آخر الاخبار

30 نوفمبر 1967 .. ذكرى عيد الاستقلال التي أسقطت مشروع الجنوب العربي وأنشأت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية

الأربعاء 30 نوفمبر-تشرين الثاني 2011 الساعة 09 مساءً / مأرب برس- خاص
عدد القراءات 21062
 
 

من كتاب صدر باللغة الإنجليزية قُبيل استقلال اليمن الجنوبي بعنوان (( اليمن الجنوبي سياسياً و اقتصادياً و اجتماعياً )) للمؤلف للدكتور / محمد عمر الحبشي ، ترجمة :الدكتور الياس فرح والدكتور خليل احمد خليل - بدار الطليعة للطباعة و النشرفي بيروت ( مارس) 1968م .. يستعرض الأحداث التي سبقت استقلال اليمن الجنوبي وسقوط مشروع اتحاد الجنوب العربي.

- عندما قرر البريطانيون سحب جيوشهم من داخل البلد في بداية عام 1967 ، حكموا بالموت الأكيد على أنظمة السلاطين. فقد تخلى عنهم أصدقاؤهم الإنكليز كما تخلت عنهم قبائلهم الخاصة بهم . هكذا سقطت إماراتهم كأوراق الخريف بلا قتال تقريباً .

زعماء ( الجبهة القومية) كانوا ينوون ليس فقط تحرير البلد و إنما تصفية الماضي أيضاً ، بينما كان زعماء ( جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ) يعطون الأولوية للتحرير السياسي

سلطات عدن البريطانية بذلت كل ما في وسعها لعزل ممثلي هيئة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق ، بقصد إفشال مهمتهم . و كان التكتيك المتبع يقوم على جعل المنظمة الدولية تعترف بعدم مقدرتها على حل المشكلة و على جرها للاعتراف بشرعية النظام الاتحادي.

تفكك النظام الاتحادي أثر تمرد 20 يونيو 1967 . و كمحاولة أولى، أشار المندوب السامي على المجلس الاتحادي الأعلى أن يعين حسين بيومي ، وزير الإعلام ، لتشكيل حكومة جديدة ينبغي عليها أن تظم عناصر يتقبلها الوطنيون . و كانت مهمة كذلك معرضة للفشل مسبقاً لأنه لم يكن من الوارد أن يؤيد الوطنيون حكومة تترأسها شخصية من النظام الاتحادي.

أوصى المبعوث الخاص بتزايد و اضطراد المسار الاستقلالي ، نظراً لان قاعدة عدن لم تعد لها أهمية بالنسبة لإنجلترا منذ أن تقرر الجلاء عنها في شهر فبراير 1967.

طلب البيومي من سلاطين لحج و الفضلي و الدول و الإمارات الأكثر اقتراباً من عدن أن يعلنوا انسحاب إماراتهم من الاتحاد ، و ضمن لهم دعم المملكة المتحدة سياسياً و مالياً . و عندما أطلع القادة الآخرون في الاتحاد على هذه المؤامرة الموجهة ضدهم ألغوا تكليف بيومي و شهروا به علناً . إلا أن إجهاض هذا المشروع ذي الإيحاء البريطاني ورطهم .

علمت الحكومة البريطانية بهزيمة السلطة الاتحادية فتوجب عليها أن تعترف رسمياً في بيان مهم ، بالقوى الوطنية كممثل وحيد لشعب اليمن الجنوبي . و في نفس الوقت دعا المندوب السامي الزعماء الوطنيين إلى التباحث حول شروط تسلم السلطة.

إن ميزة هذه الفترة الأكثر بروزاً هي بدون شك الاتساع الذي أخذته الحركة الوطنية للتحرر معرِضة بذلك سياسة المملكة المتحدة في اليمن الجنوبي للفشل و مبعدة قادة الاتحاد التقليديين. و قد آل النظام القائم إلى الزوال دون أدنى أسف .

1 ـ مؤتمر لندن في شهر ( أغسطس ) 1965 م

في محاولة أخيرة لإنقاذ البناء الذي شيد سنة 1959 من قبل المحافظين ، دعا العماليون في شهر أغسطس 1965 إلى عقد مؤتمر جديد في لندن ، اشترك فيه بالإضافة إلى البريطانيين والزعماء التقليديين ، ممثلون عن حكومة عدن و سلطنات حضرموت و قادة حزب الشعب الاشتراكي و رابطة الجنوب العربي.

و كان الاجتماع يرمي إلى البحث عن الوسائل التي يمكن بواسطتها التقريب بين مواقف الأحزاب و الفئات المتنازعة محلياً بقصد تشكيل ( حكومة اتحاد وطني ) كانت المملكة المتحدة تنوي تسليمها السلطة في وقت لاحق . و كان قد ظهر على الفور أن الخلافات كانت بالغة العمق و أن المواقف متباعدة جداً حتى يكون ثمة أمل بالتوصل إلى حل تقبله كل الأطراف . كان العماليون و أصدقاؤهم يريدون في الحقيقة أن يبقى النظام الاتحادي كما هو بينما كان ممثلو المعارضة يطالبون بإصلاحات دستورية تتعارض مع مصالح الطرف الأول . و نظراً لعدم التمكن من إيجاد مجال للتفاهم لم يكن على الحكومة البريطانية إلا أن تتقبل مرة أخرى فشل مجهودها .

