الرجال ينتحرون حرقا والنساء يبحثن عن صور جميلة لهن بعد الموت

الأحد 17 يونيو-حزيران 2012 الساعة 06 مساءً / مأرب برس - ميدل ايست أونلاين
عدد القراءات 8747

يمثل الانتحار ثاني سببب للوفاة في صفوف فئة الشباب اليوم، ولا يرتبط إقدام الشاب على الانتحار باللحظات الآنية التي يعيشها، لكنه مرتبط بعدة عوامل مشتركة لها علاقة وطيدة بالماضي الذي كان يعيشه، وله علاقة بكل الرواسب النفسية العميقة والمشاكل المتراكمة التي يواجهها في مرحلة ما قبل الانتحار، والتي تتطور مع الأيام لتصبح أزمة نفسية تدفع إلى الاقدام على الانتحار، لكن ليس بالضرورة ان تقود كل الأزمات النفسية الى الانتحار، بل قد تكون حافزا للخروج بعبر تفيد في الحياة مستقبلا.

ويعتبر المختصون في علم النفس أن مرحلة المراهقة، من أكثر المراحل التي يقدم فيها الأفراد على الانتحار نظراً لحالة عدم الاستقرار النفسي والاجتماعي فضلاً عما يعانيه الشاب من تغييرات سيكولوجية وجسمانية وأسرية.

ولا يمكن الجزم بأن التغييرات الجسمية لأي مراهق قد تتسبب له في أزمات كبيرة تقود بالضرورة الى الانتحار، بل تراكمها يولد لدى العديدين حالات من القلق نتيجة التعرف عن النفس والتمهيد لإقامة علاقات مع الآخرين.

وهذا التردد الذي يعاني منه المراهق في هذه المرحلة يعطي دفعةً قويةً باتجاه تجاوزها للوصول إلى مرحلة الشباب، فيواجه فيها انتقادات واحكام وتقييمات عديدة من الوسط المحيط به، وهو بدوره يحاول إعطاء فلسفة خاصة لحياته من خلال طرح الأسئلة حول الوسط المحيط به والموقع الذي يشغله في هذا الوسط، الذي قد يؤدي به إلى حالات من اليأس وفقدان معنى الوجود بحد ذاته فيقدم بذلك على الانتحار.

وتختلف أسباب الانتحار من فئة اجتماعية إلى أخرى، وقد ربطت دراسة قام بها المعهد الوطني للصحة والبحث الطبي في فرنسا أن 33 في المئة ممن حاولوا الانتحار كانوا يفرون من المنزل، و53 في المئة مدمنون على الحبوب المهدئة، و72 في المئة مازوشيون و36 في المئة هم ضحايا للعنف الجسدي و23 في المائة تعرضوا لعنف جنسي.

وتعود أكثر أسباب اقدام المراهقين والشباب على الانتحار الى الشعور بالعزلة، والدفء العائلي والعاطفي، والتأزم وغياب الثقة في المستقبل والنظرة التشاؤمية للحاضر والشعور بالفراغ والملل، بالاضافة الى معايشة العنف الأسري اليومي وإدمان الكحول.

وتشير آخر الدراسات التي تطرقت الى الأسباب الرئيسية لمشكلة الانتحار، وتحديدا في صفوف المراهقين والشباب، إلى تزايد الاضطرابات النفسية، واللافت أن هذه الحالات لم تعد تقتصر على مجتمع معيّن، بل انتشرت بفعل عدوى حضارة العولمة في مختلف المجتمعات.

وتزايدت في الآونة الأخيرة حالات الانتحار حرقا بشكل ملفت للانتباه، وسجلت عديد الحالات ليس في تونس فقط بل في بلدان مختلفة بعد ان كان منطلقها محمد البوعزيزي الذي اشعل فتيل الثورة التونسية بإقدامه على حرق نفسه في 17 ديسمبر/كانون الاول 2010.

ولئن ارتبطت هذه الظاهرة بوقائع تعنى بألاشخاص المقدمين عليها فأنّها اصبحت اليوم ذات دلالة أوسع من فاعليها وذات رمزية تتجاوز الحدث ومفرداته على حد تعبير علماء الاجتماع.

