شركة فاغنر الروسية.. النشأة والدور والتأثير

الجمعة 05 مايو 2023 الساعة 04 مساءً / مأرب برس-متابعات
عدد القراءات 3552

ورقة بحيثة حول شركة فاغنر الروسية النشأة والدور والتأثير- أحمد فريد مولانا-المعهد المصري للدراسات

المقدمة

أسفر تفكك الاتحاد السوفيتي عن تسريح عدد كبير من العسكريين والأمنيين الروس الذين أقاموا علاقات مع الشركات العسكرية والأمنية الخاصة الدولية حيث خدموا كحراس شخصيين وطيارين ومدرِّبين. وفي ظل تدهور المؤسسات الأمنية الروسية وانتشار عصابات الجريمة المنظمة التي تبتز رجال الأعمال والمواطنين لدفع إتاوات أخذت الشركات الأمنية الخاصة في روسيا في التزايد وصولا إلى تقنين عملها من خلال قانون الحماية الخاصة في عام 1992. وبحلول عام 1998 أصبحت نسبة عناصر الأمن الخاص إلى الشرطة في روسيا ثلاثة إلى واحد مما عكس وجود سوق محلية كبيرة للأمن الخاص[1]. ولكن الأمر لم يتسع ليشمل تقنين الشركات العسكرية الخاصة.

لم يؤد تقليص حجم الجيش السوفيتي إلى تسريح العديد من أفراده فقط، إنما شمل أيضاً تسريح وحدات عسكرية كاملة. فأعادت بعض الوحدات المسرحة تشكيل نفسها على شكل شركات عسكرية وأمنية خاصة مثل شركة (ألفا جروب) التي تشكلت من مجموعة قوات خاصة تابعة لجهاز أمن الدولة الروسي (FSB). كما برزت شركات ساهمت في تنظيم عمليات إرسال المتطوعين إلى الحروب مثل شركة (Rubikon) التي أشرفت على تنظيم سفر المتطوعين للقتال إلى جانب الصرب أثناء الحرب الأهلية في يوغسلافيا السابقة في تسعينيات القرن العشرين[2]. ثم توالى ظهور وتأسيس الشركات العسكرية الروسية وصولا إلى بروز اسم شركة فاغنر لأول مرة في عام 2014 أثناء القتال في شرق أوكرانيا ثم ذاع صيتها مع مشاركة عناصرها في أعمال القتال والتدريب والحراسة في عدة دول مثل سوريا وليبيا وإفريقيا الوسطى والسودان.

حتى الآن لا يزال حجم الانخراط الروسي في مجال الشركات العسكرية والأمنية الخاصة محدودا، لكن الشركات الروسية القليلة الموجودة نشطة بشكل كبير. وتختلف الشركات العسكرية والأمنية الخاصة الروسية عن نظائرها في أميركا والدول الغربية من عدة جوانب. فالشركات الروسية لا تحظى حتى الآن بمشروعية قانونية داخل روسيا حيث يحظر القانون تأسيس تلك النوعية من الشركات، كما أنها تنخرط في أعمال قتالية هجومية بخلاف الشركات الغربية التي يُحظر عليها القيام بعمليات هجومية[3]. ولدى بعض الشركات الروسية دوافع أيديولوجية أكثر من نظيرتها الغربية كما أنها أقل ميلاً لتوفير الخدمات اللوجستية وخدمات الدعم الأخرى من معظم الشركات الغربية النظيرة[4]. وأخيرا، تعمل الشركات الروسية ضمن توجيهات الأجهزة الأمنية الروسية، وليس وفق قواعد السوق التي تعمل ضمنها الشركات الغربية.

تهدف هذه الورقة البحثية إلى تناول:

الخبرة الروسية في توظيف جهات فاعلة غير حكومية.

الدوافع الروسية لتطوير صناعة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة.

جذور نشأة شركة فاغنر، وأنشطتها الخارجية.

علاقة فاغنر بالأجهزة الأمنية الروسية.

حدود تأثير فاغنر على المستوى الميداني.

أولا: ما المقصود بالشركات العسكرية والأمنية الخاصة؟

قدم (الفريق العامل المعني باستخدام المرتزقة كوسيلة لانتهاك حقوق الإنسان وإعاقة ممارسة حق الشعوب في تقرير مصيرها) التابع للأمم المتحدة تعريفا لشركات الخدمات الأمنية والعسكرية الخاصة جاء فيه أنها (شركات ذات كيان قانوني تقدم لقاء مقابل مادي خدمات عسكرية و/ أو أمنية بواسطة أشخاص طبيعيين و/ أو كيانات قانونية. ويُقصد بالخدمات العسكرية الخدمات المتخصصة المتعلقة بالعمل العسكري، بما في ذلك التخطيط الاستراتيجي والاستخبارات والتحقيقات وعمليات الاستطلاع البري أو البحري او الجوي، وعمليات الطيران أيا كان نوعها، بطيار أو بدون طيار، والمراقبة بالأقمار الصناعية، وأي نوع من أنواع نقل المعارف بواسطة تطبيقات عسكرية، وتقديم الدعم المادي والتقني للقوات العسكرية وغير ذلك من الأنشطة ذات الصلة. أما المقصود بالخدمات الامنية فهو حراسة أو حماية المباني والمنشآت والممتلكات والأشخاص بواسطة حرس مسلحين، وأي نوع من أنواع نقل المعارف بواسطة تطبيقات أمنية أو تطبيقات حفظ النظام، واتخاذ تدابير أمنية لأغراض الرقابة وتنفيذها، وغير ذلك من الأنشطة ذات الصلة)[5].