و في عدن ، دخلت الأزمة التي تعيش منذ عدة سنوات ، في مرحلة جديدة من التوتر ؛ فالحكومة العدنية التي كان يرأسها في تلك الفترة عبد القوي مكاوي ، عرفت تحولاً وطنياً واضحاً و رفضت مراعاة الاغتياظات البريطانية التي سببها الإرهاب . و بالرغم من شكوى علنية تقدم بها المندوب السامي ، أمتنع المكاوي عن إدانة الهجمات و الاعتداءات المرتكبة ضد الرعايا البريطانيين و بالأخص اغتيال رئيس المجلس التشريعي .

منذ ذلك الحين كانت أيام وزارة مكاوي معدودة . فبالاتفاق الضمني مع لندن أتخذ المندوب السامي في شهر سبتمبر 1965 القرار الخطير القاضي بتعليق دستور عدن ، و بتنحية حكومة مكاوي .كان ذلك الأمر نهاية حقبة و بداية عهد جديد ستكون ميزته الأساسية التقدم المظفر للقوى الوطنية .

2 ـ نشأة جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل Flosy :

بالرغم من المقدرة على المقاومة بالقوة ، كان عبد القوي مكاوي و قادة حزب الشعب الاشتراكي لا يزالون يتحاشون اللجوء إلى القوة. في الحقيقة كانوا يحتفظون بأمل جر لندن إلى التعقل و الحكمة عن طريق الضغط و العمل السياسيين بالضبط . و لهذه الغاية ، جزئياً ، تم إنشاء منظمة التحرير سنة 1965 . و أما السبب الخفي الذي أدى إلى إنشاء هذه المنظمة ثم إلى إنشاء ( جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ) فقد كان ، مع ذلك ، رغبة قادة حزب الشعب الاشتراكي في إنقاذ الجامعة النقابية ( المؤتمر العمالي العدني ) التي قوضتها جدياً ( الجبهة القومية للتحرير ) التي توصلت سنة 1965 إلى كسب ست نقابات من أقوى نقابات المنطقة إلى جانبها .

كانت منظمة التحرير تطمح منذ البدء إلى تجميع كل أحزاب المعارضة في داخلها .

و قد نجحت في ذلك نجاحاً واسعاً في الظاهر على الأقل ، لان هذه الأحزاب ، باستثناء رابطة الجنوب العربي ، قد أُعجبت بضرورة التجمع و الانضواء ، حتى بضرورة الانصهار في منظمة واحدة تدعى من الآن فصاعداً ( جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ) . كذلك وافقت رابطة الجنوب العربي على مبدأ الاتحاد لكنها رفضت أن تنحل في جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل .

الصورة لعلم الجنوب العربي الذي لم يرفع في الجنوب بعد 30 نوفمبر 1967 إلا أن الحدث الأكثر أهمية و بروزاً كان دخول ( الجبهة القومية للتحرير ) في المنظمة الجديدة . و حسب أقوال بعض المراقبين، يمكن أن يكون الدخول قد فرضه عليها مع ذلك بعض زعمائها الذين كانوا قرروا ، بمبادرتهم الخاصة ، إلزام ( الجبهة القومية للتحرير ) بدون استشارة قيادتها العليا . كذلك لم يكن هذا السراب من التعليل مقبولاً تماماً . فلم تلبث المنازعات أن ظهرت بجلاء .

كان قادة منظمة التحرير السابقة المتمرسون في العمليات السياسية و الميالون قليلاً إلى النضال المسلح الذي كانت ( الجبهة القومية للتحرير ) تقوده منذ اكتوبر1965 ، يريدون أن يكونوا رجال سياسة قبل كل شيء ، بينما كان قادة ( الجبهة القومية للتحرير ) يعتبرون أنفسهم كرجال فعل و عمل . هكذا كان مفهوم العمل الثوري الذي ينبغي الشروع به لتحرير البلد من النير الاستعماري يختلف كلياً من جماعة لأخرى .

في البداية كان القادة الوطنيون يبذلون جهودهم للهيمنة على الخلافات نظراً لما تقتضيه الأحوال . غير أن اختيارات و أمزجة مختلف الأطراف المعنية كانت متعارضة لدرجة أن التحالف العدني كان يعاني بشدة يقول زعماء ( الجبهة القومية للتحرير ) أنهم كانوا ينوون ليس فقط تحرير البلد و إنما تصفية الماضي أيضاً ، بينما كان زعماء ( جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ) يعطون الأولوية، على ما يبدو ، للتحرير السياسي . بعبارة أخرى ، كانت الخلافات تدور حول السياسة التي ينبغي نهجها ، بعد طرد الاستعمار و الرجعية أكثر مما كانت تدور حول نضال التحرير بمعناه الحقيقي . و تبدو هذه الخلافات كأنها تعبر دوماً عن الفرق الذي يفصل زعماء المنظمتين الوطنيتين المتنازعتين .

لكل هذه الأسباب فسخ التحالف الذي جرى في 13 يناير 1966 في ديسمبر من السنة ذاتها . استعادت ( الجبهة القومية للتحرير) حرية عملها و كثفت نشاطها العسكري في مناطق البلد الداخلية و الأعمال الإرهابية في المراكز الحضرية . و في نفس الوقت قوت و وطدت أوضاعها في الجيش و الشرطة و النقابات و في صفوف المثقفين الشبان ، و ازداد تأصلها في الأرياف . و مع تبني هذا الخط القاسي عرفت الحركة الثورية تحولاً حاسماً.