وفسرت المختصة النفسية مريم صمود ان الانتحار هي اخر ورقة "يلعبها" الانسان المكتئب في حياته في ظل عجزه على ايجاد الحلول لمشاكله وفقدان الامل، وبينت ان معنى حرق النفس تغير بعد الثورة التونسية في اذهان البعض لان اعتبار البوعزيزي شهيدا جعلهم يعتقدون أنّهم ستكون لهم قيمة في الدنيا والاخرة.

وأكد المختص النفسي عماد الرقيق ان ازدياد اعداد الذين اقدموا على الانتحار حرقا يرجع الى اسباب مختلفة لان الشخص الذي يعاني من اضطرابات نفسية نتيجة الفقر وانسداد الافاق يجد نفسه في نفق مظلم لعدم وضوح الرؤية أمامه على جميع المستويات وأمام المشاكل الجمة التي تحاصره من كل جانب مما يفضي به الى دائرة سوداء يرى من خلالها كل الزوايا مظلمة امامه ليقدم في لحظات احباطه الشديد ويأسه على حرق نفسه.

ويرى الحبيب بن رجب استاذ علم الاجتماع أن حرق الذات أصبح طقسا احتجاجيا بالمعنى السوسيو انتروبولجي موضحا أن التحول في ثقافة الاحتجاج جعل من الجسد رقيما لتدوين لحظة المواجهة بين الفرد وواقعه. مواجهة تعبّر عن الحيف الاقتصادي والظلم الاجتماعي وتعكس حجم معاناة فئات عديدة من المجتمع قدم فيها المنتحرون أنفسهم قرابين لها على حد تعبيره.

و نزعة تدمير الذات حسب تفسير نظرية الفيلسوف الألماني "إمانويل كانْت" لا يشترك فيها سوى الانسان مع جنسه من دون سائر الكائنات. فالإنسان ينتحر بصورة إرادية بينما الحيوانات لا تُقبل على هذا الفعل بإرادتيها بل نتيجة أخطاء عفوية تتسبب بموتها.

ويعني هذا أن الإنسان المتشبّث بالبقاء وحب الحياة والاستمرار بالفطرة، يندفع بالوتيرة نفسها باتجاه تدمير الذات عندما تختل علاقته بنفسه وبالمجتمع من حوله. وبغض النظر عن دور المؤثرات الوراثية المتجذّرة في الجينات، والتي تؤمن الاستعداد الوراثي للإصابة بالأمراض النفسية وبالتالي التفاعل السلبي مع مؤثرات البيئة.

وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أنه يوجد حوالي أكثر من مليون شخص ينتحرون سنويا في العالم، بما يمثل عاشر أسباب الموت عامة وثالثها بين الأفراد الذين تتراوح أعمارهم مابين 15 و 44 عاما.

وتفيد المنظمة أن معدلات الانتحار ارتفعت بنسبة 65 في المائة خلال 45 سنة الأخيرة وتتصدر ليتوانيا قائمة الدول من حيث عدد حالات الانتحار بمعدل 68 في الألف من السكان الرجال مقابل 2.1 في الألف من النساء تليها بنسب متفاوتة كل من بيلاروسيا وروسيا ثم كازاخستان.

وتسجل نسبة أقل في العالم العربي مقارنة مع البلدان المذكورة ودول أروبا التي تعرف انتشارا كبيرا لهذه الظاهرة المرضية، لكن المؤشر البياني لعدد وفيات الانتحار تدل على ارتفاع النسبة في السنوات الأخيرة، ففي الأردن على سبيل المثال تؤكد بعض الاحصائيات المتوفرة وجود 40 حالة انتحار و400 محاولة انتحار سنويا، وفي مصر تشير آخر الاحصائيات إلى ما بين 750 إلى 1200 حادثة انتحار تقع كل عام نسبتها العظمى من الشباب، وفي اليمن بلغت حالات ومحاولات الانتحار 825 حالة، وفي السعودية أفادت إحصائية رسمية صادرة عن وزارة الداخلية بأنّ عام 2009 شهد 787 حالة انتحار في السعودية، بمعدل حالتين يومياً، وأنّ عدد الحالات زاد عن عام 2008 بتسع وثلاثين حالة. وبالمقارنة بالسنوات العشر الماضية تؤكد زيادة عدد الحالات بالأضعاف، فبين 1994 و2006 زادت الحالات بنسبة 185 بالمئة.

