نازحو أبين: غرباء في وطننا، نلتحف العراء ، ونقتات الشقاء ونتسول العناء..(صور)

الأحد 25 مارس - آذار 2012 الساعة 06 مساءً / مأرب برس- استطلاع/ شكري حسين
عدد القراءات 5249
 
 

ارتبطت أبين بالأحزان منذ سنوات (طويلة ) وعهود (مديدة ) وكلما خرجت من مصيبة جاءتها أخرى أكثر ألما ً من ذي قبلها !! لكن ليس كمصيبتها اليوم وحالتها الآن.

عشرة أشهر وأبين( الأرض ) والإنسان في مهب( الأحزان ) تتجاذبها المحن والآلام وتحيط بحياة مواطنيها عديد المنغصات، قتل وتشريد ودمار وضياع ممتلكات وأموال وحلم أجيال واغتيال لبراءة أطفال،ولا أحد كما يبدو مهتم للكارثة الإنسانية التي تعرض لها السكان.

عشرة أشهر من المعاناة والهموم والجوع والعراء والمرض والتسول والبكاء والنحيب دفع هؤلاء النازحين إلى الصراخ بأعلى صوت "مسنا وأهلنا الضر" !! ولا مجيب غير "يانازحين هذا قدركم"!! وفي أحسن الأحوال ( اصبروا ) على مصيبتكم !!

( تراتيل ) وجع دائم ( ومواويل ) ألم مستبد تعلو كل أرجاء المكان في المدارس والشوارع والحارات وأينما أتجه هؤلاء النازحين أو ارتحلوا ( غرباء ) هم في أرضهم هكذا( يشعرون) وعلى وقع تلك الأحاسيس ينامون ويستيقظون وربما يأكلون ويمشون.

( هذا قدركم ) بقدر ماتحمله هذه الكلمة من معنى يلامس الإيمان بالقدر خيره وشره الا أنها تتضمن نداء انسانياً إلى كل الضمائر الحية من أجل الالتفات لواحدة من أكبر المآسي الإنسانية إذ أن نزوح أكثر من 160 ألف من منازلهم بحسب الإحصائيات الأخيرة ليس بالأمر الهين والسهل.

الإحصائية ذاتها أكدت أن عدد النازحين في عدن وصل الى 120 ألف نازح تليها محافظة لحج ب902ـ29 ويتوزع الباقون على محافظات البيضاء وشبوة وحضرموت ويافع.

الله لا يسامحهم

هكذا ابتدأ الوالد ( مفتاح عطاء المسعدي ) حديثه معي !! قال وبصوت متهدج وبنبرة أسى كبيره كنت وإفراد أسرتي على موعد مع (الفرح ) قبيل خروجنا من أبين بأيام بسيطة كان بيتنا ( مسرحا ) جالبا للفرح والمرح منذ فترة وقد جهزنا كل شئ للاحتفال بعرس أحد أبنائي !! يتوقف لبرهة وقد (اغرورغت ) عيناه بالدموع ثم يستطرد قائلا ً ( 3 ) أيام فقط كانت تفصلنا عن الاحتفال بزواج ولدي لكن فجأة تحولت أيامنا إلى ( أسى ) وليالينا إلى ( ألم ) انتهى كل شئ فجأة وتبدلت أفراحنا ..ثم أردف ( قد بلغت اليوم من العمر عتيا ولكنني أبدا ً لا أعرف ولم أسمع قط بحدث مماثل أو كارثة مشابهة لما تعرضت له أبين والتي تحولت إلى مدينة ( أشباح ) لتغدو أثرا ً بعد عين وإطلال ينوح عليها غراب البين.

ثم استعرض مشاهد خروجه الحزينة من أبين وقال ( خرجت أسرتي في اليوم الثالث من بدء الحرب دون تحديد وجهة معينة لها قبل أن تستقر في مدرسة ( باكثير ) بمحافظة عدن أما أنا فآثرت البقاء في منزلي لأكثر من نصف شهر وبعد أن ضاقت علي الأرض بما رحبت اضطررت وفي القلب حسرة للخروج منه بعدما شاهدت بعيني حجم الدمار والقتل في الشوارع ولم يكمن لي من ( بد ) ألا المغادرة وحسبنا الله ونعم الوكيل.