أما ( جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ) فقد أناطت نفسها بقيادة عسكرية مستقلة ( المنظمة الشعبية ) عهد اليها برعاية النضال المسلح ، و بمكتب سياسي يقع العمل السياسي على عاتقه . و قد ضاعفت مجهودها على الصعيد الداخلي و بذلت نشاطاً دبلوماسياً واسع النطاق في الخارج و بالأخص في هيئة الأمم المتحدة .

3 ـ بعثة هيئة الأمم المتحدة

كانت مشكلة اليمن الجنوبي ، منذ عدة سنوات ، تطرح بانتظام أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة . و قد بحثتها الجمعية العامة مرة أخرى في دورتها السنوية لعام 1966 . و في نهاية تلك المناقشات، صوتت الجمعية العامة على قرار يطلب من الأمانة العامة إرسال بعثة خاصة إلى عدن لدرس رغبات السكان و للتشاور حول إجراءات حصول البلد على الاستقلال . و وعدت المملكة المتحدة بالتعاون مع البعثة .

و في شهر مارس 1967 ، توقف أعضاء البعثة الثلاثة ، و هم في طريقهم إلى عدن ، في لندن و القاهرة و جدة للاتصال بالسلطات الرسمية و بممثلي المعارضة .

استقبلتهم القاهرة استقبالاً بارداً . و كانت ( جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ) و ( الجبهة القومية ) تتهمان البعثة علناً بأنها تلعب لعبة الاستعمار و الرجعية و قررتا تجاهل وجودها في عدن . و لدى وصولها إلى منطقة عدن قامت الجبهتان بموجة اضرابات ومظاهرات و صعدتا الأعمال الإرهابية ضد الجيوش الإنجليزية حتى تظهرا للبعثة عداء السكان لها و تبرهنا لها على قوتهما .

من جهة أخرى كانت ( جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ) تطالب، قبل البدء بأية محادثات ، باعتراف البعثة بها كممثل وحيد لشعب اليمن الجنوبي . و أما ( الجبهة القومية ) التي لم تكن تنعت نفسها بتفرد كهذا ، فقد قاطعت البعثة و رفضت كل مزاعم ( جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ) . و خلال الإقامة القصيرة لممثلي هيئة الأمم المتحدة في عدن ، كان خط قيادتها فطناً حقاً و لكنه صارم .

أخيرا لم تكن رابطة الجنوب العربي ، التي كان موقفها مشبوهاً و ضعيفاً منذ تفجير القنابل في حضرموت ، في وضع يسمح لها بمجابهة التيار المعادي للبعثة و حتى بالإعراب عن وجهات نظرها لأعضاء البعثة . و بكل وضوح ، تجاوزتها الأحداث تجاوزاً كاملاً .

من الجانب البريطاني بذلت سلطات عدن كل ما في وسعها لعزل ممثلي هيئة الأمم المتحدة ، بقصد إفشال مهمتهم . و كان التكتيك المتبع يقوم على جعل المنظمة الدولية تعترف بعدم مقدرتها على حل المشكلة و على جرها للاعتراف بشرعية النظام الاتحادي . ومع ذلك لم تخف نوايا هذا التكتيك على أعضاء البعثة و لا على الوطنيين . فأماط أعضاء البعثة و الوطنيون اللثام ، بنجاح، عن مؤامرة السلطات الاستعمارية .

و بالتالي ، تنبهت البعثة بسرعة إلى أن وعود حكومة لندن ونواياها الحسنة كانت كاذبة . و أعطي لها الدليل على ذلك عندما قامت السلطات الاتحادية ، الخاضعة مع ذلك للمندوب السامي ، بمنع رئيس البعثة من الظهور على شاشة التلفزيون ليتحدث إلى السكان و إلى ممثليهم الفعليين ، و منع قراره و بيانه بحجة أنه تجاهل الحكومة الاتحادية . عندئذ قام بمسعى آخر لدى المندوب السامي للإذن للبعثة بذلك ، غير أن هذا الأخير رفض أن يتدخل . فأنذرته البعثة بنتائج رفضه غير أن الإنذار لم يؤخذ بعين الاعتبار . و لم يكن أمامها آنذاك إلا أن تغادر عدن . و قد أثار سفرها المفاجئ ضجة كبيرة في العالم . و قد ضايقت الفضيحة حكومة ويلسون التي وجدت في شخص المندوب السامي المسؤول كبش محرقة ممتازاً . و مع ذلك فهو لم يقم إلا بتنفيذ الأوامر التي تلقاها . و هكذا تمكنت الوزارة من إنقاذ ماء وجهها .

كان يظن في البداية أن لندن تتظاهر بالرد لتغرر بالرأي العام البريطاني و العالمي فقط ، في الحقيقة كانت عازمة فعلاً على وضع حد نهائي لمشكلة اليمن الجنوبي .

