"مزحة تلفزيونية" كادت تنهي بلجيكا

الجمعة 22 ديسمبر-كانون الأول 2006 الساعة 06 صباحاً / مأرب برس - الخليج
عدد القراءات 3449

لم يكن أحد يصدق في بلجيكا وخارجها، ان برنامجاً تلفزيزنياً مازحاً يستطيع ان يثير قدراً كبيراً من ردود الفعل، ويتحول إلى قضية جادة، تشغل الساسة ووسائل الإعلام، وتثير نقاشات حادة على مدى عدة أيام، بين الطبقة السياسية، تتعلق بمستقبل مملكة بلجيكا المتحدة، بشطريها الفلامنكي والفرنسي.

ويتمثل البرنامج المذكور في قيام قناة التلفزيون البلجيكية الأولى “إ تي بي إف”، بقطع برامجها المعتادة منذ عدة أيام، وبث خبر سريع على شكل “فلاش”، اعلنت فيه نهاية مملكة بلجيكا، ومغادرة الملك للبلاد. وبينما كان مشاهدوا القناة ينتظرون مشاهدة برنامج تلفزيوني، ظهر على الشاشة خبر عاجل، يعلن بأن “البرلمان الفلامندي” صوت للتو، على قرار بانفصال “إقليم فلاندر” عن مملكة بلجيكا. لقد كان للخبر مفعول الصدمة. ومن بعد ذلك عاش الناس على مدى ساعة ونصف الساعة، على وقع الاخبار الساخنة، حيث توزع جملة من المراسلين، على عدة مراكز حكومية مثل القصر الملكي، ومقري الحكومة والبرلمان. وتتالت الأخبار الغريبة، وغير المتوقعة: إقليم فلاندر اعلن استقلاله من طرف واحد، وانفصل عن المملكة البلجيكية (تتكون من اقليمين: فلاندر في الجنوب، وفاللوناي الفرنسي في الشمال). الملك البير الثاني غادر البلاد الى الخارج، وهناك شائعات تقول انه توجه الى كينشاسا. بلجيكا لم تعد قائمة! أما الاقليم الفرنسي فقد اعلن انضمامه الى فرنسا.

لقد كان المشاهدون للقناة الأولى على موعد مع أمسية كلاسيكية من برنامجين، الأول بعنوان “قضايا على الأولى”، ويليه برنامج آخر على صلة به تحت عنوان “أنا بلجيكا”. ولأن البرنامج على قدر كبير من الجدية، فإنه لم يخطر ببال أحد أن هناك مزحة تلفزيونية من عيار ثقيل، حين انقطع البث خلال الاعلان عن برنامج الامسية، وقام المذيع بتبرير الانقطاع الفجائي للبرنامج، بالاعلان عن حصول تطورات دراماتيكية على مستوى البلاد، لذا صدق الناس الأخبار، وعمت حالة واسعة من الارتباك، وازدحمت الخطوط الهاتفية بالمكالمات، ونزل الكثيرون الى الشوارع، في محاولة لمعرفة ما الذي يجري.

بعد أن اتضحت ابعاد المسألة، أصيب القطاع العام من الشارع بحالة غضب وفرح في نفس الوقت. ومصدر الغضب هو ان القائمين على هذه المحطة التلفزيونية، سمحوا لأنفسهم بالمزح في قضايا تمس الوطن والمواطن، وأثاروا حالة من الهلع العام في اوساط جمهور واسع من المشاهدين، استمرت طيلة ذلك المساء، فعرضوا المواطن لاختبار صعب لم يسبق له وأن وقف امامه في السابق، فسادت حالة من الحزن عبّر عنها نزول الآلاف من المواطنين الى الشوارع وهم ينتحبون، هذا عدا التكاليف المالية التي ترتبت على الاتصالات وإضاعة الوقت، وحالة الاضطراب والارباك. أما سبب الفرح فيعود إلى ان الأمر كان مجرد مزحة، وليس حقيقة. ولهذين السببين قامت الحكومة باستدعاء القائمين على القناة، وشرعت في اتخاذ إجراءات عقابية. وفي الوقت نفسه اجمعت الاوساط الحكومية على ثقل وطأة هذه المزحة، وقال رئيس الوزراء “غي فيرهوفستادت”، ان المبدأ الذي يقف وراء المزحة “يعبر عن شعور بانعدام المسؤولية، وذوق رديء”. أما وزير المالية ديدية ريونيدير فوصف الأمر بالفضيحة، ودعا الى محاسبة المسؤولين عنها. 