الوضع المعيشي

على مقربه من المكان كان يجلس المواطن ( عبدالله فرتوت ) وحيدا لا أدري ما أذا كان قد جالت بخواطره مشاهد المنزل الذي تحول إلى ركام أو متذكراً ليال الأنس والصفاء مع الأصحاب والخلان !! سألته فيما تفكر ؟؟ أطلق ابتسامة خفيفة لم تخف تقاسيم الألم البادية على محياه وقال : ( حتى اللحظة غير مصدق ماحصل في أبين ولم أستوعب بعد وضعنا الحالي بعد مفارقتنا لديارنا وتركنا لكل أمتعتنا !! أضاف أعيش وإفراد أسرتي الكبيرة في ( مدرسة ) بداخل غرفة لا تتجاوز ( 4 ) متر تستخدم لكافة الأغراض ( نوم وطبخ وغسيل ) وحتى مشاهدة التلفاز وغيرها من تراجيديا المعاناة اليومية المضافة أصلا إلى الوضع المعيشي الصعب وإهمال الجهات الرسمية المختلفة لنا وتركنا عرضة للجوع والمرض والتسول المتزامنة مع تأخر المعونات المقدمة من الجمعيات الخيرية والمنظمات الدولية وهي في الغالب الكثير لا تفي حتى لعشرة أيام ،، وقال "نشعر أن جبالاً من الهموم قد وضعت فوق رؤوسنا فما أصعب أن تعيش غريبا في وطنك تفترش الأرض وتلتحف البلاط ثم تقف في طوابير طويلة تستجدي الحصول على 10 كيلو سكر ومثلها رز ودبة أو دبتين زيت صغير، قاطعته بالقول : ( محافظ أبين ) أكد في أوقات سابقة لوسائل إعلامية مختلفة أن المنظمات الدولية أغدقت عليكم بالعطايا لدرجة أن الفائض يباع في الأسواق ) !! تساءل بسخرية : "محافظ من ؟؟ محافظ أبين ؟؟ ليش في عاد واحد محافظ لأبين أنا شخصيا لا أعرفه ولم اسمع يوما أنه زار مكانا واحدا للنازحين وبالتالي ليس من حقه الحديث عنا.. ماذا عملت لنا الدولة حتى الآن ؟؟ غير التشرد والذل والهوان".

 من بعيد ألتحق بنقاشنا الشاب (ناصر باسندوة ) من سكان مدينة الكود يحمل كوبا من الشاي أصر على تقديمه لي وقال ( وضعنا لا يعلمه إلا الله.. إذ لم يعد للبهجة والسرور مكان في نفوسنا.. نعيش كالمسجونين وسط العنابر أطفال ونساء ورجال في غرفة واحدة ونستخدم جميعنا حمامات مشتركة بداخل المدرسة.. منازلنا دمرت وممتلكاتنا ضاعت.. بدأ صوته في التحشرج وعيناه زائغتان نحو الأرض .. وقال "كانت لي مزرعة كبيرة في منطقة ( المسيمر) توجد فيها كل أنواع الخضروات والفواكه وهي رأسمالي الوحيد أنا وأسرتي البالغ عددها عشرة افراد.. كانت تغطي مصاريفنا وزيادة ولكن انتهى كل شئ حيث احترقت معظم مساحتها بعد أن طالها قصف الطائرات ،، ودمرت مضخات المياه فيها وغدت كالهشيم".

طفولة بريئة

على مسافة قريبة كانت أصوات عدد من الأطفال بعمر الزهور تملأ أرجاء المكان.. بدأ وكأنهم مستمتعين بلحظات لهوهم المعتاد غير آبهين بمعاناة نزوحهم.. ببراءة رفع بعضهم اشارات ( النصر ) أمامي فور شعورهم بفلاشات الكاميرا..

سألتني أشجان ( 7 ) سنوات : ياعمو متى بنرجع أبين؟ بقدر عفوية السؤال ألا أنه كان مربكاً لي ومفاجئا في ذات الوقت..قلت لها : لماذا تريدي العودة لأبين؟ قالت : ( عشان أتعلم أنا وصاحباتي ) قلت لها ( ليش يابابا ماتتعلمي هناء في عدن ؟؟ قالت وبإبتسامة خجولة : لا..هنا مش حلو وما يعطونا كتب وأنا أشتي العب مع صاحباتي ( نادين وسحر ) قلت لها أين هم صاحباتك ؟ قالت : ( ما أدري ) ثم تركتني هاربة إلى وسط زحمة الأطفال.

