صلاح فضل يكتب: على المقرى وقصة (اليهودى الحالى)

السبت 06 مارس - آذار 2010 الساعة 01 صباحاً / مأرب برس - الشروق المصرية
عدد القراءات 3759

على المقرى.. مبدع يمنى يشتغل بالصحافة الأدبية منذ ربع قرن، بدأ شاعرا مثل معظم كتاب اليمن، ثم انعطف إلى الرواية فبرع فيها، وأخذ يستمد مادته من التاريخ اليمنى الحافل، فنشر مؤخرا روايته المثيرة «اليهودى الحالى» يقلب فيها مواجع التعايش العسير بين الطوائف والأقليات الدينية، المتراوح بين فترات التسامح الطويلة وأوقات الفتن العاصفة.

ويحكيها مرة بصيغة السيرة الذاتية، ثم يعقب عليها بأسلوب المدونات التاريخية، فيجمع بين النبرة الشخصية الحميمة لراو يعبر حواجز الفئات المختلفة على جناح الحب والألفة، وبين مقتضيات التدوين التاريخى فى الحياد والتباعد والموضوعية.

محددا موقعها الزمنى خلال منتصف القرن الحادى عشر الهجرى- الموافق للقرن السابع عشر الميلادى- ولا نفهم سر اختيار هذه الفترة على وجه التحديد إلا عندما يتم ربطها فى ختام الرواية بالوقائع التاريخية، فهى تتذرع بالتخيل السردى لتحاكى الأحداث الفعلية التى شهدتها اليمن عندما صدر قرار بطرد اليهود وتهجيرهم منها عقب شائعة ظهور المسيح المخلص وما جرته من تداعيات مأساوية.

لكن البداية اللافتة للرواية تتمثل فى وقوع فاطمة، وهى بنت مفتى قرية ريدة فى حب الصبى المختلف عنها عمرا ودينا «فاجأتنى صباح أحد الأيام بقولها إنها ستبدأ فى تعليمى القراءة والكتابة .. (ألا يعلمونك يا يهودي الحالي..؟) أربكتنى كلماتها وهى تقولها بحنان وغنج لم آلفهما، فأنا يهوديها، أو اليهودى حقها، ليس هذا فقط، بل أنا فى عينيها مليح (حالى) حركت كتفى مستغربا سؤالها، فلم أكن أعرف معنى القراءة والكتابة.

فى البيت حين سألت أبى عن ذلك أفهمنى أن الأقوال والأدعية التى يرددها فى صلاته وجدت فى مدونات قديمة، نقلها العارفون بالكتابة إلى ألواح وجلود وأوراق ليقرأها من يجيد القراءة وهو لا يعرفها.. بدا مندهشا ومستغربا وأنا أنقل إليه فكرة تعلمى القراءة والكتابة على يد بنت المفتى».

كان أبوه نقاشا يعمل فى تشكيل الجص وصناعة القمريات والنوافذ من خلال قوالب خشبية وحجرية مشكلة على هيئة أقمار وأهلة وشموس ونجمات سداسية مثل نجمة داوود اليهودية تماما، يعيش خاضعا للأعراف والتقاليد التى تلزمه بالطاعة ومظاهر الذل والخضوع.

وعندما بدأ يخشى على فتنة ابنه من تعلم العربية وحفظ بعض آيات القرآن كانت زيارة فاطمة لهم فى المنزل، بما تعنيه من رفع لقدرهم، كفيلة بمحو أثر الخوف على عقيدته من الثقافة الإسلامية.

