مذكرات الشيخ عبدالله الأحمر: صراعات بين الجمهوريين وسط المعارك مع الملكيين من 1963 ـ 1967 (4 ـ 10)

الأربعاء 14 نوفمبر-تشرين الثاني 2007 الساعة 07 صباحاً / مأرب برس
عدد القراءات 7503

الشيخ عبدالله الاحمر احد فصول تاريخ اليمن الحديث. فليس بالامكان تقليب صفحات هذا التاريخ دون التوقف عند شخصه، واسرته، وقبيلته، في عهد الإمامة كما في الجمهورية. انه فاعلية سياسية واجتماعية كبيرة في العهدين.

شيخ مشايخ قبائل حاشد، رئيس مجلس النواب ورئيس حزب التجمع اليمني للاصلاح المعارض، عبدالله بن حسين الاحمر، بلغ الرابعة والسبعين. ورغم تقدم السن، والمرض، فان الشيخ الذي تبندق في الخامسة عشرة، يرفض نزع السلاح ، ويخوض معركة جديدة، لكن هذه المرة مع التاريخ، من خلال مذكراته هذه التي خص القدس العربي بحقوق نشرها.

وهذه المذكرات سيرة رجل، بقدر ما هي سيرة بلد، تعكس شاشتها مرحلة انتقال اليمن من طور خالص الانتماء الي القرون الوسطي، الي طور هجين تتصارع فيه الأزمنة التقليدية والحديثة. وهي بذاتها علامة تحول او تغير: فمذكرات أسلافه كانت روايات شفاهية في الدواوين، بينما تميز عنهم بنقلها الي عصر التدوين .

انها ذكريات غنية بالتاريخ لرجل ينتمي الي أحد أثري البلدان العربية تاريخاً.

الخلاف مع السلال ومصر

الخلاف مع السلال والوجود المصري في اليمن ابتداءً ـ كما قلت سابقاً ـ من سنة 1964 بين السلال والمصريين من جهة والزبيري ومن سار علي نهجه، سواء في حياته أو بعد مماته من جهة أخري، فالخلاف مع المصريين والسلال بعد استشهاد الزبيري وبعد مؤتمر خمر لم يكن جديداً بل هو امتداد للخلاف السابق، لم يكن الخلاف مع المصريين لوجودهم ولا مع السلال لشخصه وإنما كان خلافنا معهم لسياستهم ونهجهم وممارساتهم، فالمصريون جاؤوا إلي اليمن للدفاع عن الثورة عسكرياً، وهذا ما طلب منهم ورحبنا به لكنهم لم يقتصروا علي هذا الدور الذي جاؤوا من أجله بل أصبحوا مهيمنين علي كل شيء، ويتدخلون في كل صغيرة وكبيرة وهذا هو أساس الخلاف معهم، ونحن نطالبهم بالكف عن التدخل في الجوانب السياسية والمالية والاجتماعية والثقافية وأنه يجب أن يقتصر دورهم علي الجانب العسكري، وحين زار المشير عبدالحكيم عامر اليمن في آب (أغسطس) 1965م في محاولة من المصريين لتهدئة الخلافات وجمع الصف الجمهوري، وجه إلينا المشير عامر رسالة يؤكد فيها استمرار الدعم المصري لليمن وأهمية نبذ الخلافات والصراعات في تلك الفترة الحرجة وضرورة أن تقوم وحدة وطنية بين أبناء اليمن المخلصين للقضاء علي أعداء الثورة، منوهاً إلي موقف الرئيس جمال عبدالناصر وتأكيده للدعم العسكري لليمن وكذا الجهود الداعية للسلام، وخلافنا مع السلال كان بسبب ممارسته الخاطئة واستسلامه للمصريين وقد كان خلافنا معه بين مد وجزر فتارة تخف حدة الخلاف وتارة تزداد خاصة عندما كان السلال يصر علي رأيه هو والمصريين ويرتكبون حماقات غير مقبولة مثل تلك الحماقات التي ارتكبوها سنة 1966 واقترفوا تلك الجرائم التي ابتدأت باحتجاز رجالات الدولة في مصر زعماء ثورة اليمن وقادتها وحكومة الجمهورية العربية اليمنية بكامل أعضائها وقادة الجيش والزعماء السياسيين الأوائل: الإرياني والنعمان وغيرهما وما أعقبها من ممارسات داخل اليمن من اعتقالات وقتل وسحل رجالات الثورة وقادتها والمشائخ الجمهوريين والمناضلين والزج بهم في سجون صنعاء وتعذيبهم وقتل وسحل الزعيم محمد الرعيني أحد أبرز الضباط الأحرار الذين فجروا الثورة ومن معه من الضباط والمشائخ أمثال: هادي عيسي والشيخ أحمد النيني والشيخ علي محسن هارون ومن معه. وخلال الفترة الممتدة بين مؤتمر خمر وبعد استقالة حكومة النعمان، حاول الرئيس السلال استمالتنا معه والخروج عن إجماع الصف الجمهوري بضرورة إصلاح مسار الثورة، وقد حرر إلينا رسالة شرح فيها الأوضاع وأثني علي دور قبيلة حاشد في الدفاع عن الثورة. ولم يدرك أن تدخل المصريين والاستسلام لهم في إدارة شؤون الدولة هو من الأسباب الرئيسية للخلاف معه.