4 ـ سياسة لندن منذ سفر البعثة المفاجئ

في شهر أبريل سنة 1967 ، قامت لندن بتعيين اللورد شاكلتون ليتفحص الوضع عن كثب ، و في شهر مايو تم تعيين مندوب سامٍ جديد ليقوم بتنفيذ التوجيهات المعطاة له . و المندوب السامي السير هامفري تريفليان هو دبلوماسي محترف يعرف العالم العربي معرفة جيدة . مشاهداً فشل سياسة حكومته ، أوصى المبعوث الخاص بتزايد و اضطراد المسار الاستقلالي ، نظراً لان قاعدة عدن لم تعد لها أهمية بالنسبة لإنجلترا منذ أن تقرر الجلاء عنها في شهر فبراير 1967 . و أسرعت لندن في تبني توصيات الوزير المكلف وأعطيت الأوامر للسير هامفري تريفليان لوضع حد ، في أسرع وقت ممكن و بكل الوسائل ، للوجود البريطاني في اليمن الجنوبي . و أول قرار جرى اتخاذه كان تحديد تاريخ استقلال البلد . و قد تم اختيار التاسع من يناير 1967 كيوم حصول اليمن الجنوبي على السيادة الدولية .

من الآن فصاعداً ، ستمضي الأحداث السياسية في الاضطراد على وتيرة غير معتادة . فقد تفكك النظام الاتحادي على أثر تمرد 20 يونيو 1967 . و كمحاولة أولى ، أشار المندوب السامي على المجلس الاتحادي الأعلى أن يعين حسين بيومي ، وزير الإعلام ، لتشكيل حكومة جديدة ينبغي عليها أن تظم عناصر يتقبلها الوطنيون . و كانت مهمة كذلك معرضة للفشل مسبقاً لأنه لم يكن من الوارد أن يؤيد الوطنيون حكومة تترأسها شخصية من النظام الاتحادي . ومن جهة أخرى ، عندما قدم بيومي لائحته ، رفضها المجلس الأعلى دونما تردد لأنها كانت تضم شخصيات جامحة لا يوافق عليها حتى الزعماء التقليديون دون أن نتحدث عن موافقة المنظمات الوطنية عليها .

و للنطق بالحقيقة ، لم يكن رفض التشكيلة في الواقع سوى السبب الظاهري لفشل مهمة بيومي ، كان السبب الحقيقي هو الاقتراح الذي قدمه بيومي مع موافقة البريطانيين إلى سلاطين لحج و الفضلي و الدول و الإمارات الأكثر اقتراباً من عدن . لقد اقترح عليهم ، في الحقيقة ، إنشاء دولة موحدة تضم بالإضافة إلى عدن ، سلطنتي العوذلي و الفضلي . و ليجعل مشروعه جذاباً أكثر ، أعلمهم أن الحكومة البريطانية كانت مستعدة للاعتراف بالدولة الجديدة و لإناطتها بمساعدة مالية و عسكرية . بعبارات أخرى ، طلب منهم أن يعلنوا انسحاب إماراتهم من الاتحاد ، و ضمن لهم دعم المملكة المتحدة سياسياً و مالياً . و عندما أطلع القادة الآخرون في الاتحاد على هذه المؤامرة الموجهة ضدهم ألغوا تكليف بيومي و شهروا به علناً . إلا أن إجهاض هذا المشروع ذي الإيحاء البريطاني ورطهم .

و أتاح وصول بعثة الأمم المتحدة إلى جنيف في شهر أغسطس فرصة ممتازة أمام المندوب السامي ليتخلص بصورة نهائية من الزعماء التقليديين المضايقين . و بناء على طلبه سافرت أكثريتهم إلى سويسرا لمقابلة أعضاء البعثة . و بعد أن استمعت البعثة إليهم سافرت إلى بيروت و القاهرة على أمل التمكن من رؤية ممثلي (الجبهة القومية للتحرير ) و ( جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ) . ووافقت الأخيرة التي بدأت تظهر دلائل ضعفها ، على مقابلة البعثة بينما أنكرت ( الجبهة القومية ) حق البعثة في مناقشة مشكلة اليمن الجنوبي . عندئذ توجب على البعثة أن تعود إلى نيويورك لتقدم تقريرها إلى الأمانة العامة لهيئة الأمم المتحدة .

و في البلد ، سلكت الأحداث منحى دراماتيكياً . ففي عدن تدهور الوضع بسرعة و بدأت ( الجبهة القومية ) في داخل البلد بزحفها على الإمارات . و في آخر لحظة أستنفر المجلس الأعلى الجيش لإنقاذ الاتحاد من الفوضى ، فرفض الجيش أن يتدخل و رد بجفاء طلب رئيس المجلس الأعلى الذي طلب منه ، أن يتسلم السلطة بلا شرط و لا استثناء . و لم يلبث النظام الاتحادي أن سقط تاركاً وراءه فراغاً كاملاً و مطبقاً .

و علمت الحكومة البريطانية بهزيمة السلطة الاتحادية فتوجب عليها أن تعترف رسمياً في بيان مهم ، بالقوى الوطنية كممثل وحيد لشعب اليمن الجنوبي . و في نفس الوقت دعا المندوب السامي الزعماء الوطنيين إلى التباحث حول شروط تسلم السلطة. و حسب مصادر مطلعة بوجه عام ، نبههم إلى أنهم إذا لم يعزموا على إجراء المباحثات المطلوبة خلال شهرين من 3 سبتمبر إلى 3 نوفمبر 1967 ، فان حكومته ستتخذ الإجراءات اللازمة . إلا أنهم منحوا مهلة أسبوع للتفكير قبل أن تتخذ تلك الإجراءات .

