رسائل مشفرة من بدروم جنوب غرب.. حبس وتولى
بقلم/ صحفي/عابد المهذري
نشر منذ: 18 سنة و 4 أسابيع و يومين
السبت 14 أكتوبر-تشرين الأول 2006 05:08 ص

كل شيء داخل هذا البدروم الضيق يصلح كمشروع لمادة صحفية متميزة: ذكريات السجناء وشخبطاتهم على جدران المعتقل، مئات قناني الماء المتراصة جوار باب الحمام، مروحية التهوية في عرض الحائط، لعبة «الكيرم» التي اهداها«مولَّد اثيوبي» لصديقه اليمني المسجون هنا: العم «يحيىالزئبق» بجثته الضخمة ومسجلته التي لا تسكت، رائحة الديتول والفلاش، سلك الكهرباء، وقصص النزلاء العشرة المطرزة بالظلم والألم وقصص الزنازن!!

* إنهم نائمون الآن.. الساعة التاسعة من صباح الثلاثاء. أتأمل تكورهم بهدوء تحت الفراش، وأستعيد ما قصّوه عليَّ مساء البارحة.. يتخذ «نبيل لقمان»، الشاب الأربعيني -الذي عرفت سجون العالم ملامح و جهه البشوش- من ركن السجن الجنوبي موقعاً يدير من خلاله شؤون المربع الرطب. نبيل بثقافته الواسعة ولغاته الثلاث أمضى 4 أشهر هنا على ذمة «شوالة وثلاجة» صارت مثل اللعنة تلاحق طموحه منذ سنوات. إنه عنوان النظافة والترتيب والأخلاق النادرة في هذا السجن الذي ودعه «محمود الصهيبي وخاله بشير» منتصف الليل وهما لا يرغبان بمفارقة البدروم، بعد اسبوع لذيذ من الحياة بجوار الرائع نبيل لقمان.

* يتردد «ج.ع» في السماح لي بنشر قصته باسمه الحقيقي.. يخاف أن يضاعف النشر الفترة التي قضاها في السجن لعجزه عن تسديد 6000 دولار بعدما باع أغلى ما يملك: السيارة ومحطة المياه.. ولا يقبل جار دار الرئاسة التفريط بـ300 لبنة من الأرض يمتلكها في حمى الحرم الرئاسي بمنطقة السبعين. يزرعون الذرة على المطر، ولا يكاد ما يبيعونه من الخضروات المسموح بزراعتها في هذه المنطقة المحظورة يكفيه وأسرته الكبيرة. لو لم تكن الأرض قريبة من الدار لكان ثمن اللبنة مائة الف دولار وليس 50 ألف ريال فقط. يرفض صاحبي رهن أملاكه أو بيعها ببخس. ينتظر عدالة الضمير وانسانية جاره الرئيس!!

قتلوا إبنه الشاب قبل ثلاث سنوات. الجناة عساكر وإبنه عسكري، كما هو أيضاً من أفراد المعسكر.

يعرفه هذا السجن منذ اشهر طويلة. لكنه لا يعرف معنى وجوده هنا بدلاً عن المجرم.. لقد سجنوه على خلفية اشكالات حول «حضانة» أحفاده أولاد المرحوم.. تتشعب قضيته وتتداخل ارتباطاتها لتصل إلى الشيخ الأحمر ورئيس الجمهورية. يتحرك الملف على طاولات المحاكم. لكن الحاج يحيى الزئبق (53عاماً) لا يجد من يحركه إلى خارج السجن.

حينما كان الزميل محمد الأسعدي معتقلاً في هذ المكان، سمع قصة العم يحيى وكتب عنها.. فيُفرج عنه مؤقتاً.. وما يلبث أن يعود بسرعة بشرط من القاضي محمد سهل أن لا يتحدث للصحافة، مقابل عدم نقله إلى السجن.

* يا الله.. ما أجمل حياة السجون!! الشبان الأربعة يخجلونني بنبل أخلاقهم. عندما عرفوا أني أعمل صحفياً طلبوا مني بكل أدب عدم نشر ما كنت قد سمعته منهم بالصدفة عما يحدث في سجن الأمن السياسي الذي امضوا داخل زنازنه الموحشة فترات تتراوح بين شهرين وخمسة أشهر. وحتى لا أجلب لهم الضرر سألتزم بأمانة الصمت.. وأكتفي بالإشارة إلى تمرينهم الطويل هرولةحول عمود خرساني في منتصف السجن، يحومون باللف عليه مشياً للتخلص من شد في عضلات الأرجل لأسباب تتعلق بظروف السجن الذي جاءوا منه.. وأترك بقية التفاصيل حتى يخرجوا.