مؤتمر الطائف

لم تمض إلا أشهر قليلة بعد تشكيل حكومة مؤتمر خمر برئاسة الأستاذ أحمد محمد نعمان حتي حصل رد الفعل من المصريين والسلال بمضايقة الحكومة والعمل ضد قراراتها واستدعائها إلي القاهرة وحصل ما حصل من التهديد من الرئيس عبدالناصر للأستاذ احمد محمد نعمان رئيس الوزراء ومن ذلك اعتراض عبد الناصر علي تعيين الأستاذ محسن العيني وزيرا للخارجية ولأنه بعثي، وحينما أكد له النعمان أنه ليس بعثيا، رد عبد الناصر بقوله: لا تستطيع تقنعني نثرا ولا شعرا أن العيني ليس بعثيا وقد بعث إلينا القاضي عبدالرحمن الإرياني برسالة يشرح فيها ما تم في اللقاء وكذا تهديدات عبدالناصر، مما أدي إلي استقالة الحكومة أو إقالتها وكل شيء مدون أكثر مما أتذكره، وكان رد الفعل علي هذه الممارسات أن ذهب عدد من المشائخ الجمهوريين إلي الطائف عن طريق بيحان وعدن حينما كان هناك الوجود البريطاني والسلاطين ووصلت وفود المعارضة إلي بعض الدول العربية ومنها الوفد الذي ترأسه القاضي عبدالرحمن الإرياني الذي قام بزيارة الكويت وسورية ومصر وغيرها في 21 ايار(مايو) 1965م، وقد بعث إلينا القاضي الإرياني برسالة بعد عودته يشرح فيها ما تم في الزيارة.

وفي هذه الأثناء عقد مؤتمر الطائف في 12 آب (اغسطس) 1965م بين مشائخ وزعماء من الصف الملكي والمشائخ الجمهوريين المعارضين للمصريين والسلال ومنهم النقيب سنان أبولحوم والشيخ أحمد علي المطري والشيخ علي بن ناجي القوسي والشيخ ناصر علي البخيتي والعميد مجاهد أبو شوارب والشيخ أحمد ناصر الذهب والشيخ نعمان بن قائد بن راجح والشيخ حسين أحمد القردعي ومشائخ بيت القيري مثل الشيخ عبد الولي القيري وغيرهم من كبار مشائخ الجمهورية، وخرج المؤتمر بقراراته المعروفة والتي كان منها قرار إنهاء الملكية، وإنهاء دولة السلال، وقيام دولة في اليمن تشمل الجميع ما عدا بيت حميد الدين والسلال.

ولم يكن هذا المؤتمر يمثل الحكومة، كما أن معظم المشائخ الذين حضروا المؤتمر ووقعوا اتفاقية الطائف بمجرد عودتهم إلي صنعاء أعلنوا تراجعهم عن الاتفاقية وأعلنوا ذلك في الإذاعة، ومنهم علي بن ناجي القوسي والشيخ أحمد علي المطري ومجاهد أبو شوارب.