و تعنى لندن ، على ما يبدو ، بالقوى الوطنية الجبهة القومية للتحرير و جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل . و أما نداء المندوب السامي فقد اعتبر بوجه عام موجهاً لزعماء المنظمتين . و في كل حال ستحاول كل منظمة من الآن فصاعداً أن تقوي وضعها محلياً على حساب المنظمة الأخرى في اغلب الأحيان ، بقصد التباحث

انطلاقاً من وضع قوي . و في هذا السباق مع الزمن ، توصلت ( الجبهة القومية للتحرير ) التي سبقت جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل منذ شهر يوليو في وقت قياسي إلى نشر نفوذها على معظم دول الإمارات في الاتحاد و كذلك على حضرموت .

و استجابة لرضا السلطات الاستعمارية و العسكرية البريطانية، أدى هذا التسابق إلى اصطدامات دموية بالأخص في لحج و دار سعد و الشيخ عثمان التي صارت أخيرا تحت إشراف الجيش العربي.

نصب الجيش بادئ ذي بدء حكماً بالرغم عنه ، ثم ظهر كقوة ثالثة . و هكذا تم دخوله إلى المسرح السياسي ، الأمر الذي يعرضه لمخاطر الانقسام و يجعل منه هدفاً سهل المنال من قبل هجومات و انتقادات الفئات الأولى و الفئات الأخرى .

كانوا يقولون أنه كان من الأفضل أن يظل الجيش بعيدا عن المشاحنات السياسية و الصراعات التحيزية . و لكن هل كان للجيش أن يختار في الواقع ؟ و في اختلاطها ، سارعت السلطات البريطانية في إخلاء المدن و القرى التي جلت عنها جيوشها ، أمام الجيش الوطني . و كان على الجيش عندئذ أن يعمل على استتباب الأمن في هذه المراكز المعرضة كثيرا للإرهاب و الرعب . و كيف كان يمكنه رفض القيام بهذه المسؤولية الأولية . فبانتظار عقد المصالحة الوطنية ، كان الجيش وحده ، في الحقيقة ، في وضع يسمح له بمواجهة المشاكل التي كان يطرحها استتباب الأمن . و كان الوطنيون ، مع وعيهم لخطورة وضعهم ، لا يبحثون من جهة أخرى عن التعارض معه حتى يتجنبوا إراقة الدماء و يوفروا على المواطنين آلاما إضافية لا تجدي.

5. الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل:

تأسست الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل في 14 أكتوبر 1963 ، و كانت المحرك الحقيقي للتمرد المسلح في قبائل ردفان ولإحداث الثورة بوجه عام .

و حتى نشأة ( جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ) كانت ( الجبهة القومية للتحرير ) تتمتع بدعم الجمهورية العربية المتحدة التي كانت تقدم لها مساعدة مادية لا تقدر . و منذ ذلك الحين سيتجه تأييد الجمهورية العربية المتحدة إلى جانب ( جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ) وحدها . و أخذت ( الجبهة القومية للتحرير ) تبتعد قليلاً عن القاهرة غير أنها حرصت على عدم قطع علاقتها مع مصر و على عدم مهاجمتها .

و أدى تبدل التحالفات إلى إضعاف وضعية ( الجبهة القومية للتحرير) بالأخص في الخارج حيث يتمتع خصمها بشهرة واسعة . مع ذلك ، عرفت ( الجبهة القومية للتحرير ) أن تعوض عن هذه الخسارة بتقوية وضعها في الداخل . و منذ عام 1965 ، نجحت في التغلغل في الحركة النقابية و في الجيش . و يعود صعودها إلى هذه السنة بالضبط . و حتى عام 1966 كان تقدمها بطيئاً و لكنه متواصل . غير أن عام1967 كان حاسماً . فتمرد الجنود و الشرطة الذي حدث في 20 يونيو 1967 و الذي جعل ( الجبهة القومية للتحرير) و جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل تسيطران على مدينة كريتر طيلة أسبوعين تقريباً ، قوى مجدداً نفوذ ( الجبهة القومية للتحرير). غير أن إخلاء العائلات المسيطرة ، فجأة عن اقطاعاتها منذ شهر أغسطس هو الذي فرض ( الجبهة القومية للتحرير ) بصفة نهائية و جعل منها المتباحث الأكثر قوة مع الحكومة البريطانية .

كما كان ينتظر ، أثار صعود ( الجبهة القومية للتحرير ) المفاجئ الصاعق تعليقات و توقعات مغرضة لا تعد . فقد اشتبه أولاً بالجبهة القومية للتحرير ، ثم اتهمت علناً بالتعاون و بالتآمر مع السلطات الاستعمارية . و كانت هذه الحملة ترمي إلى التشكيك بالجبهة القومية للتحرير أمام السكان و العالم العربي و إلى إذكاء الحرب الأهلية ؛ و هكذا ألقت زيتاً على النار .