يرى الفريق المذكور أن هذا التعريف يجعل تعريف المرتزقة الوارد في المادة الأولى من الاتفاقية الدولية لمناهضة تجنيد المرتزقة واستخدامهم وتمويلهم الصادرة عام 1989غير منطبق عادة على موظفي شركات الخدمات العسكرية والأمنية الخاصة العاملين بشكل قانوني في بلد أجنبي. وعدم الانطباق يعتمد على تفسير خلاصته أن الأفراد الذين يقاتلون تحت إشراف جهات فاعلة تحظى بشرعية مثل الدول ليسوا مرتزقة، فالمرتزقة لا يخضعون لأي إشراف من جهة شرعية سوى ما يندرج ضمن عقود عملهم.

ورغم ما سبق، يوجد جدل حول ما إذا كان ينبغي تسمية الشركات العسكرية الخاصة الروسية مثل مجموعة فاغنر “بالمرتزقة” أم لا. حيث يُطلق وصف المرتزقة على الأفراد الذين يعملون لصالح أرباب عمل خلاف حكومة دولتهم الأصلية، وتحركهم للقتال دوافع الحصول على المال لا القتال من أجل قضية وطنية أو أيديولوجية وما شابه.

ثانيا: محاكاة النموذج الغربي وعقيدة جراسيموف

رغم قدم ظاهرة المرتزقة عبر التاريخ إلا أن ظاهرة الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة تنامت بقوة بعد انتهاء الحرب الباردة بداية تسعينات القرن العشرين. ففي ظل تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية للنظام العالمي الجديد ذي القطب الواحد، اعتمدت واشنطن خيار إعادة هيكلة قواتها المسلحة، وتقليص عدد الجنود خصوصا في الوحدات المختصة بمهام الدعم اللوجيستي مقابل التركيز على تطوير الوحدات المقاتلة والأسلحة النوعية والذكية. وذلك من منظور يرى أن استخدام عناصر الشركات العسكرية في مهام الحراسة والتأمين والدعم اللوجيستي يوفر أموالا طائلة تُنفق على الجنود النظاميين في مجالات متنوعة مثل التعبئة في أوقات السلم، والتدريب قبل الانتقال إلى مواقع الخدمة، والتأمين الصحي، ومعاشات التقاعد، والمنح الدراسية الجامعية أثناء الخدمة، والتأمين على الحياة، فضلا عن المكاسب السياسية المتمثلة في تجنب ردود الأفعال الشعبية السلبية في حال سقوط قتلى من الجنود النظاميين، حيث لا يهتم الرأي العام الغربي بمقتل أفراد من الشركات الخاصة يتقاضون رواتب مقابل أعمال اختاروها عن رضا وطواعية.

 ولم يقتصر دور الشركات الغربية على التعاقد مع البنتاجون إنما امتد ليشمل التعاقد مع هيئات أخرى مثل الوزارات المختلفة وشركات النفط والتعدين والمنظمات الإغاثية ووكالات الأمم المتحدة بغرض توفير الحراسة وتقديم الدعم اللوجيستي والمساهمة في عمليات إعادة بناء الدول المنهارة من خلال تأهيل وتدريب قوات الشرطة والجيش. وقد بلغ حجم عناصر الشركات العسكرية والأمنية الخاصة نصف مجموع القوات الأمريكية المنتشرة في العراق وأفغانستان بحلول عام 2010، وجلب التعامل المالي في هذا المجال دخلا يتراوح من 20 إلى 100 مليار دولار سنويا[6].

وحرصا على سمعتها ابتعدت الشركات الغربية عن الخدمات التي تربط اسمها بالمرتزقة كي تتلافى مصير شركة بلاك ووتر الأمريكية التي خسرت جميع عقودها في العراق وتلطخت سمعتها بعد حادث مقتل 17 مواطنا عراقيا وإصابة 20 آخرين على يد خمسة من عناصر الشركة في ساحة النسور ببغداد عام 2007[7]. وبدأت بعض الشركات في استخدام ألفاظ لطيفة لتسمية نفسها من قبيل شركات “إدارة المخاطر”.

وفي المقابل فيما يخص روسيا، لم يتطرق آخر إصدار رسمي للعقيدة العسكرية الروسية في عام 2014 إلى أي دور للشركات العسكرية والأمنية الخاصة في صندوق الأدوات العسكرية الروسية[8]. لكن عمليا استفادت روسيا من تجربة استخدام الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو للشركات العسكرية والأمنية الخاصة في العراق وأفغانستان وفق منظور يؤكد على بقاء الدور الحاسم للقوة العسكرية في حسم الصراعات بجوار تزايد دور الأساليب غير العسكرية والجهات الفاعلة غير النظامية في تحقيق الأهداف السياسية والاستراتيجية. وعبر عن هذا التوجه الجنرال فاليري جيراسيموف رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الروسية فيما اشتهر باسم “عقيدة جيراسيموف”.

فخلال العقد الأول من الألفية الثانية تراوح عدد الشركات العسكرية الخاصة الروسية بين 10 إلى 20 شركة، وتفاعلت الشركات العسكرية الروسية مع المستجدات الدولية، حيث أنشأت شركة النفط الروسية Lukoil في عام 2010 شركتها الأمنية الخاصةLukom-A لحماية استثماراتها في العراق، كما استأجرت شركات الملاحة البحرية الروسية شركات خاصة لحماية سفنها في خليج عدن من القراصنة الصوماليين.

 عمليا لا تتشكل الشركات من خلال العرض والطلب في السوق فقط، ولكن أيضاً من خلال البيئة الثقافية والتاريخية والسياسية والقانونية التي تعمل في إطارها. وهو ما أدى في الحالة الروسية إلى تهجين الشركات العسكرية الخاصة لتشمل شركات تشابه النمط الغربي وأخرى أقرب للمرتزقة وثالثة ذات توجه أيديولوجي يجعلها شبيهة بالميليشيات المسلحة. والمشترك بينهم جميعا يتمثل في أنهم يعملون ضمن توجيهات السلطات الروسية[9].