مؤتمر حرض

ما أن علم الرئيس عبدالناصر بوجود مجموعة قوية من الصف الجمهوري من الذين حضروا مؤتمر الطائف والتقوا بالملك فيصل ومسؤولين في المملكة واتفاقهم مع قادة الصف الملكي من غير بيت حميد الدين من المشائخ والمثقفين وإعلان ما تم الاتفاق عليه إلا وبادر إلي جدة ليعقد مؤتمراً مع الملك فيصل ويخرجا بنفس القرارات التي خرج بها مؤتمر الطائف من إلغاء بيت حميد الدين، وإلغاء النظام الملكي، وإلغاء دولة السلال، وإقامة دولة في اليمن تشمل الجميع وقالوا: إلغاء الماضي الأسود والحاضر الدامي. واتفق عبدالناصر مع الملك فيصل علي عقد مؤتمر في حرض يضم وفدين أحدهما جمهوري والآخر ملكي، باستثناء السلال وبيت حميد الدين، ويعلنون الاتفاقية باسمهم ويطبقونها، وفعلاً تم عقد مؤتمر حرض المعروف في 26/11/1965م وتشكلت وفود الفريقين، الوفد الجمهوري برئاسة القاضي عبد الرحمن الإرياني، ومعه الأستاذ أحمد محمد نعمان، وأنا معهم، والشيخ أحمد علي المطري، والعميد محمد الرعيني، والعميد علي سيف الخولاني، والدكتور حسن مكي، وعدد من ضباط الثورة ومشائخ وعلماء وتجار الجمهورية، والوفد الملكي برئاسة السيد أحمد محمد الشامي الذي كان وزير الخارجية للملكيين، وعضوية عدد من المشائخ الملكيين الكبار منهم الشيخ ناجي الغادر، وحامس العوجري، وصلاح المصري، وغيرهم، ومن المثقفين مثل محمد عبد القدوس الوزير، وعلي عبدالكريم الفضيل، وغيرهم. جاء الوفد الملكي وهو مقتنع بما تم الاتفاق عليه بين عبدالناصر والملك فيصل حيث كان علي اتصال واتفاق مع الأخوة في المملكة العربية السعودية لكننا في الوفد الجمهوري أتينا ولم يكن بيننا اتفاق مع المصريين علي هذا ولم يبلغونا به وبمجرد ما أبلغونا رفضنا، وهو ما أدي إلي فشل المؤتمر، وكان في المؤتمر فريق ثالث من الصف الجمهوري سمي بالقوي الثالثة يضم بيت الوزير، والشيخ نعمان بن راجح، والنقيب سنان أبو لحوم، وهؤلاء كانوا من المؤيدين لقرارات الطائف. كان التصور الذي لدينا أنه عند وصولنا إلي حرض أن الذي سيتم فيه هو إتاحة الفرصة للتفاهم بين قادة الجمهورية وقادة الملكيين من مشائخ وغيرهم وإزالة الوحشة والتوتر أولاً ثم الاتفاق علي استيعاب عدد كبير من المشائخ الكبار والعلماء والمثقفين من الصف الملكي في أجهزة الدولة، وكنا علي استعداد لتقديم بعض التنازلات وإعطائهم بعض الفرص ليصبحوا شركاء معنا في الدولة.

وعندما وصلنا إلي حرض تلاقينا جميعاً بقلوب مفتوحة وصدور رحبة وتبادلنا القصائد والزوامل الشعبية الأخوية المعبرة، والكلمات الودية أثناء افتتاح المؤتمر ومنها كلمة القاضي عبدالرحمن الإرياني والتي عبر فيها عن روابط الأخوة بين اليمنيين مستشهداً بقول الشاعر:

إذا احتربت يوماً فسالت دماؤها تذكرت القربي فسالت دموعها

ومن الزوامل المعبرة التي كانوا يرددونها زامل قاله الشيخ حامس العوجري وهو من كبار قادة الصف الملكي يقول فيه:

سلام يا اللي أنت لي وأنا لك

من دون الأقصي والبعيد

إذا صـلح حــالي وحالك

ما همنا رأي البعيـــد

وكان هذا فعلاً هو الشعور المشترك لدي الجميع (إذا صلح حالي وحالك).

وأول رد فعل لهذا التقارب كان من المصريين والسعوديين بأن فرقوا بيننا فبعد أن كنا جميعاً، الوفد الملكي والجمهوري، في مخيم واحد إذا بهم في صبيحة يوم من الأيام يفصلون الملكيين عنا ويفصلوننا عنهم ويعملون أسلاكاً شائكة!! كانت صفتهم الرسمية مراقبين ولكنهم في الحقيقة كانوا هم المرتبين للمؤتمر والمشرفين والمسيرين له، كانت اللجنة المصرية برئاسة اللواء عبدالعزيز سليمان و الفريق أول محمد فوزي، والسعودية برئاسة الدكتور رشاد فرعون مستشار الملك فيصل.