وارتفعت حالات ومحاولات الانتحار في الكويت من 27 حالة عام 1991 إلى المئات بعد عام 2002، وفي الجزائر وصل العدد الإجمالي إلى سنة 2008 إلى 33 حالة انتحار و48 محاولة وفق إحصاءات للشرطة الجزائرية معظمهم من الذكور يعانون من البطالة أو مصابين بأمراض عقلية.

ارتفعت نسب الانتحار بشكل مهول في تونس وفق ما اشارت إليه دراسة أجريت من طرف ثلاثة أطباء نفسانيين تونسيين، إذ تقدر عدد محاولات الانتحار سنويا بواحد في الألف أي حوالي عشرة آلاف تونسي يحاولون الانتحار كل عام.

وتبقى هذه الأرقام نسبية في الدول العربية لكون ظاهرة الانتحار كانت من "الممنوعات" ولا يمكن الخوض فيها أو نشر أرقام دقيقة حولها.

ويعتقد أخصائيون في الأمراض النفسية أن برامج التوعية بشأن الانتحار والاستخدام الفعال لعقاقير الاكتئاب والجلسات التأهيلية ساهمت في تراجع الظاهرة في التسعينات.

وبينما كان المنتحرون في السابق يفضلون تسميم أنفسهم، أصبح احراق النفس وخاصة الشنق من بين افضل الوسائل المفضلة للقضاء على الحياة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والتاسعة عشرة، هذا ما جاءت به دراسة نشرت في مجلة علم النفس البريطانية.

فقد ارتفع عدد المنتحرين بين الذكور الشباب من خمسة وخمسين في المليون عام سبعين إلى مئة في المليون عام تسعين.

ويقول الدكتور مارك ماكلور، أخصائي علم النفس الذي أجرى الدراسة إن الإحصائيات المتوفرة في هذا المجال تخفي المستوى الخطير الذي بلغته المشكلة، لأن المحققين في الغالب يصنفون حالات الوفيات التي لايجدون لها تفسيرا بأنها حوادث مجهولة الأسباب عند وجود أي شك في كونها انتحارا.

ويضيف الدكتور ماكلور أن الوضع قد بلغ درجة الأزمة بين الشباب الذكور، وأنه من الخطأ البحث عن سبب واحد للانتحار، وقد يكون السبب هو وجود أزمة ثقة بين الشباب تدفعهم نحو إنهاء حياتهم.

ويقول الدكتور ماكلور إن العديد من حالات الوفيات المجهولة الأسباب يدخل ضمن حالات الانتحار، لكن المحققين يترددون في اعتبارها حالات انتحار.

وتحدث حالات الأزمة في الثقة لأسباب عدة، بينها الاختلالات النفسية، والمشاكل العائلية أو الزوجية، والبطالة والتورط في الجرائم التي تقود إلى التعامل مع النظام القضائي.

وتلقي الدراسة باللائمة على انتشار المخدرات والكحول وتراكم الديون بين الشباب والتي تدفعهم إلى التخلي عن التفكير واللجوء إلى الانتحار عندما تشتد عليهم مشاكل الحياة.

ويقول الدكتور ماكلور إن الرجال عادة ما يلجؤون إلى طرق عنيفة في الانتحار، بينما تحتفظ النساء بصورة جميلة عن أنفسهن عند الموت لذلك يلجأن إلى تناول جرعات مفرطة من الأدوية ويمتن وهن نائمات.

ويضيف أن الرجال لا يهتمون كثيرا إذا كانت طرقهم في الانتحار عنيفة فذلك يتلاءم مع ثقافتهم.