ثالثا: الخبرة الروسية في توظيف جهات فاعلة غير حكومية (تجربة القوزاق)

لروسيا تجربة تاريخية في توظيف واستخدام مليشيات غير حكومية لتحقيق أهداف أمنية وسياسية واستراتيجية. وتمثل تجربة القوزاق نموذجا مثاليا لهذا التوجه. يعود مصطلح القوزاق إلى القرنين الرابع عشر والخامس عشر ميلاديا، ويشير في الأصل إلى مجموعات من الرجال اشتهروا بالشجاعة عاشوا كتجار رحل ومرتزقة وقطاع طرق في السهوب على حدود بولندا وليتوانيا وروسيا. عبر التاريخ اتسمت علاقة القوزاق بالدولة الروسية بالتأرجح من خلال النظر إليهم كطبقة محاربين يخدمون مصالح موسكو أحيانا، والنظر إليهم أحيانا أخرى كتحد يهدد هيمنة الدولة.

خلال توسع الإمبراطورية الروسية في القرنين الثامن والتاسع عشر منحت موسكو القوزاق حقوقاً خاصة ودرجة من الاستقلال الإداري في المناطق التي استقروا فيها مقابل الدفاع عن هذه الأراضي نيابة عن الدولة الروسية، فشكلوا حاجزا أرثوذكسيا أمام الجنوب الإسلامي. وعند شن القوزاق لغارات على الأراضي العثمانية كانت موسكو تتنصل من مسؤوليتها عنهم وتعتبر أن أفعالهم لا تمثلها رغم أن القيصر زود القوزاق بانتظام بالإمدادات والذخيرة. ورغم ذلك، انقلب القوزاق على الإمبراطورية، وقادوا ثورتين في القرن الثامن عشر. لكن بعد أن سحق القيصر ثورات القوزاق أدرجهم كطبقة عسكرية خاصة داخل القوات الإمبراطورية، واستخدمهم في الحملات العسكرية لتوسيع الإمبراطورية في القوقاز وسيبيريا وآسيا الوسطى. كما استخدمهم كقوات شبه عسكرية لطرد (أو قتل) المسلمين واليهود داخل الإمبراطورية.

بعد الثورة الشيوعية، أطلق البلاشفة في يناير 1919 برنامج “إنهاء القوزاق” في ظل قتال بعضهم إلى جوار الروس البيض ضد الثورة، مما أدى إلى مقتل أكثر من 1.5مليون قوزاقي، وتوزيع العديد من المجموعات المتبقية منهم على مناطق مختلفة. ولكن مع اشتعال الحرب العالمية الثانية، أعيد إحياء كتائب القوزاق مرة أخرى لمحاربة النازيين حيث شكلوا 17 فيلقا ضمن الجيش الأحمر في حين قاتل بعضهم في صفوف الألمان.

بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، أصدر يلتسين عدة مراسيم مهدت الطريق لاستعادة العلاقة بين القوزاق والدولة الروسية، فضمن لهم وضع “دولة أرخبيل” داخل روسيا تتكون من 12 منطقة اتحادية يرأسها مجلس مسؤول أمام الرئيس مباشرة. وفي عام 1995 مُنح القوزاق الحق في تأسيس شركات أمنية.

ومع تولى فلاديمير بوتين للسلطة روج بوتين لشجاعة القوزاق وإيمانهم الأرثوذكسي وتمسكهم بالقيم المحافظة والولاء للدولة الروسية، وأعرب القوزاق في المقابل عن دعمهم القوي لبوتين. فصدر قانون في 2005 تحت اسم (القوزاق الروس في خدمة الدولة) سمح لأكثر من 600 ألف من القوزاق بالقيام بوظائف مختلفة عادة ما تسيطر عليها الدولة. وشمل ذلك الحق في الدفاع عن المناطق الحدودية، وحراسة الغابات، وتنظيم التدريب العسكري للطلاب الصغار، ومكافحة الإرهاب، وحماية مباني الحكومة المحلية والمواقع الإدارية، وصولا إنشاء فوج القوزاق الجديد في الجيش، وإنشاء مدارس القوزاق العسكرية.

نفذ القوزاق المهام التي فضلت السلطات الرسمية تجنب القيام بها مثل تهجير الأقلية العرقية التركية من جنوب كراسنودار في عام 2005. كما عمل القوزاق كمرتزقة خلال القتال في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية والشيشان ويوغوسلافيا السابقة، ولعبوا دوراً مهماً في الاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم وكذلك في الحرب بشرق أوكرانيا. ويذهب الباحث المختص في الشأن الروسي جالوتي إلى أن القوزاق يشرف عليهم حاليا جهاز الاستخبارات العسكرية (GRU) التابع لهيئة الأركان العامة بالجيش الروسي. وتشير تجربة القوزاق إلى ميل موسكو لتوظيف جهات فاعلة غير حكومية لتنفيذ مهام يُفترض أن تقوم بها الدولة، وهو ما يشابه تجارب الشركات العسكرية والأمنية الخاصة الروسية[10].

رابعا: الدوافع الروسية لتطوير صناعة الشركات العسكرية والأمنية الخاصة

يذهب الباحث تور بوكلوف إلى وجود 4 محركات رئيسية لتطوير الشركات العسكرية والأمنية الخاصة في روسيا، وهي : جني الأرباح، والمحاكاة العسكرية للغرب، وتوظيف تلك الشركات لتحقيق مصالح روسيا دون الانخراط بشكل رسمي في الصراعات، وتجنب انزعاج الرأي العام من حدوث خسائر بشرية مثلما حدث في تجربة الغزو الروسي لأفغانستان[11].