واستمر المؤتمر ثلاثة أسابيع أو أكثر كنا نلتقي يومًا ونتوقف يومين أو ثلاثة أيام، وكنا نطلب أشخاصاً جددًا من صنعاء وعندما قطعنا شوطًا في المفاوضات إذا بالقادة المصريين في لجنة السلام المصرية السعودية يبلغوننا حرفياً بالشيء المطلوب منا الموافقة عليه وهو ما اتفق عليه عبد الناصر والملك فيصل وقالوا لنا وقد اجتمعنا في خيمة كبيرة إن الرئيس عبد الناصر يزف إليكم تحياته وينقل إليكم تعليماته وتوجيهاته وهو أنه قد تم الاتفاق والمطلوب منكم الموافقة علي ماتم الاتفاق عليه وهو إنهاء الملكية وإقصاء بيت حميد الدين وإقصاء السلال وقيام دولة تسمي دولة اليمن نظامها نظام جمهوري ودستورها دستور الجمهورية وقوانينها قوانين الجمهورية ما عدا الاسم ويشترك في هذه الدولة كل اليمنيين الملكي والجمهوري.. هذه تعليمات عبدالناصر. ولا أدري في نفس اليوم جاؤوا لنا بالتهديد أو في لقاء آخر عندما رفضنا، وأعتقد أنه في يوم آخر عندما رفضنا هذا المقترح والتهديد هو (إذا لم توافقوا علي هذا فالجمهورية العربية المتحدة سوف ترفع يدها ودعمها مادياً وعسكرياً عن اليمن وتترك صنعاء للقبائل الملكية يدخلونها ويذبحون الصف الجمهوري من أكبر واحد حتي أصغر واحد).

بعد أن سمعنا ما قاله الوفد المصري سكتنا ولم يتكلم إلا القاضي عبدالرحمن الإرياني بحكمته قائلاً لهم: سمعنا ما قلتم وما نقلتموه عن الرئيس عبدالناصر وهو الذي لا نتوقعه ولا نتصور أن تكون هذه هي قناعة الرئيس جمال عبدالناصر الذي عمل وعمل وقدم وضحي من أجل اليمن وينتهي المشوار بهذا، هذا الذي لا نتصوره ولا نريده، وعلي كل حال اتركوا لنا فرصة نتشاور فيما بيننا.

تركوا لنا فرصة لا أدري يومين أو ثلاثة أيام، اجتمعنا خلالها نستشف آراء بعضنا البعض وإذا بنا نفاجأ بمجموعة صغيرة داخلنا تتبني استسلاماً كاملاً وتريد إقناعنا بأنه ليس أمامنا إلا التسليم بما يراه الرئيس جمال عبدالناصر وبتوجيهاته التي نقلت إلينا وإلا فماذا بوسعنا أن نعمل؟ لسنا قادرين أن نقف علي أقدامنا بدونهم إذا نحن تحديناهم، نحن نعرف ظروفنا وقدراتنا فبدون الوجود المصري لا نستطيع أن نعمل شيئًا، ولهذا ليس أمامنا إلا الموافقة علي هذا أو المواجهة إذا تراجعوا عنا.

وكنت أول من حمل عليهم قبل القاضي عبد الرحمن الإرياني، وقلت لا يمكن أن نقبل هذا الرأي وهذا التوجيه أبداً، ونحن علي استعداد للاستماتة والدفاع عن الجمهورية فإذا أصر المصريون علي موقفهم وانسحبوا فسنعمل ونعمل ونقاتل في الجبال والوديان وحتي في شوارع صنعاء، وسنقاتل وسط صنعاء حتي بالجنابي، ورفعت جنبيتي. فشد هذا الموقف القاضي الإرياني الذي رد عليهم أيضاً حتي أسكتناهم، وفي اليوم الثاني اتصل القاضي عبد الرحمن الإرياني بالفريق حسن العمري حيث كان السلال قد أصبح مجمداً والعمري هو الذي يسير الأمور في صنعاء بعد أن أنضم إلي صفنا ضد السلال.