و في الحقيقة يمكن تفسير سقوط الأنظمة الإقطاعية و اعتباراً من ذلك التقدم المظفر الذي أحرزته ( الجبهة القومية للتحرير ) في داخل البلد بالأمور التالية :

( أ ) ـ عندما قرر البريطانيون سحب جيوشهم من داخل البلد في بداية عام 1967 ، حكموا بالموت الأكيد على أنظمة الأمراء . فقد تخلى عن الأمراء أصدقاؤهم الإنكليز كما تخلت عنهم قبائلهم الخاصة بهم . هكذا سقطت إماراتهم كأوراق الخريف بلا قتال تقريباً .

( ب ) و أما رفض الجيش الاتحادي إغاثة الأنظمة الأميرية المهلهلة ، فلم يكن أمرا مفاجئاً لان وضع الأمراء و الشيوخ كان قد أصبح غير مقبول و لان قسماً كبيراً من الضباط كان يعطف على الحركة الوطنية .

( ج ) ـ أخيراً ، ثمة حدث مهم يستحق الذكر هنا . و المقصود بذلك هو التنظيم المرموق في ( الجبهة القومية للتحرير ) و تأصلها الصلد في الأرياف . إن فعالية و نفاذ جهازها هي التي كونت و لا تزال تكون قوة الجبهة .

و هكذا ، فمن جلي الأمور هو أننا لا نستطيع أن نتجاهل هنا الإشراف شبه الفعلي الذي تمارسه ( الجبهة القومية للتحرير ) على القسم الأعظم من اليمن الجنوبي . بفضل هذا الإشراف ، خضع البلد ، لأول مرة في التاريخ ، لسلطة واحدة .

6 ـ تأثير النكسة العربية في حزيران 1967 على تطور الوضع في اليمن الجنوبي

إن مؤتمر القمة العربي الذي عقد في الخرطوم في شهر أغسطس 1967 قد كرس انتصار الاعتدال العربي ؛ و كان المؤتمر أحدى النتائج لنكسة حزيران التي ضربت الحركة التقدمية في الشرق الأوسط .وقد تضررت الجمهورية العربية المتحدة تضرراً خطيراً من العدوان الإسرائيلي فأصبحت مجبرة على التعاون مع الأنظمة المعتدلة ، و مقابل المساعدة المالية من العربية السعودية و الكويت و ليبيا توجب عليها أن تنسحب من جهات متعددة . و من بين الدلائل الكبرى لهذا الانسحاب ، لن نذكر هنا سوى بالدلائل المتعلقة مباشرة بالجنوب العربي . فمن جهة انسحاب القوات المصرية اللا مشروط تقريباً من اليمن ( اتفاق جمال عبد الناصر ـ و فيصل ) و من جهة أخرى المجهود الذي تبذله جامعة الدول العربية في سبيل المصالحة الوطنية في اليمن الجنوبي . إن نهاية الوجود العسكري المصري ومحاولة التنظيم العربية كان لهما نتائج تتعارض مع أوضاع القوى الوطنية في الجنوب اليمني .

( أ ) المجهود الذي بذلته الجامعة العربية في سبيل المصالحة :

تحت ضغوطات مجتمعة من جانب الجمهورية العربية المتحدة والعربية السعودية ،عينت الجامعة العربية في سبتمبر 1967 ، لجنة خاصة مؤلفة من خمسة أعضاء مهمتها درس الوسائل لتحقيق الوحدة الوطنية في اليمن الجنوبي . و أخذت اللجنة الوطنية على عاتقها الاستماع لكل الأحزاب و الفئات بما في ذلك الأمراء المخلوعين ، و العمل بغية تشكيل حكومة اتحاد وطني .

و بالطبع كانت العناصر المعتدلة و التقليدية التي تحميها العربية السعودية و التي كانت تقدم لها الجامعة العربية آخر خط في البقاء، هي أول من سافر إلى القاهرة . و اتخذت ( جبهة تحرير جنوب اليمن ) موقفاً تصالحياُ و وافقت على الاشتراك في محادثات اللجنة الخاصة . و أما الجبهة القومية للتحرير فقد رفضت بتاتاً توسط الجامعة العربية الذي اعتبرته ، بحق ، مؤامرة موجهة لحرمانها من النصر . بالإضافة إلى ذلك فقد كانت مستعدة كحد أقصى لمقابلة زعماء جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ، و لهذا السبب لم تحقق أعمال اللجنة الخاصة أدنى تقدم .

ومن جهة أخرى أدى فتح باب المحادثات بين جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل و بين الجبهة القومية للتحرير إلى وقف تلك الأعمال.

( ب ) أفول نجم جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل :

كانت جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل قد بدأت تفقد سرعتها و تطورها منذ يونيو 1967؛ فضعف الجمهورية العربية المتحدة الناجم عن الحرب العربية الإسرائيلية و التقدم الهام الذي حققته الجبهة القومية للتحرير في داخل البلد ، وجها لجبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ضربة قاسية ، و عبثاً حاولت جبهة التحرير أن تستعيد توازنها لأن الأوان قد فات .