ففيما يتعلق بجني الأرباح ومحاكاة الغرب، نجد أن الصناعة العسكرية الخاصة تتسم بسوق سريع النمو دولياً تهيمن عليه الدول الغربية، وتوجد فرص كبيرة أمام روسيا لتحقيق أرباح منه. كما يمكن توظيف الشركات العسكرية والأمنية الخاصة لتحقيق مصالح موسكو المتعلقة بدعم الأنظمة الحليفة في مواجهة الثورات والتمردات، وهو ما عبر عنه بوتين واصفا الشركات العسكرية والأمنية الخاصة بأنها (أداة لتحقيق المصالح الوطنية حيث لا يتعين على الدولة نفسها الانخراط في الصراع)[12] . أما المحرك الرابع فيتمثل في تجنب المخاطرة بأرواح الجنود الروس في عمليات غير مرتبطة مباشرة بالدفاع عن البلاد في ظل حساسية الروس تجاه تكبد خسائر كبيرة منذ تجربة غزو أفغانستان عام 1979. وقد أشار استطلاع للرأي أجراه مركز ليفادا في أكتوبر 2015 عند بدء العمليات الروسية في سوريا إلى أنه بالرغم من دعم أكثر من 50% من الروس لسياسة بلدهم تجاه سوريا فإن 19% فقط كانوا على استعداد لدعم إرسال جنود على الأرض فعادة لا يحظى متعاقدو الشركات الخاصة بتعاطف عند مقتلهم في ظل نظرة الشعب لهم بأنهم يتلقون أجوراً عالية مقابل الأعمال التي اشتركوا بها طواعية[13].

خامسا: تأسيس شركة فاغنر

أعقب سقوط وتفكك الاتحاد السوفيتي تسريح عدد كبير من العسكريين والأمنيين الذين اتجهوا إلى تأسيس شركات أمنية وعسكرية، حيث توجد حوالي 20,000 شركة حماية خاصة في روسيا، وقرابة 4,000 شركة أمنية خاصة، وما بين 10 إلى 20 شركة عسكرية خاصة[14].

تعود جذور شركة فاغنر إلى شركة أوريل (Orel) لمكافحة الإرهاب التي تأسست رسميا في مدينة أوريل في عام 2003 باعتبارها “مركزاً للتعليم والتدريب غير الحكومي”. وهي شركة أسسها أفراد متقاعدين من القوات الخاصة. ووقعت تلك الشركة عقودا مع شركات مدنية روسية مختلفة لحماية عملياتها التجارية في العراق. وانبثقت عن شركة أوريل (Orel) عدة شركات من أبرزها شركة تدعى (مجموعة موران للأمن) مسجلة رسميا في عام 2011، وتقول في موقعها الإلكتروني أنها تقدم خدمات الحماية في المجال البحري بما في ذلك الحراسة المسلحة للسفن، ولديها أنشطة في أفريقيا الوسطى وكينيا ونيجيريا، وعدد من السفن البحرية الخاصة بها المسجلة في جزر الكوك.

تصدرت موران واجهة الأخبار في روسيا عندما ألقت الحكومة النيجيرية القبض على تسعة من حراسها الروس خلال غارة على سفينتهم في ميناء لاغوس في أكتوبر 2012 بتهمة امتلاك أسلحة بشكل غير قانوني. و أُطلق سراحهم بكفالة السفارة الروسية في نيجيريا، وسُمح لهم بالمغادرة والعودة إلى ديارهم في أكتوبر 2013[15].

في أكتوبر من عام 2013 طلبت الحكومة السورية من (مجموعة موران للأمن) المساعدة في استعادة السيطرة على البنية التحتية للنفط والغاز التي استولى عليها تنظيم الدولة الإسلامية، وذلك قبل عامين من دخول روسيا بشكل رسمي في الصراع السوري. وللقيام بتلك المهمة أسست (مجموعة موران للأمن) شركة فرعية في هونج كونج تُسمى الفيالق السلافية (Slavonic-Corpus) يمتلكها فاديم جوسيف نائب مدير مجموعة موران.

أرسلت شركة الفيالق السلافية 267 مقاتلا إلى سوريا، لكنهم لم ينجحوا في مهمتهم، وعند عودتهم إلى روسيا اُعتقل مالك الشركة جوسيف وأحد مساعديه، وأُدينا بتهمة إدارة مجموعات مرتزقة بموجب المادة 359 من القانون الجنائي الروسي، وحُكم عليهما بالسجن ثلاث سنوات[16]، ويبدو أنهما ذهبا ضحية صراعات الأجهزة الأمنية الروسية.

في تلك الأجواء ظهر اسم ضابط الاستخبارات العسكرية ديمتري أوتكين المولود في عام 1970. شارك أوتكين في حربي الشيشان الأولى والثانية، ثم انتقل في عام 2000 إلى بلدة “بيتشوري” بالقرب من الحدود الإستونية، حيث خدم كقائد لفرقة العمليات الخاصة (سبستيناز) في اللواء الثاني التابع للمخابرات العسكرية الروسية[17]. غادر أوتكين الخدمة في عام 2013، وعمل ضمن (مجموعة موران للأمن)، وشارك في بعثة شركة الفيالق السلافية إلى سوريا لكن لم يُقبض عليه عقب عودته إلى روسيا.

أسس أوتكين شركة فاغنر في عام 2014 على اسم الموسيقار الألماني ريتشارد فاغنر(1813-1883) الذي يعشق موسيقاه. وقد ظهر أوتكين في بث فيديو لحفل استقبال أُقيم في الكرملين في 9 ديسمبر 2016. وبعد أن أنكر الكرملين في البداية أي معرفة بوجود أوتكين، أقر السكرتير الصحفي لبوتين ديمتري بيسكوف في النهاية أن أوتكين حضر حفل تكريم للعسكريين السابقين في الكرملين[18]. 

