للتطور والتغيير، والقابلية لإستيعاب الجديد، والعمل المشترك، وتجاوز مورثات الصراع، والمرونة وعدم التصلب والتخشب، والحركية الغالبة والدائبة، وأقر أن مشاكل الإصلاح ربما تكون قيادية ومنهجية وإدارية بدرجة أساسية.

لم أكن يوما إصلاحيا صالحا بمعايير رجل التنظيم، وبمقتضى اللوائح والإنظمة والتقاليد الصارمة، هذه المواضعات الشكلية لا تشهد لي، ولا تمنحني صفة الإلتزام، لكن ما أنا على يقين منه أني عشت اصلاحيا بما يكفي لكي أحب الإصلاح والإصلاحيين.

وهنا ارجو من الأعزاء الذين يجلدون ذواتهم واصلاحيتهم السمحاء أن يقرأوني بتسامح وبصيرة قادرة على تضفير الماضي بصورة تسمح بتحوله الى طاقة اندفاع وتوق للتجاوز . لا الى تاريخ معذب سالب للحرية والعقل وعمر مخجل يستدعي التبرؤ كما لو أنه عار مديد.

 

*نقلا عن صفحة الكاتب في فيسبوك.