وفي اليوم الثالث وصلت إلي حرض طائرة تقل الفريق العمري وبعض الضباط والمشائخ والمسؤولين، واتفقنا علي هذا الرأي والتقينا باللجنة العربية حسب الموعد وأبلغناهم بموقفنا، لم نبلغهم بالتهديدات، لكن القاضي رد عليهم ببرود وحكمة ونحن سكتنا، قام الوفد المصري بإبلاغ عبد الناصر بهذا الموقف ولم يمض أكثر من يومين أو ثلاثة أيام إلا وعبد الحكيم عامر يعلن في تصريح بثته الإذاعة أن القوات المصرية ستبقي في اليمن عشرين سنه، وأبلغوا الجانب السعودي بالموقف الجمهوري، وانتهي المؤتمر ونحن لا زلنا في حرض، وكأنهم كانوا يجسون نبضنا لأنهم اعتبروا أن الذين حضروا مؤتمر حرض متفقين مع الذين حضروا مؤتمر الطائف. وفشل المؤتمر وعدنا نتقاتل في كل جبل وبقينا في ميدان المعركة العسكرية، وبعد فترة

عاد السلال حيث كان مجمدا في القاهرة.

القاهرة تعتقل الحكومة اليمنية!

بعد هذا الموقف من جانبنا وفشل مؤتمر حرض كنا علي يقين أن السعودية لا بد أن تشد أزر الملكيين وتدعمهم ولا بد أن نستعد لذلك، سافر الفريق العمري مع وفد إلي مصر ليلتقي بمسؤولين روس كانوا في زيارة للقاهرة، ليطلب منهم سلاحًا وإذا بالمصريين يقنعون السوفييت أن لا يعطونا شيئاً إلا عن طريقهم ولهذا حصل بيننا وبين المصريين خلاف كبير، وكان الفريق العمري مستاءً جداً من الموقف المصري، فقالوا: إن هذا ليس أداتنا وليس أمامنا إلا السلال واتخذوا قراراً بإعادته ووصل السلال من القاهرة يوم 21 آب (اغسطس) 1966م ودخل صنعاء من المطار بحراسة دبابات وقوات مصرية، وكنا متضامنين مع الفريق العمري ونحن الذي واجهنا الموقف في مؤتمر حرض واخترنا هذا الخيار، ورفضنا التعاون مع السلال وعقدنا مؤتمرات صغيرة في صنعاء، ورأي القاضي الإرياني وآخرون أنه لا بد من التحرك واتخاذ إجراءات مناسبة، فقرر القاضي السفر إلي مصر للالتقاء بالرئيس عبد الناصر والتفاهم معه حول الوضع والظروف ونجح في إقناع الجميع للسفر، بينما كان الفريق العمري غير راض عن هذا.

وبالنسبة لي لم أكن راضياً عن هذا، وقلت لهم أخرجوا الي مدينة خمر لنقيم جمهورية هناك، أو تفرقوا بين القبائل، والشيخ علي بن ناجي القوسي قال: نحن في الحداء مستعدين نستضيف ونحمي الثوار، فرفض القاضي هذا وذاك وأصر علي السفر للقاهرة لإحراج عبد الناصر دولياً.

سافر القاضي والنعمان والفريق العمري الذي لم يسافر إلا مكرهاً وكان يتوقع شراً، وحصل ما حصل ولم تحرج الجمهورية العربية المتحدة ولم يحرج عبد الناصر ولم يبالوا بشيء بل اعتقلوا الدولة بأكملها (دولة تعتقل دولة!) في 16/9/1966، اعتقالاً فظيعاً لأنها عاملتهم بعد أن اعتقلتهم معاملة مواطنيها المتهمين ولم تعاملهم حتي علي أنهم من مواطنيها السياسيين، مارست معهم التعذيبات، الحبس الانفرادي في زنزانات ومنعت اجتماعهم، أو وصول الصحف إليهم أو أي أخبار يسمعونها أو أي زائر يزورهم، ومارسوا معهم الأراجيف، والضغوط السياسيـة والإرهابية.

وهنا في صنعاء عملت قواتهم مثلما عملوا وزادوا من القتل والسحل والتعذيب كما ذكرنا،اعتقلوا القاضي عبد الله بن عبد الوهاب الشماحي من كبار العلماء، والقاضي ناصر الظرافي وكانوا يضربونهم واستعملوا معهم وسائل تعذيب بشعة حتي مع كبار السن، وفجروا بيت الأستاذ عبد الملك الطيب بالألغام في وضح النهار، ودخلوا البيوت ونهبوها، وعندما كان المصريون والسلال يهجمون علي الناس إلي بيوتهم لاعتقالهم كان الخائفون من الاعتقال يهربون إلي بيتي في حي الأبهر في صنعاء، وكنت أجمع ثلاثة أو أربعة منهم ليركبوا معي في سيارتي ومعي سيارة مرافقة فوقها رشاش وأخرج بهم من صنعاء وأوصلهم منطقة المعمر شمال صنعاء، ومجرد أن أصل نقاط التفتيش وسيارتي المرافقة فوقها رشاش يفكون نقاط التفتيش وأوصلهم إلي المعمر ثم أرجع إلي صنعاء وهكذا يومياً.