ظهرت فاغنر لأول مرة بالمشهد العام في شرق أوكرانيا في مارس 2014 في وقت كان فيه الكرملين بحاجة إلى خوض الحرب هناك بشكل سري لتخفيف الضغوط الدولية ضده. نشطت فاغنر في جزيرة القرم ودونباس ولوهانسك، وخاضت معارك ضارية ضد القوات الأوكرانية[19]. ورصد جهاز الاستخبارات الأوكرانية (SBU) في فبراير2015 مكالمات هاتفية بين أوتكين وأوليج إيفانيكوف أحد كبار ضباط الاستخبارات العسكرية الروسية بخصوص التقدم المحرز في الأنشطة العسكرية في شرق أوكرانيا[20].

مع تراجع القتال في أوكرانيا، نُقل عناصر فاغنر في عام 2015 إلى قاعدة تدريب سرية في مولينكو بمنطقة كراسنودار بجوار منشأة تدريب تابعة للقوات الخاصة العاملة ضمن اللواء العاشر في الاستخبارات العسكرية (GRU) في جنوب روسيا[21]. وظل أوتكين يقود فاغنر عسكريا في حين بدأ دورها يتوسع بمرور الوقت في سوريا حيث استفاد عناصرها من القواعد العسكرية الروسية والشبكات اللوجستية الموجودة هناك.

في تلك الآونة برز دور رجل الأعمال يفجيني بريغوزين كممول ورئيس لفاغنر في حين لم يتعد دور أوتكين جانب القيادة الفنية والميدانية. ومن الملفت للنظر أنه لا توجد أي خلفية عسكرية أو أمنية لبريغوزين. والمعلومات المتوافرة عنه تذكر أنه بعد قضائه فترة في السجن بتهمة السرقة والاحتيال في أواخر الحقبة السوفيتية، أصبح صاحب مطعم يدير مطاعم راقية في مدينة سانت بطرسبرج التي عمل فيها بوتين. وبحلول منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بعد استضافته لبوتين في مطاعمه، بدأ بريغوزين يشق طريقه إلى دائرة الرئيس، ليتمكن في نهاية المطاف من أن يصبح متعهدا لتوريد الطعام إلى الكرملين ويشتهر بلقب “طباخ بوتين”[22]. ثم توسع نشاطه ليشمل توريد الطعام إلى الجيش والشرطة والمدارس والمرضى في المستشفيات مقابل مدفوعات ضخمة تقدر بما لا يقل عن 3 مليارات دولار[23].

تمويل بريغوزين لفاغنر وفر عدة مزايا للكرملين حيث أصبحت تحت يده قوة مرتزقة دون الحاجة إلى دفع تكاليف عملها، ففي سوريا تكفل نظام بشار الأسد بدفع تكاليف الخدمات العسكرية التي تقدمها شركة فاغنر عبر منحها ربع أرباح حقول النفط والغاز التي تحرسها الشركة أو تستعيدها من خصوم النظام[24]. كما استخدم الكرملين فاغنر لتحقيق أهدافه دون أن يتحمل تبعات أفعالها، حيث صورهم على أنهم متطوعون لا علاقة لهم بالدولة.

وفي تحقيق مشترك أجراه موقع (Bellingcat) مع موقع (The-Insider) ومجلة دير شبيغل الألمانية، وتضمن تحليل رسائل بريد إلكتروني لأحد مساعدي بريغوزين سربتها في عام 2015 مجموعة القرصنة الروسية “Shaltai Boltay”، واحتوت على سجلات فواتير هاتف لبريغوزين، تبين أنه اتصل وأرسل رسائل نصية إلى ديمتري بيسكوف مستشار بوتين والمتحدث باسمه بما مجموعه 144 مرة. كما تواصل مع أنطون فاينو رئيس موظفي بوتين ما مجموعه 99 مرة. وكذلك تواصل 54 مرة مع إيجور ديفيكين نائب رئيس موظفي بوتين، كما تحدث بريغوزين 31 مرة مع نائب وزير الدفاع بولجاكوف المسؤول عن الخدمات اللوجستية في الجيش، وتحدث 3 مرات مع يوري أوشاكوف سفير روسيا السابق لدى الولايات المتحدة وكبير مستشاري بوتين في قضايا السياسة الخارجية، وهو ما يعني أن بريغوزين ليس مجرد متعهد لتوريد الطعام إنما هو جزء من الحلقة المقربة من بوتين[25].

سادسا: استقلالية فاغنر النسبية

تعمل فاغنر تحت مظلة الدولة الروسية وبالتحديد تحت إشراف جهاز الاستخبارات العسكرية، لكن لديها حيز خاص مستقل تعمل في إطاره، وهو ما كشفه هجوم المئات من عناصر فاغنر على مصنع غاز كونوكو في محافظة دير الزور بسوريا في 7فبراير 2018، وهو المصنع الذي يقع ضمن مناطق سيطرة المليشيات الكردية الحليفة لواشنطن. فعندما تقدم مقاتلو فاغنر وحلفاؤهم السوريون لمهاجمة الموقع، حذر المسؤولون العسكريون الأمريكيون نظراءهم الروس لسحب القوات المهاجمة عبر خط تواصل مباشر، فردّ الجيش الروسي بنفي أي علم له بالقوة المتقدمة، فهاجمها الجيش الأميركي جوا بضراوة ليقتل ما يصل إلى 200 من مقاتلي فاغنر[26]. وعلق المسؤولون الروس رسميا على الحادثة بالقول (نحن نتعامل فقط مع البيانات التي تتعلق بجنود القوات الروسية … ليس لدينا بيانات عن الروس الآخرين الذين يمكن أن يكونوا في سوريا)[27]. وأكد وزير الدفاع جيم ماتيس للكونجرس نفي القيادة العليا الروسية في سوريا أن المستهدفين تابعون لها[28]. وكشف الحادث أن مصالح بريغوزين التجارية قد تتسبب في مخاطر كبرى، حيث هدد تحرك عناصر شركته بشكل منفرد العلاقات الروسية الأمريكية، وأثار غضب الجيش الروسي والكرملين، مما دفع بريغوزين للتعهد بألا يحدث هذا مرة أخرى[29].