في الحقيقة كانت جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل تبحث عن الاستيلاء على السلطنات الأميرية غير المتحررة بعد . فاصطدمت بالجبهة القومية للتحرير في إمارات الضالع و لحج و توصلت فقط إلى نشر نفوذها على بعض القبائل العوذلية . و في سلطنتي الواحدي و الكثيري أعلنت العناصر التقليدية حتى تكون في مأمن من هجمات الجبهة القومية للتحرير ، انتماءها إلى جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل دون أن تكون مع ذلك من الأنصار المقتنعين بهذه الأخيرة . و حصلت الاصطدامات الخطيرة في عدن و بالأخص في القرى و الضواحي . سقطت عدن الصغرى في أيدي الجبهة القومية و المنصورة تحت إشراف جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل بينما كان الشيخ عثمان عرضة لتقسيم حقيقي بين المنظمتين .

سببت هذه الاصطدامات الحزن المبرح العام و استاءت منها كل قطاعات السكان بالإجماع . و شرع رجال الدين و العسكريون بمساع عديدة لدى الزعماء الوطنيين و الرئيس جمال عبد الناصر لوقف التصادم الأخوي القاتل . و في هذه الظروف المأساوية وافقت المنظمتان على إجراء محادثات فيما بينهما .

7 ـ محادثات القاهرة :

بعد أن فشلت جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل ( جبهة التحرير ) في تصحيح الوضع لصالحها ، توجب عليها أن تلين مواقفها السابقة . فقد انقطعت عن اعتبار نفسها الممثل الوحيد لشعب اليمن الجنوبي و تخلت عن مشروعها الرامي إلى تشكيل حكومة في المنفى . و عدا عن ذلك ، ظهرت موافقة على بعثة هيئة الأمم المتحدة و على اللجنة الخاصة الموفدة من قبل الجامعة العربية . باختصار ، أعطت عدة دلائل على ضعفها . إلا انه ظل بيدها عدد لا ينكر من المقومات أهمها : جهازها العسكري و نفوذها في عدن و تأييد الجمهورية العربية المتحدة و العطف الدولي من جهة أخرى .

و هكذا كانت أوضاع الجبهتين غير متعادلة عشية بدء المحادثات في القاهرة . كان ميزان القوى يميل بكل وضوح لصالح الجبهة القومية للتحرير . أن حالة الدونية هذه التي كانت فيها جبهة التحرير ستضغط بثقل على المحادثات .

( أ ) ـ بدء المباحثات

بدأت المباحثات في أول أكتوبر بحضور عبد القوي مكاوي و قحطان الشعبي الأول رئيس وفد جبهة التحرير و الثاني رئيس وفد الجبهة القومية . و كانت النقاط التي ينبغي على الموفدين مناقشتها تدور حول :

ـ تشكيل حكومة مؤقتة .

ـ وضع دستور مؤقت أيضاً .

ـ و وضع برنامج عمل .

منذ البداية ، أحيطت المحادثات بتكتم شديد . و كان يظن أنها ستكون قصيرة جداً و حاسمة بسبب استمرار التوتر المحلي . وخاب أمل الجميع ، لأنهم ظلوا يتباحثون طيلة أسبوعين تقريباً بدون أية نتيجة مجدية .

و خلال ذلك الوقت استولت الجبهة القومية على حضرموت وهددت إمارتي العولقي و الواحدي اللتين كانتا قد أعلنتا ، مع ذلك ، ولاءهما لجبهة التحرير . غير أن الجبهة القومية قررت تحرير هذه الدول لأنها كانت تعتبرها كآخر بؤر مقاومة لدى الإقطاعيين .

و في هذا الجو المتوتر أذاع الضباط المنتمون إلى جبهة التحرير بياناً شهيراً في 20 أكتوبر يتهمون فيه السلطات البريطانية و بعض رفاقهم في الجيش بمعاونة الجبهة القومية لخنق مقاومة أنصار جبهة التحرير . و بهذا التغير المفاجئ حصل ما لا يمكن إصلاحه . فالجيش الذي تعرض بذلك لتناقضات السياسة انقسم إلى كتلتين متخاصمتين . و شبت حرب بيانات تتهم الجبهة القومية و جبهة التحرير بعضهما البعض بهجومات و استثارات مقصودة ، بينما كان زعماء الجبهتين في القاهرة يظهرون سكوتاً مدهشاً . و استمرت الوضعية الداخلية في التدهور . و كان من الضروري فرض قرار طارئ لتخفيف التوتر و للإجابة على المندوب السامي الذي يكاد إنذاره أن ينتهي أعلنت لندن ، لإخضاع الزعماء الوطنيين ، أنها ستذيع بياناً هاماً جداً في 2 نوفمبر . و كانت ردة فعل الزعماء الوطنيين سريعة للغاية ؛ فقد أعلنوا في 1 نوفمبر اتفاق أولي و لكنهم لم يعطوا أي توضيح بشأن محتواه . غير أن المحادثات دخلت في طورها الأخير ؛ و قد استقبل الاتفاق في عدن بسرور عظيم .

و في 2 نوفمبر أعلن وزير الخارجية في مجلس العموم ان حكومته قد قررت تقديم تاريخ استقلال اليمن الجنوبي هذا ، إلى نهاية نوفمبر 1967 بدلاً من 9 يناير1968 . و أدى إعلان رحيل البريطانيين القريب إلى تصعيد التوتر من جديد .