أول من خرج عبدالملك الطيب، وعبد الله الصيقل، ومعه علي الضبة وعلي الضحياني، والمشائخ كلهم، الشيخ أحمد علي المطري لم يستطع الخروج لأنهم كانوا يتآمرون عليه وجاءني وعملت معه مثل ما عملت معهم أركبته معي وأخرجته إلي بني مطر مسقط رأسه، وعلي أبولحوم أخرجته إلي منطقة خشم البكرة وعدداً كبيراً لا سيما من الضباط مثل عبد الكريم السكري، وحسين السكري، وأحمد الرحومي، وعلي بن علي الجائفي، وعبد الكريم المنصور، وصالح العريض، وعلي النعامي، وعتيق الحداء، وهاشم صدقة، وعبد الله الراعي، وحمود بيدر، ومحمد المطري، ومحمد مرغم، وغيرهم، أعتقد أكثر من عشرين ضابطاً من ضباط الثورة وعدد أقل من المدنيين أبرزهم عبد الملك الطيب.

وقد بقيت في صنعاء بسبب هؤلاء المستهدفين أدافع عمن أستطيع الدفاع عنه وكنت أتردد علي السلال والمصريين يومياً للدفاع عن المستهدفين من رجالات الجمهورية، وأثناء ذلك وصل عبد السلام صبرة من القاهرة وجاء إلي بيتي رأساً أرسله القاضي عبد الرحمن الإرياني وبعلم المصريين وصل إليَّ يحمل رسالة شفوية من القاضي الإرياني يخبرني أن الجماعة كلهم اعتقلوا في القاهرة ويشرح لي كيف قوبلوا هناك وكيف زجوا بهم جميعاً في السجن، ولم يسلم من الاعتقال إلا القاضي عبد الرحمن الإرياني وحسين الدفعي وعبد السلام صبرة الذين وضعوا تحت الإقامة الجبرية، ثم وصلتني رسالة أخري خطية من القاضي الإرياني يطلب مني أن نجمع الناس ونتخذ الإجراءات للضغط هنا من أجل الإفراج عن المعتقلين وأن جميع المعتقلين سيبقون في القاهرة ولايعتزمون العودة لليمن أو تحمل أي مسؤولية وأشار إلي موقف جزيلان والسلال المعارضين لإطلاق المعتقلين مستغرباً موقف السلال.

كانت رسالة القاضي بعد أسبوع أو أقل من دخولهم معتقلات عبدالناصر ولم نعلم بخبر اعتقالهم إلا من عبدالسلام صبرة حيث لم تكن هناك تلفزيونات وصحف وغيرها مثل اليوم، وبقيت هكذا أخرج الناس من صنعاء وأدافع عنهم ما استطعت، وأخرجت بعض الناس من الحبس، الرعيني لم يعتقلوه إلا بعد خروجنا من صنعاء رغم أني حذرته.

فترة خمر

كان أصحابنا يأتون إليّ يعاتبونني لماذا لا أخرج من صنعاء؟ قلت لهم: لن أخرج منها هرباً أبداً حتي يأتي الله بمبرر لخروجي، وقد قيض الله سبحانه وتعالي مبرراً لخروجي من المصريين حيث قرروا ضمن ما أسموه سياسة الانكماش سحب قواتهم من ريدة وعمران وذيفان وغيرها من المناطق الشمالية، فدعوني ذات ليلة إلي القيادة لمقابلة الفريق طلعت حسن قائد القوات المصرية فذهبت إليه فقال لي: جاءتنا أوامر من مصر بسحب قواتنا من المناطق الشمالية وأنا دعوتك لتتسلم المواقع قبل أن تسقط في أيدي الملكيين، قلت في نفسي ـ منك يا الله ـ وقال: عليك أن ترتب أمورك وتتحرك في الصباح إن شاء الله، قلت له: مرحباً أطمئن، نريد كذا وكذا، فحرر أوامر بطلباتنا حتي الفلوس والذخيرة، أخذت منه الأوامر وسلمتها للعميد يحيي كامل ليكمل المعاملة، ولم أكلم السلال خشية أن يثنيهم عن هذا الرأي.