وعلى جانب آخر أدى الحادث إلى تعميق التوترات بين فاغنر والجيش الروسي الذي نأى بنفسه عن الهجوم. حيث شكك أعضاء من فاغنر خلال مقابلة صحفية في ادعاء الجيش بعدم علمه بهجومهم، وأعربوا عن شكوكهم في أن الضباط الروس سمحوا للقوات الأمريكية بالهجوم على عناصر فاغنر لإحراج بريغوزين. حتى إن أحدهم زعم أن ضابطا في الجيش الروسي تعهد بغطاء جوي للعملية، لكنه لم يوف بتعهده[30].

سابعا: من أين يأتي عناصر فاغنر؟

أجواء السرية المحيطة بفاغنر تجعل من الصعب تحديد هوية أعضائها وعددهم الإجمالي وقدراتهم بشكل دقيق. فمعظم المتوافر عنهم يعود إلى تحقيقات استقصائية لصحافيين روس. وتشير تلك التحقيقات إلى أن عدد عناصر فاغنر يتراوح بين 3,600 إلى 5,000 مقاتل جلهم من المواطنين الروس (معظمهم من أصل روسي وقوزاق، وقلة من أوكرانيا وأرمينيا ومولدوفيا وجورجيا وروسيا البيضاء).

شركة فاغنر الروسية النشأة والدور والتأثير-2

عدد من عناصر فاغنر من جنسيات مختلفة عملوا في السودان

ومن خلال شبكات العلاقات للعسكريين السابقين يتم ترشيح أفراد يذهبون إلى قاعدة فاغنر في جنوب روسيا للاختبار، وفي حالة الموافقة على تجنيدهم، يوقعون عقودا قصيرة الأجل قابلة للتجديد لمدة ثلاثة إلى ستة أشهر. وتتراوح أعمار المقاتلين من أوائل العشرينات إلى منتصف الخمسينيات. وينخرط أغلب عناصر فاغنر في العمل بدافع جني الأموال حيث يحصلون على أجور أعلى مما يدفعه الجيش الروسي[31]، ففي حين بلغ متوسط أجر عناصر فاغنر شهريا في عام 2017 قرابة 240 ألف روبل، بلغ متوسط الأجر في روسيا 39 ألف روبل[32]. ورغم أنه تُحَرك بعض عناصر فاغنر دوافع قومية فلا توجد عقيدة أيديولوجية واضحة تحرك عناصر الشركة ككل[33].

ثامنا: أنشطة فاغنر

شارك عناصر فاغنر في أنشطة قتالية وتدريبية في عدة دول بخلاف أوكرانيا، ومن أبرزها:

-سوريا

شارك عناصر فاغنر في تدريب قوات الجيش السوري النظامي كما شاركوا في أعمال قتالية ضد الفصائل المناهضة لنظام بشار الأسد. وبرز دورهم في استعادة سيطرة نظام بشار على مدينة تدمر من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية في فبراير ومارس 2016. وهي المعركة التي فقدت فيها فاغنر 32 مقاتلاً من بين 2500 عنصرا شاركوا في القتال. كما شارك عناصر فاغنر في استعادة مدينة تدمر للمرة الثانية في عام 2017، وقد زُودوا خلال القتال بأسلحة ثقيلة مثل دبابات القتال T-72 وقاذفات صواريخ غراد المتعددة ومدافع الهاوتزر عيار 122 مم. وتشكلت قوات فاغنر خلال تلك المعارك من أربع سرايا استطلاع، وسرية دبابات، ومجموعة مدفعية مشتركة، ووحدات استخبارات وأعمال لوجستية[34].

منيت فاغنر بخسائر كبيرة في سوريا حيث فقدت بعض الوحدات ما يصل إلى 30% من رجالها خلال فترة تعاقد واحدة، وفي حين بلغ عدد قتلى الجيش الروسي في سوريا خلال عام 2017 عدد 19 قتيلا، فقد بلغ عدد قتلى عناصر واغنر 200 قتيل[35]. ولاحقا تراجع حضور فاغنر في سوريا مع انتشار عناصرها في بلاد أخرى، وتراجع الأعمال القتالية في سوريا.

-السودان

بدأ ظهور فاغنر في السودان عقب زيارة الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى موسكو في شهر نوفمبر من عام 2017، ففي تلك الزيارة الشهيرة طلب البشير علناً من بوتين المساعدة ضد التدخلات الأمريكية في الشؤون السودانية. وعقب الزيارة بأقل من شهر نقلت روسيا أول سرية من شركة فاغنر بقيادة الرائد المتقاعد بالقوات الخاصة الكسندر كزنيتسفو إلى السودان. وجرى إنشاء مُعسكر لهم في مدينة أم درمان أشرف خلاله عناصر واغنر على تدريب عناصر القوات الخاصة والاستخبارات السودانية. وفي يونيو 2018 بدأ تدريب قوات الدعم السريع في المعسكر المذكور على كيفية التصدي للمظاهرات[36].