وفي رأي مختلف، اعتبر الكاتب والمحلل البلجيكي المتخصص في تفنيد الاكاذيب الاعلامية ميشيل كولن، ان هذا الضرب من “الخيال السياسي” ايجابي، لأنه يكشف عن سهولة تمرير أخبار زائفة، لا أساس لها على قطاع واسع من الناس. وقال يكفي أن يتوافر بضعة صحافيين، وعدة حوارات مع بعض الخبراء المزعومين، وعدة صور محورة كبرهان. وربط كولن ذلك بالاحداث الدولية التي استجدت خلال العشرين سنة الاخيرة، والتي لعب الاعلام دورا اساسيا في تحديد اتجاهها، مثل “مذبحة تيميشوارا” في رومانيا، التي كانت الشرارة التي اشعلت رومانيا، وقادت للانتفاضة ضد حكم تشاوسيسكو. وقد تبين لاحقا انها لم تحصل، والأمر ذاته في بنما ونيكاراغوا ويوغسلافيا والعراق وأفغانستان ولبنان وفنزويلا، وأخيرا في بلجيكا. ويعتقد كولن ان هذه الصدمة سوف تدفع الحكومة للتفكير جيدا بوضع المواطن البلجيكي ومستقبله، في ظل جملة من المشاكل تتعلق بالبطالة، ومستوى المعيشة.

ويقول كولن ان هذه المزحة لم تأت من فراغ، لأن “الانفصاليين” الفلامند يعتقدون، بأن الانفصال هو الحل الوحيد للمشاكل التي تعيشها بلجيكا، وخصوصا “اقليم فلاندر”، ويرون ان ذلك سوف يمكنهم من الانصراف الى معالجة الصعوبات التي تواجههم، وذلك في ظل تذمر عام في هذه المنطقة التي استفادت في السابق من نظام اللامركزية، وارتفع مستواها مقارنة بالاقليم الفرنسي.

وبالفعل أكدت تفاعلات الحدث صحة وجهة نظر الكاتب كولن، فبدلاً من ان تمر المزحة وتنتهي في يومها الأول، أخذت تكبر وتأخذ ابعادا سياسية، وانتقل النقاش الى الصحف ووسائل الاعلام الاخرى والمدارس والجامعات والمكاتب والمقاهي، وكله دار حول احتمال انفصال اقليم “فلاندر”. وتطور الأمر الى موقف مضاد من القناة التي أثارت الأمر، فبعد ان تعرضت للنقد في البداية من طرف الرأي العام، جرى استحسان عملها في نهاية المطاف. واعتبرت انها وضعت الاصبع على الجرح. وقد جاءت هذه النظرة من الطرف الفرنسي في الاتحاد، والذي يعتبر ان الطبقة السياسية ليست لديها الجرأة لمناقشة المشاكل بين طرفي البلاد. ومنبع ذلك ان هذا الطرف يشعر بالتمييز قياسا الى الطرف الآخر، واعتبر البعض هذا البرنامج التلفزيوني، قام بما لم تقم به كل الدعاية السياسية منذ عقود لأنه هز البركة الساكنة، واخرج ما في اعماقها الى السطح. وقال الصحافي (فيليب ديتوي) الذي يقف وراء الفكرة، انه لم يقصد أبدا استفزاز أحد بقدر ما اراد ان يلفت الانتباه الى خطورة صعود اليمين المتطرف في اقليم فلاندر، والذي يطرح افكارا تدعو الى التقسيم والكونفيدرالية. ويعتقد الصحافي ان هناك غالبية تؤيد انفصالا سريعا وقاطعا.

تشبه هذه المزحة التي تقع في باب “الخيال السياسي”، الخدعة الاذاعية التي قام بها المثل السينمائي والمسرحي الشهير “اورسون ويلز” في الخمسينات، والتي اطلق عليها اسم “حروب العوالم”. ولكن الفارق هنا هو ان الخيال البلجيكي حاكى الواقع.