خرجت من القيادة وأبلغت من كان من قبائل حاشد في صنعاء ومجاهد أبوشوارب كان يدرس في الكلية الحربية، فجاء إلينا في الليل، جمعنا السيارات وكان معي في البيت الكثير من البنادق والذخائر وأيضاً رشاشات وبوازيك، حملنا كل ما معنا في سيارات أصحابنا من قبيلة حاشد الموجودين في صنعاء وجمعنا أصحابنا من حاشد أكثر من مئة وخمسين تقريباً.

وفي الصباح ذهبت إلي السلال وقلت له: القائد المصري يطلب مني الخروج لاستلام المواقع التي انسحبوا منها وطلبنا منه جهاز لاسلكي وأعطاني هذه الورقة لتحول أنت فيها الجهاز لأنه لا يوجد معهم، لم يظهر لي الرئيس السلال شيئاً، ومجرد أن خرجت من عنده أرسل عبدالله جزيلان إلي القيادة المصرية، واتجهت فوراً ومعي أصحابنا من حاشد واتجهنا من بيتنا في الأبهر جميعا نحو القيادة فالطريق من ـ باب السباح ـ ودخلنا من الشارع المؤدي إلي القيادة، أصحابنا وقفوا بباب القيادة ودخلت ومعي أربعة أو خمسة من العسكر المرافقين، حيث كان يسمح لي بدخول المرافقين إلي باب المكتب، ثم دخلت علي القائد المصري ليصرف الفلوس والذخيرة التي حولها بالأمس، وإذا بجزيلان عنده ويبدو أنه كان قد بدأ معه الحديث لعرقلة خروجي، فكلفت شخصين لاستلام الفلوس والذخائر في تلك اللحظة واستلمنا كل شيء إلا جهاز اللاسلكي.

وقبل ذلك كان معي رجل كبير في السن اسمه حسن علي المحجاني همس في أذني قائلاً: اخرج يا ابني لا تبق هنا والله إني خائف يعملوا فيك مثل ديك رمضان، قلت له: ما له ديك رمضان يا عم حسن؟ قال: يخلوه (يتركوه) يوقظهم من النوم طوال رمضان ويوم العيد يذبحوه.

تحركنا من صنعاء قبل الظهر في موكب كبير ووصلنا ذيفان حيث لم يكن هناك طريق إلي عمران وكانت القوات المسلحة المصرية المنسحبة إلي جربان والجائف وإلي ذيفان قد سدت الطريق ولم نكن نمر إلا بمحاذاة الطريق حتي وصلنا ذيفان وآخر القوة المصرية هناك ومعهم العميد أحمد عبد الفتاح العيسوي قائد المناطق الشمالية وكان معنا أوامر إليه أن يترك لنا بعض الأشياء التي نحتاجها، ذهبت إليه وهو في خيمة فاعتذر قائلاً والله لم يعد لدينا شيء فقد حملنا كل ما معنا ولم أجيء أنا إلا راجلاً.

لم نغادر ذيفان إلا عند غروب الشمس لأن الطريق كانت مزدحمة ومسدودة علينا. وصلنا ريدة بعد المغرب وواصلنا المسير إلي خمر وكانت الطريق وعرة جداً.

