غزة: هذا هو الاستهتار التام بحياة الإنسان
بقلم/ محمد كريشان
نشر منذ: 3 أيام و 4 ساعات و 52 دقيقة
الأربعاء 09 إبريل-نيسان 2025 06:19 م
 

إذا كان هناك من تجسيد حي لما سمته أخيرا وكالات أممية مختلفة «الاستهتار التام بحياة الإنسان»، في وصفها لما يجري حاليا في غزة من تقتيل يومي لا يتوقف، فلن تجد ما هو أكثر وضوحا واستفزازا من هذا المؤتمر الصحافي أول أمس للرئيس الأمريكي ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.

ضاعت مأساة غزة بين الخوض المطوّل في الرسوم الجمركية الأمريكية الأخيرة والمفاوضات الأمريكية الإيرانية المرتقبة السبت وكأن الأطفال والنساء الذين يقتلون فيها مجرد ذباب لا غير. لا أحد من الصحافيين، ولا ترامب ولا نتنياهو طبعا أشار ولو بكلمة واحدة لهذا القتل اليومي لمدنيين أبرياء، أو لحادثة القتل المتعمّد لمسعفين وعمال إغاثة الذي فضحته جريدة أمريكية نفسها هي «نيويورك تايمز»، أو لقتل أناس تجمّعوا للحصول على وجبة أكل تسد جوعهم الطويل المضني بعد أن أغلقت المعابر وبات التجويع سلاح حرب إسرائيليا مفضوحا، أو لاستمرار قتل الصحافيين حتى وصل الأمر لحرق أحدهم حيا في خيمته ليصل عدد الشهداء الصحافيين ما يفوق ما عرفه العالم في الحربين العالميين وكل الحروب الكبرى الأخرى التي شهدتها الإنسانية في العقود الماضية.

في المقابل، حضر أمران فقط يتعلقان بغزة في هذه الجلسة داخل المكتب البيضاوي، التي ظل نتنياهو في معظمها جالسا يستمع إلى ترامب ليس أكثر، هما حديث غائم عن ضرورة وقف الحرب في غزة وآخر عن الأسرى الإسرائيليين في غزة مع تضخيم لمعاناتهم في استدرار بائس للشفقة، وكأن لا مأساة إلا مأساتهم ولا معاناة إلا معاناتهم أما «الآخرون» فهم لا قيمة لهم على الإطلاق ولا داعي أبدا إلى الإشارة إليهم من قريب أو من بعيد فهم لا يستحقون من الرجلين ولو كلمة عابرة، حتى وإن كانت مفتعلة أو كاذبة، كما كان يفعل جو بايدن.

 

نتنياهو، الذي وصفه ترامب بـ«الزعيم الرائع» استهل كلامه بوصلة مديح بائسة لترامب، يعرف أن الرئيس الأمريكي يطرب لها كثيرا، ليرمي بكلمة «معاداة السامية» التي قدّر محاربة واشنطن لها وليشيد بالرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على الكثير من دول العالم بما فيها إسرائيل نفسها، لينتقل بعد ذلك للحديث عن «الرهائن» الإسرائيليين في غزة باعتبارهم «قصة إنسانية لا تحتمل»، داعيا سكان القطاع إلى «اتخاذ قرارات للقضاء على شر حركة حماس في غزة» والتصدّي «لاستبدادها»، مشيرا إلى أنه ناقش مع الرئيس الأمريكي «رؤيته الجريئة» حول مغادرة أهالي غزة لأرضهم «طوعا وبمحض إرادتهم»!!

أما ترامب فلم يمنعه قوله من أن «غزة مصيدة للموت ومكان خطير للغاية ويحتاج إلى سنوات لإعادة الإعمار» من الإشارة إلى أن غزة أيضا «مهمّة من الناحية العقّارية» (هكذا !!). قال أيضا إنه يريد أن يرى الحرب في غزة تتوقف، متمنيا وقفا قريبا لإطلاق النار، دون أن نعرف بالضبط ملامح «الاتفاق الجديد» الذي كان نتنياهو قد بحثه مع ستيف ويتكوف المبعوث الأمريكي إلى الشرق الأوسط.

ترامب لم يتوقف حول أن وقف إطلاق النار مسألة عاجلة لوضع حد لشلال الدم اليومي للأطفال والنساء والصحافيين والمسعفين وعمال الإغاثة مع جوع وحصار لا يحتملان، لكنه توقف براحته ليقول إنه استمع «للقصص الحزينة» التي رواها له أسرى إسرائيليون أطلق سراحهم من غزة حين التقى بوفد منهم مؤخرا في البيت الأبيض حيث قال إنهم «عوملوا بطريقة لم أشهدها من قبل» (!!) متجاهلا قصص القتل الفظيعة للفلسطينيين الذين لا يستطيعون أن يرووها له لأنهم في القبور الآن أو تحت الأنقاض. ترامب لم يقف عند هذا الحد، فها هو يتساءل قائلا: « لا أعلم لماذا سلّمت إسرائيل لهم هذه الأرض»غزة، فعلوا ذلك لأنهم وُعِدوا بالسلام. إنها أخطر أرض في العالم»، مكررا مرة أخرى أنه إذا أخذنا الفلسطينيين ونقلناهم إلى دول أخرى، فسيكون لدينا منطقة حرة رائعة.

ترامب شخص لا يرى إلا ما يريد أن يراه فالفلسطيني في النهاية ليس إنسانا ولا يستحق منه أي لفتة، شأنه في ذلك شأن مجرم الحرب الجالس إلى جانبه والتي فرش له السجاد الأحمر، وأغلب قادة الدول الغربية الذين وصلوا في صفاقتهم، إما لاستقباله رسميا مثل رئيس وزراء المجر، أو لقول ما قاله رئيس الوزراء البلجيكي الذي استبعد باسم «الواقعية السياسية» إيقاف بلاده لنتنياهو مبرّرا موقفه بأنّ «الاعتبارات العمليّة تغلب على الاعتبارات الأخلاقيّة»!!.

وبقدر ما يمثل هذا السقوط الأخلاقي والقيمي لــ«زعيمة العالم الحر» الولايات المتحدة الأمريكية، وربيبتها إسرائيل، ولمعظم الدول الغربية في كل ما يتعلق بالمأساة الفلسطينية والبلطجة الإسرائيلية التي تجاوزت كل الحدود، أمرا مريرا وحزينا لأنه يعني في النهاية تهاوي كل المنظومة الدولية التي أرساها هؤلاء بعد الحرب العالمية الثانية من أجل عالم تسوده القوانين والحد الأدنى من العدالة، فإنه يمثل مع ذلك أمرا إيجابيا في النهاية لأنه بمثابة الصفعة التي قد تعيد بقية العالم، وخاصة العرب، إلى وعيه ورشده حتى يختار طريقا خاصا بعيدا عن الخضوع لمنطق يريد أن يكون قدرا محتوما.. لكن هذا الطريق ما زال طويلا جدا ويحتاج إلى فاعلين جدد.

كاتب وإعلامي تونسي