* للنكتة حضور قوي في حجز محكمة جنوب غرب. روح الظرافة يبعثها المشاغب أكرم الحدأ، «الإرهابي الصغير» الذي حُوكم قبل ثلاثة أعوام بتهمة الإنتماء للقاعدة. تستمع إلى قصة إبن العشرين عاماً فقط ولا تملك إلا مبادلة الموقف بضحكات السخرية. لا يريد أكرم الخروج من هذا السجن إلى «الإحتياطي» كما يطلب غريمه الذي ينفذ والد أكرم طلباته كأوامر، بعد ما رفض هذا «الإفريقي الشقيق» الإحتكام للعرف «القبلي» لتسوية عراك شبابي بين نجله وأكرم الذي غرس جنبيته في ساق ابن حارته بشقاوة مراهق دفع الثمن هنا ومثله في سجن شرطة حدة.

* عتيقة النصابة قهرت صالح حيدر.. ويكتب آخر على ذات الجدار: «ولا تحسبن الله غافل عما يعمل الظالمون.. ما قيمة الحياة إذا فقد المرأ حريته».. وبخط واضح وجميل يناجي «أبو هاشم» ربه متفلسفاً: «يا رب لا تدعني أصاب بالغرور إذا نجحت، ولا أصاب باليأس إذا فشلت، وذكرني دائماً بأن الفشل هو التجارب التي تسبق النجاح. يا رب علمني أن التسامح ههو أكبر مراتب القوة، وأن حب الإنتقام هو أول مراحل الضعف. يا رب إذا جردتني من المال اترك لي الأمل، وإذا جردتني من النجاح اترك لي قوة العناد حتى أتغلب على الفشل، وإذا جردتني من نعمة الصحة اترك لي نعمة الايمان. يا رب إذا أسأت للناس اعطني شجاعة الاعتذار، وإذا أساء الناس إليَّ اعطني شجاعة العفو. يارب إذا نسيتك فلا تنساني.. يارب».

يبدو أن غالبية من يسجن هنا يحرصون على تدوين ذكرياتهم وترك توقيع وبصمة على وجه الحيطان. حسن عشال يدعو الله في اكثر من مكان أن يحقق له أمنيته التي لم يفصح عنها. وعلي الشيعاني يستفسر: «يامن هواه أعزه وأذلني.. كيف السبيل إلى وصالك دلني». وبالبنط الأحمر العمالقة «عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب» يسجلون ذكرياتهم هنا. ومنهم من يصف نفسه بين قوسين بـ«أخطر نصاب» فؤاد أحمد الجعدبي.. وبتوقيع مجهول يرد هذا الزامل: «نسجن والغير يسرق ويعيش مرفوع هامة... نُسجن ياليت نطلق دون أن ندفع رسامة». وفي مكان مقابل تقرأ باللون الأخضر: «الله اكبر.. الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل.. اللعنة على اليهود.. النصر للإسلام» ويطالب: المطفري، دهمس، المخلافي، العريج، العريفي، الحمادي، الحرازي، الوصابي، عرب، والدنكلي، «الظالم» أن يتذكر قدرة الله إذا دعته قدرته إلى ظلم الناس.. لكن الذي أوضح أن «جغمان جغم جغمة كبيرة» تركنا أمام علامة تعجب أكبر!!

* نكتشف أمنية حسن عشال «العاشق الولهان» في بيتين شعر يعترف فيهما بالآتي:

«أشهد أن العشق يستحق القومة، وأشهد أن كلام خلي قد غير أفعالي.. لو غمز لي بعينه والشفة مضمومة، والله مدري ويش بعدها يجرا لي».

ميكي ماوس هنا أيضاً برفقة أبو بكر الشرجبي الذي رسم الصورة الكاريكاتورية بجوار بيتين من شعر الإمام الشافعي. حتى الحكومة لها ذكريات خاصة: من أسموا أنفسهم وزراء دولة «جنوب غرب الأمانة» لم يعد واضحاً إلا إسم رئيس مجلس الوزراء عبدالدائم المقطري وبقية الأعضاء طمسهم الزمن من على ظهر الجدار.

* بجوار الشعار الحوثي، يكيل أحدهم اللعنات للقضاء والقضاة والنيابة واعضاء النيابة، وبالقرب منه يحرص زميل له على التذكير بالفرق بين المسلم والكافر، ناصحاً السجناء بالصلاة. بن لادن وبوش ونانسي عجرم ومشاهد الدنيا تلقاهم على هذه الجدران الأربعة، في خواطر محبوس وتعبير مظلوم ومشاعر سجين. أقرأ ما كتبوا في لحظاتهم الخاصة وأقف متأملاً عند كل حرف ونقطة.. أحاول أن أضيف شيئاً على ذات الجدران، فلا أجد غير الدهشة وخليط من بحلقة الذهول وابتسامات الصدفة العابرة

نضال حتى الشهادة ... سيناريوهات اغتيال حميد الأحمر -
مشاهدة المزيد