توثقت علاقة قوات الدعم السريع بفاغنر، وتم الاتفاق على الشراكة بينهما في تجارة الذهب والسلاح، وجرى إنشاء معسكر بمنطقة أم دافوق على الحدود السودان مع أفريقيا الوسطى مخصص لهذا الغرض. كما منح البشير فاغنر حقوق التنقيب عن الذهب في عدة مواقع في جبال النوبة ودارفور وولاية نهر النيل. وساهمت في تنفيذ أنشطة التعدين شركة روسية باسم (ميرو قولد) تأسست في السودان خلال عام 2017 بحي الرياض بالخرطوم تحت إدارة ميخائيل بوبتكين أحد المقربين من بريغوزين . كما تأسست شركة روسية بالشراكة مع شركة أسوار التابعة للاستخبارات السودانية تحت اسم”لوبايي للاستثمار” للقيام بأعمال التعدين في أفريقيا الوسطى. وفي أغسطس 2020 ألقت حكومة روسيا البيضاء القبض على 33 عنصرا من فاغنر على أراضيها ثبت أن من بينهم عدة عناصر تواجدوا في السودان قبل مجيئهم إلي البلاد، وعثر بحوزتهم على شرائح اتصالات وعملات وكروت شحن سودانية. وقد صرح وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوشين بأن (يفجيني بريغوزين وشبكته يستغلان الموارد الطبيعية للسودان لتحقيق مكاسب شخصية ونشر تأثيرهم الخبيث حول العالم)[37].

شركة فاغنر الروسية النشأة والدور والتأثير-3

عقد ميرقولد لتقديم خدمات نقل جوي من السودان إلى افريقيا

نشاط فاغنر في السودان رصدته أيضا شبكة تحقيقات استقصائية روسية تدعى (The Bell) تحدثت عن تواجد أكثر من 100 عنصر من فاغنر في السودان لتدريب القوات الحكومية السودانية مقابل الحصول على امتيازات للتعدين عن الذهب[38].

-ليبيا

بدأ الحديث عن تواجد لفاغنر في ليبيا خلال عام 2018، وهو العام الذي شهد حضور بريغوزين اجتماعا في موسكو بين قيادة الجيش الروسي وحفتر. ثم آخذ ظهورهم يتزايد مع هجوم حفتر على طرابلس في إبريل 2019، حيث شاركوا في القتال فضلا عن قيامهم بأعمال الحراسة لحقول النفط الواقعة ضمن مناطق سيطرة حفتر. ونص تقرير للأمم المتحدة في عام 2020 على (أن الدعم اللوجستي العسكري الروسي المباشر المقدم إلى فاغنر.. زاد بشكل كبير حيث رُصدت نحو 338 رحلة جوية بواسطة طائرات عسكرية روسية أقلعت من سوريا إلى ليبيا بين 1 نوفمبر 2019 و31 يوليو 2020). وفي تقرير سري أممي صدر في مايو 202، قال مراقبو العقوبات إن مجموعة فاغنر الروسية لديها ما يصل إلى 1,200 مقاتلا في ليبيا[39].

-دول أفريقية أخرى

تزايد اهتمام روسيا بمد نفوذها في القارة الأفريقية حيث صدرت 39% من الأسلحة المصدرة إلى القارة خلال الفترة من 2013إلى 2017. كما أبرمت موسكو 19 اتفاقية تعاون عسكري مع دول أفريقية خلال الفترة من 2014 إلى 2019. فضلا عن انعقاد أول قمة روسية أفريقية في سوتشي في أكتوبر 2019 بحضور قادة 43 دولة من دول القارة البالغ عددها 54 دولة، وممثلين رفيعي المستوى من بقية الدول.

وفي ظل تلك المعطيات رُصد انتشار عناصر فاغنر في عمق القارة الأفريقية فضلا عن ليبيا والسودان، حيث صرح المتحدث باسم القوات الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) العقيد كريستوفر كارنس بأن روسيا توظف مقاولين عسكريين خاصين في ما لا يقل عن 16 دولة أفريقية لإخفاء دور موسكو المباشر في تلك الدول[40].

ويقدر مسؤولون أمريكيون أن حوالي 400 من المرتزقة الروس يعملون في جمهورية إفريقيا الوسطى التي عيّن رئيسها فاوستن تواديرا الروسي فاليري زخاروف مستشاراً له للأمن القومي. فضلا عن تواجد 175 مدرباً روسيا نظاميا يعملون على تدريب قوات الجيش والشرطة في مواجهة التمرد الذي تشهده البلاد[41]، وذلك بعد أن وافقت الأمم المتحدة رسمياً على قيام روسيا بمهمة تدريب عسكرية واستثنائها من حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة على إفريقيا الوسطى منذ عام 2013[42].

 كما رُصد انتشار قوات تابعة لفاغنر في سبتمبر 2019 في موزمبيق لمحاربة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في مقاطعة كابو ديلجادو الشمالية. ولكنهم انسحبوا لاحقا في ظل عقبات واجهتهم في التنسيق ميدانيا مع الجيش الموزمبيقي فضلا عن تعرضهم لهجومين منفصلين أسفرا عن مقتل سبعة مرتزقة روس و20 جندياً موزمبيقياً[43]. وعلى الرغم من إرسال معدات وقوات إضافية في فبراير ومارس ٢٠٢٠، تم استبدال فاغنر في أبريل بمجموعة Dyck للاستشارات، وهي شركة عسكرية خاصة من جنوب إفريقيا[44].

تاسعا: لماذا لم يُقنن نشاط فاغنر في روسيا؟

الشركات العسكرية الخاصة غير مقننة في روسيا بموجب المادة 359 من القانون الجنائي الروسي لعام 1996 والذي يُعرّف “المرتزق” على أنه “شخص يعمل بغرض الحصول على مكافأة مادية دون أن يكون من مواطني الدولة التي يشارك في نزاعها المسلح أو في الأعمال العدائية الجارية على أراضيها، ولا يقيم بشكل دائم ضمن إقليمها، أو يقوم بواجباته الرسمية فيها”[45].