وبعد أسبوع إذا بالقيادة المصرية يطلبون مني العودة إلي صنعاء قلت لهم: لا أستطيع فالمناطق التي انسحبتم منها ستفلت من أيدينا، لكنهم لم يقتنعوا وأصروا علي أن أعود إلي صنعاء واستمروا يرسلون الرسائل إلينا وكذا الرسول بعد الرسول من الضباط المصريين الذين كانت تربطني بهم علاقات طيبة كانت تقلهم طائرات هيلوكبتر إلي خمر، أذكر منهم العميد احمد حلمي، وبعد ذلك أرسلوا صالح بن ناجي الرويشان وبعده مطيع دماج وبعده الشيخ عبد الخالق الطلوع وغيرهم، وعندما يئسوا قصفونا بالطائرات، وإحدي الضربات كانت جوار بيت المشرقي إلي بيت الوادعي وضربت بيوتاً وقتلت أنفساً وأخري ضربت في الطريق جوار خمر وخلفت إصابات، وقالوا اعتبروها غلطة ما دروا أين ضربوا! تحملنا وضبطنا أنفسنا والتف الناس حولنا، جاءنا المشائخ الجمهوريون من كل مكان حتي ان الشيخ محمد الغشمي لم يتمكن من المجيء إلينا إلا هرباً وأقمنا جمهورية في خمر، ولم يكن هناك جيش منظم بل كان جيش الدفاع من حاشد هم المتواجدين في مدينة صعدة وحجة للدفاع عنها وحمايتها واستمروا فيها رغم أن السلال والمصريين قطعوا مرتباتهم وتمويلهم واستمررنا نمولهم بالطعام والمعاش من خمر وقد صبروا وتحملوا لشعورهم بالمسؤولية واقتنعوا بأن نعطيهم (30%) مما كانت الدولة تعطيهم من مرتبات، وكنا نرسل لهم طعاماً ودقيقاً من خمر، وبقينا نحافظ علي مدينتي حجة وصعدة خوفاً من أن تسقطا في أيدي الملكيين فهما من المدن الكبيرة. وبقينا في حجة ندافع عنها، وصعدة كانت تدور المعارك حولها وبقينا صامدين رغم الظروف الصعبة التي كنا نمر بها.

حاول الملكيون في هذه الفترة أن يحاورونا لكنهم لم يجدوا منا سوي الرفض، حتي أنهم أرسلوا لنا شنطة مليئة بالذهب مع الشيخ عبدالله حامس العوجري والسيد عبد القادر بن محمد من نجران، ووصلوا إلي منزلي في خمر بسيارة صالون أمريكية كانت تسمي عبلة، وجمعنا الناس حتي امتلأ بهم حوش المنزل من الضباط والمشائخ من حاشد وغيرهم وأخرجنا الذهب أمامهم ورديناها لهم ورفضنا أي مساومة، ونحن في أمس الحاجة، وفي هذه الفترة في خمر بعثنا عددًا من البرقيات لعبد الناصر وللقيادة في صنعاء من أجل المعتقلين في مصر واستمرت وفودهم أيضاً من أجل دخولي صنعاء، وأخيراً وبعد أن يئسوا وشعروا بالخطأ بعدما اتضح لهم موقف السلال الذي راهنوا عليه أبلغوني بأن القائد المصري طلعت حسن يرغب أن يلتقي بي شخصياً في أي مكان أريده ليبلغني ما جاء من عبد الناصر، وافقت علي ذلك، والتقينا بهم في منطقة جربان مفترق الطريق المؤدية إلي محافظة عمران ومعي قرابة أربعة آلاف رجل جاؤوا من كل مكان حتي من القبائل التي لم يكونوا معنا.. جمهوريون من عيال سريح وأرحب وغيرها خرجوا بموكب كبير جداً وملأوا الجبال بأكملها وكان آخر موقع للمصريين في ذلك الوقت في منطقة ضروان.

التقينا مع الفريق طلعت حسن قرب ضروان وجلسنا داخل سيارة وعدد من الإخوان محيطون بالسيارة وتعاتبنا وتفاهمنا وحملناه ما ينقل لعبد الناصر مركزين علي الزعماء والمسؤولين المعتقلين في مصر وأنه بعد أن يطلق سراحهم ويعودوا إلي صنعاء سوف ندخل صنعاء فوراً وتنتهي المقاطعة ويزول الإشكال وبدون ذلك ستظل الإشكالية قائمة.

عاد طلعت حسن بعد هذا اللقاء وقد تكون لديه انطباع يختلف تماماً عما كان عنده في السابق، وأبلغ عبد الناصر أن الناس كلهم ضد السلال، وأن الناس مع عبدالله بن حسين الأحمر ومن معه، فالشعب كله اختلف مع السلال وجماعته، طلبوا جزيلان بعد ذلك إلي مصر، ولم يعد إلي اليوم، وكأنه كان هو المتحمس أكثر من السلال، وقد أوفي طلعت حسن بما اتفقنا عليه مثل إعادة التمويل والمعاشات التي كانت مقطوعة للمرابطين في صعدة وحجة وشيء من مستحقات الماضي، والسجناء الذين كنا نطالب بإطلاق سراحهم وآخرين بعودة معاشاتهم وقضايا أخري.