( كوم ) من النساء كن يراقبن حركات الأطفال بعيونهن لكن حتما ً قلوبهن في غير ذات المكان !! دنوت من احداهن وعرفت نفسها ( بأم أيمن ) وسألتها ما اذا كان لعب الأطفال قد استهواهن ؟؟ فقالت ضاحكة : لا ( ولكننا نبحث عما نسلي به أنفسنا ونقتل به وقت فراغنا خصوصا ونحن نعيش في المدرسة وكأننا في زنزانة.. هذا يعني أنك تشعرين بضيق شديد هناء ؟؟ نعم حياة ( النزوح ) والتشرد وترك الديار ومفارقة الأهل والخلان ليس بالأمر السهل والهين ، زد عليها الظروف القاهرة التي نعيشها في ( المأكل والملبس والمنام ) بداخل غرفة صغيرة يتقاسم الحياة فيها كل أفراد الأسرة، ام ايمن تقول انها خريجة جامعية من عام 2002 م ولم أحصل على وظيفة وزوجها دون عمل.

يؤكد معظم النازحين أن دعم الجمعيات الخيرية التي ساعدتهم كثيرا في الأيام الأولى لنزوحهم قد تلاشى ويعتمدون على ماتقدمه الوحدة التنفيذية لهم والذي لا يغطي حاجتهم الغذائية حد وصفهم.

ضرورة التعايش

أثناء تجولي في الطابق العلوي في مدرسة البيحاني بكريتر لفت نظري شاب منهمك أمام جهاز الكمبيوتر ، بدأ لي المشهد غريبا نوعا ما خصوصا والمخيم يفتقد لأبسط مقومات الحياة الآدمية فكيف بالتقنية الحديثة .. بعد تبادل التحايا قال اسمي ( يسلم مبارك صالح ) من أبناء مدينة زنجبار حي الصرح خرجت مع أفراد أسرتي في اليوم الأول من المعارك لقرب الحي الذي نقطن فيه من المواجهات لم أصطحب معي شئ غير هذا الجهاز الذي يحتوي كل ذكرياتي وأفراد عائلتي وأبناء الحي الذي أسكن فيه ، أجد فيه ما يؤنسني ويواسيني في مصيبتي وإن شئت سمها(غربتي !! )،غربتك ؟؟ نعم ( أنا هناء لا دار ولا مال ولا مستقبل) فأنا فعلا ً غريب في أرضي أنتظر مايصلني من فتات أهل الخير وربنا على من ظلمنا وكان سببا في تركنا لأرضنا.

يقول والد ( يسلم ) هذه الغرفة تحتوي أفراد أسرتي جميعا وفيها ننام ونأكل ونطبخ ونغسل الملابس ونشاهد التلفاز الذي يصدر لنا الفواجع صباحا ومساء .. أقوم في الصباح الباكر لعلي أجد أخبار جديدة من أبين .. ولكن كل مايدور فيها محاط عادة بالسرية والكتمان وحتى وسائل الأعلام الخارجية أصابتها عدوى اللا مبالاة بما يدور هناك، يضيف بحثنا عن الحقوقيين والناشطين ولم نجد أحد وغدا حالنا كمن يطارد خيط دخان في هواء طلق، وأستطرد : ( الآف الأسر تم تهجيرها واعلامنا الحكومي وغير الحكومي مشغول بمناكفات علي صالح وحكومة الوفاق ورفع المتارس والطرقات في صنعاء وغيرها بينما أبين لا احد يذكرها أو يهتم بها.. انه موسم ( النفاق ) والمزايدات السياسية وما أكثر المزايدين على حساب الأبرياء ودم الشهداء.. فقط ننتظر من يجيب على سؤالنا ويفتينا في أمرنا ويقول لنا "لماذا كل هذا العبث ولماذا كل هذا الدمار في أبين دون غيرها؟.

اكثر خبر قراءة أخبار اليمن