حاول عدد من أعضاء مجلس النواب الروسي بداية من عام 2009 تمرير تشريعات تقنن عمل الشركات العسكرية الروسية لكنها لم تحظ بالموافقة. وفي مارس 2018 رفض مجلس الوزراء الروسي (بما في ذلك وزارات الدفاع والعدل والمالية، الحرس الوطني، وجهاز الأمن الفيدرالي، وجهاز الاستخبارات الخارجية، والمدعي العام) النظر في إضفاء الشرعية على فاغنر أو الشركات العسكرية الخاصة الأخرى، بحجة أن سلوك “المرتزقة” ينتهك الدستور الروسي وأن الدولة وحدها هي المسؤولة عن الدفاع والأمن. ويعزى عدم تقنين نشاط تلك الشركات إلى عقبات ببيروقراطية من طرف جهات نافذة في مقدمتها الجيش الروسي ترى ضرورة احتفاظ الدولة باحتكار استخدام العنف، فضلا عن وجود تضارب في المصالح بين وكالة الأمن الفيدرالي (FSB) وجهاز الاستخبارات العسكرية (GRU) فيمن يخص من له حق الإشراف على نشاط تلك الشركات.

وقد سبق أن كشف حادث تسميم العميل الروسي السابق سيرجي سكريبال في بريطانيا حجم الصراعات الداخلية بين وكالة الاستخبارات الخارجية الروسية (SVR) ووكالة أمن الدولة الفيدرالية (FSB) من جهة، وجهاز الاستخبارات العسكرية من جهة أخرى. حيث تحدث ممثلون عن وكالة (FSB) الروسية إلى نظرائهم البريطانيين لنفي تورط الوكالة في العملية. كما أظهرت وكالة الاستخبارات الخارجية (SVR) ووكالة أمن الدولة الفيدرالية (FSB) أنهما غير سعيدين بالعملية، ولا بطريقة تنفيذ جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية لها[46]. ففي روسيا قد يتخذ جهاز أمني إجراءات خارجية دون علم أو موافقة وزارتي الخارجية أو الدفاع أو غير ذلك من الأجهزة[47].

وأخيرا، تعتبر موسكو أن الشركات العسكرية والأمنية الخاصة أكثر فائدة طالما أنها غير مقننة. فبهذه الطريقة، يسهل على السلطات الروسية التنصل من المسؤولية عن أنشطتها[48]. وهو ما فعله بوتين فيما يخص تواجد فاغنر في ليبيا، حيث قال في مؤتمر صحفي مشترك مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في موسكو في يناير 2020، ردا على سؤال حول وجود عسكريين متعاقدين روس في ليبيا: (حتى إذا كان هناك مواطنون روس، فإنهم لا يمثلون مصالح الدولة الروسية، ولا يحصلون على أي أموال منها)[49].

عاشرا: مصير من يبحثون عن فاغنر في روسيا

يواجه الصحفيون الاستقصائيون الروس الذين يغطون نشاط الشركات العسكرية الخاصة مخاطر جمة. فالصحفي مكسيم بورودين الذي كتب عن أنشطة مجموعة فاغنر في سوريا، توفي عقب سقوطه من شرفة منزله في أبريل 2018. وفي يوليو 2018، قُتل ثلاثة صحفيين استقصائيين روس بالرصاص أثناء محاولتهم عمل فيلم وثائقي عن نشا ط فاغنر في دولة إفريقيا الوسطى. كما تعرض المعارض الروسي بيتر فيزيلوف للتسمم (تعافى في مستشفى ألماني) بعد محاولته التحقيق فيما حدث لهؤلاء الصحفيين الروس[50].

وفي سبتمبر 2018، وقّع بوتين مرسوماً صنف جميع المعلومات المتعلقة بالمتعاونين من غير الموظفين مع أجهزة الاستخبارات التابعة لروسيا على أنها سرية. وهو ما ينطبق على مجموعة فاغنر المتعاونة مع جهاز الاستخبارات العسكرية الروسية. مما يتيح مقاضاة الصحفيين حتى لو لم يكن للشركات العسكرية الخاصة نفسها صفة قانونية. وبعد شهرين من صدور مرسوم بوتين أُلقي القبض على فلاديمير نيلوف المحلل الدفاعي الروسي الذي كتب العديد من المقالات عن الشركات العسكرية الخاصة، واُتهم بالخيانة العظمى.

الخاتمة

في ظل تنامي أنشطة فاغنر في القارة الأفريقية فضلا عن أوكرانيا وروسيا وما يمثله ذلك من زيادة للنفوذ الروسي سياسيا واقتصاديا وتجاريا وعسكريا، فرضت وزارة الخزانة الأمريكية في 20 يونيو 2017 عقوبات ضد فاغنر ومؤسسها دميتري أوتكين، كما اتهمت وزارة العدل الأمريكية في 2018 بريغوزين بالتدخل في الحملة الرئاسية الأمريكية لعام 2016 عبر تمويله حملات تضليل على وسائل التواصل الاجتماعي تدفع باتجاه انتخاب دونالد ترامب[52]. تلك العقوبات تمثل ضغطا على فاغنر والدول التي تفكر في الاستعانة بها.

وفي ظل فشل فاغنر في تغيير معادلات الصراع لصالح حلفائها في عدة ساحات مثل موزمبيق والسودان وأفريقيا الوسطي، وعدم تمكنها من التصدي للهجوم المضاد على قوات حفتر في طرابلس وترهونة وغريان الذي شنته حكومة الوفاق وحليفتها تركيا، يمكن القول بأن فاغنر نظراً لحجمها ومحدودية قدراتها تقتصر أنشطتها على شن عمليات صغيرة النطاق ضد خصوم ضعفاء، ولا ترقى لأن تدخل في نزاعات عسكرية على مستوى الدول، وستبقى هي وأشباهها تلعب دور الذراع الذي تستخدمه الدولة الروسية لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والعسكرية مع سهولة التنصل رسميا من أنشطتها.