( ب ) ـ تدهور الوضعية

في ليلة الثاني من نوفمبر عادت المنازعات بعنف في عدة أماكن من عدن و أدت إلى سقوط بضع عشرات من الضحايا . و هيمن الخوف و اليأس على العائلات في الشيخ عثمان ، و بسرعة دب الهلع في باقي عدن حيث دارت معارك ضارية . و تدخل الجيش ، دونما نجاح ، للتوصل إلى توقف المعارك و أخيرا اضطر للأمر بوقف إطلاق النار على الفور و فرض منع التجول في المناطق المضطربة .

و في 4 نوفمبر وجه زعماء الجبهة القومية و جبهة التحرير نداء مؤثراً من القاهرة إلى أنصارهم يدعونهم فيه إلى وقف الاقتتال . و بعد هدنة دامت بضع ساعات ، عادت الصدامات إلى الظهور برعب، و كانت نتيجتها تسميم الجو أكثر مما كان عليه . و اتهمت الجبهة القومية جبهة التحرير بانتهاك وقف إطلاق النار و طلبت من وفدها في القاهرة أن يوقف المباحثات و أن يعود إلى البلاد .على اثر هذه الأحداث الدامية ، حمل الجيش جبهة التحرير مسؤولية الرجوع إلى المخاصمات . بناء على ذلك ، قرر المندوب السامي في 6 نوفمبر الاعتراف بالجبهة القومية كممثل شرعي وحيد للشعب اليمني الجنوبي بينما كان يعتبر ، قبل أسبوع فقط ، الجبهة القومية و جبهة التحرير هما الممثلان للشعب . و في ذات الوقت طلب الجيش من الجبهة القومية و من الحكومة البريطانية أن تبدءا المحادثات في اقصر فترة . إن موقف الجيش قد حل الصراع بشكل نهائي لصالح الجبهة القومية و تسبب هكذا في إفشال مباحثات القاهرة التي أصبحت غير مجدية و متجاوزة . و بادرت جبهة التحرير إلى اتهام الجبهة القومية بالتآمر مع المملكة المتحدة و مع الجيش .

خلف كل هذه الأحداث و الاصطدامات نجد بكل تأكيد الصراع من اجل السلطة في عدن و الرغبة في التباحث مع لندن بوضع قوي . و بالتالي ، كان من الجلي أن المنظمتين كانتا تعتمدان قليلاً على مباحثات القاهرة و تعطيان أهمية رئيسية للاستيلاء على عدن .

هيمنت الجبهة القومية على كل البلد تقريباً و وجدت أنه من غير الطبيعي أن تفلت عدن من نفوذها . و أما جبة التحرير فقد كانت عدن بالنسبة إليها ذات أهمية حياتية . فالإشراف على منطقة عدن كان أهم بكثير من السيطرة على مناطق البلد الداخلية . وهكذا كان الاستيلاء على عدن مسألة حياة أو موت بالنسبة لجبهة التحرير.

و بعد عدة أيام من المعارك الطاحنة خسرت جبهة التحرير معركة عدن ؛ و على الفور بدأت مطاردة أتباعها و مناضليها . و تبع ذلك تطهير الجيش و الشرطة و الإدارة .

8 ـ سقوط النظام الاستعماري :

إذن خرجت الجبهة القومية منتصرة من التصارع الدموي الذي دام من 1 إلى 6 نوفمبر ؛ و بسقوط عدن صار البلد كله تقريباً تحت إشرافها ؛ و سقط النظام الاستعماري كقلعة من الورق . إن وجود المندوب السامي و توقف الجيوش هما ظواهر السلطة الاستعمارية الوحيدة و الأخيرة . و أما الإدارة البريطانية فقد تلاشت بسرعة .

بحثت الجبهة القومية ، بسرعة ، عن سد الفراغ و ذلك بحلولها محل السلطة الاتحادية في عدن و في داخل البلد.

و لأول مرة في التاريخ الاستعماري تتخلى المملكة المتحدة عن القيام بمسؤولياتها . و في فلسطين بالذات كان ينبغي عليها أن تبقي سلطتها حتى يوم الرحيل النهائي . إن حلول سلطة الجبهة القومية مكان النظام الاستعماري تستحق أن يشار إليها بشدة . فلم تقبل السلطة الاستعمارية في أي مكان من العالم ، بأن تقوم بتلاش و اختفاء مماثل قبل تسليم السلطة و إعلان الاستقلال . و مع ذلك هذا هو ما حدث في اليمن الجنوبي . و في هذه الظروف إذا كان للمباحثات بين الحكومة البريطانية من جهة و بين الجبهة القومية من جهة أخرى ، المقررة في 20 نوفمبر في جنيف ، لها معنى ما ، فهو إناطة الدولة اليمنية الجنوبية بصلاحيات السيادة الخارجية وتحديد مقدار المساعدة المالية البريطانية للدولة المستقلة الجديدة .و كل شيء يبدو مشيراً إلى أن البلد سيحصل في 30 نوفمبر على الاستقلال في الصفاء و الوحدة . مع ذلك ، سيطرح الحصول على الاستقلال مشاكل بالغة التعقيد تستلزم وقتاً طويلاً لحلها . و لا يمكن لتغير و لو جزئي في البنى الموروثة من الماضي و لإنشاء بنى جديدة أن يتم دفعة واحدة نظراً لأن ظروف الانطلاق ستكون غير مواتية بصفة خاصة .

إقراء أيضاً
اكثر خبر قراءة سوبر نيوز