وفى السنة الثانية من تردد الشاب على بيت المفتى صار يجيد القراءة والكتابة بالعربية، ويقرأ مخطوطات الفلسفة والفقه وعلوم الحساب والفلك والطب، كما أخذ يقرأ الأسفار اليهودية باللغة العربية بعد أن أغروه بالتردد على بيت الحاخام أيضا ليتقن العبرية، وحين عرفت فاطمة ذلك طلبت منه تعليمها العبرية، فصارت المعرفة المتبادلة هى التى تبسط عليهما جناح الألفة والتقارب، لكنه بعد بلوغ سن الرشد امتنع عن التردد على بيت المفتى تفاديا للحرج، وأخذ يشعر باختلافه عن أفراد أسرته، عن أخيه مثلا، وعندما أصيب هذا الأخ الأكبر بالحمى وأخذ يهذى فوجئ به يتغنى «بالفاتنة المليحة، ساحرة العقل والروح، ملجأ اليتيم، خاصة المتشردين، الطيبة الحنون، نبيذ الحياة، سألت أمى من هذه التى يعتبرها نبيذ الحياة وبنت مَن أجابت: أورشليم، عندئذ تذكرت ما كان يحدثني به عن ظهور المسيح المنتظر الذى سيحول الملك إلى اليهود، وكان يقول لى بغضب: سأنتقم من كل المسلمين، حتى الذين لم يفعلوا بى شيئا». هذه إذن نذر العواصف القادمة، يتضح منها الشرخ الوجدانى الذى حاول اليهودى الحالى، أى الوسيم، وحاولت فاطمة جبره بالمعرفة والمودة.

زمان الوصل فى اليمن:

على الرغم من تشابه المجتمع اليمنى مع ما أثر عن الأندلس من مظاهر التعايش الحميم بين الطوائف الدينية فى حياتهم اليومية حتى أصبح زمانهم «زمان الوصل» لا تلبث الفتنة أن تطل برأسها كما تجسدها صفحات الرواية بطريقة ماهرة، فحوادث العشق بين الصبايا والشباب تتكرر، يحسبها أهلهم من قبيل السحر، ينتهى الإحباط ببعضهم إلى الانتحار والانتقام، والراوى يمثل ذلك بطرافة قائلا «كنت أعتقد أن الحب وشرب الخمر والنبيذ من بين ما يجمع بعض اليهود مع بعض المسلمين، لكن سرعان ما داخلتنى الشكوك عندما عاد الخصوم إلى المواجهة، إذ داهم المسلمون الحى اليهودى وقاموا بكسر جرار الأنبذة والخمور فى البيوت، بما فيها بيتنا، حتى فاحت ريدة بروائحها، بعد أن سكرت أرضها وداخت طيورها، فصمت كما صمت «حاييم» عن الغناء، إذ لم يجد ما يملأ به قربته أو رأسه» كان حاييم هذا هو المغنى الذى لا يكف عن الشراب وهو يترنم بأغنية: «صباح الصباح/ للفتيان الملاح/ من يبهجوا القلب/ ولا يقولوا آح» وهى تذكرنا ببعض أنغام الموشحات الأندلسية التى تختم بالكلمات ذاتها، كذلك كان الراوى يصدح بمواجده فى حب فاطمة وهو يغنى:

«عقلى ارتبش (ارتبك) لما خطر قبالى/ وهد عمرى ونحل عظامى

يا غارتاه، بالله ارحموا لحالى/ قولوا له يجلس سنة قبالى

بالله ارحموا قلبى المولع/ لحين وراه ما عد قدر يرجع

حبيبه من عائلة محمد/ لو أقربه أعيش معه ممجد

إن مت يا أهل الله سامحونى/ وجنبه بالأرض اقبرونى

ألقوا السلام كما السلام لله/ يهودى عشق مثل خلق الله»

ولم يكن الشراب وحده هو الذى يجذب شباب المسلمين للاختلاط باليهود، بل اقترن ذلك بفتنة النساء وعلاقاتهن المباحة، فبعد حادثة كسر الجرار وحصول اليهود على تعويضات عادلة عن خسائرهم باعتبارهم ذميين لا يجوز الاعتداء على ممتلكاتهم جاءت بشائر الأخبار ــ كما يقول الراوى ــ بوصول ثلاث يهوديات شهيرات إلى الحى، قالوا إنهن جئن بعد أن هددهن فقهاء مسلمون بالقتل إذا لم يرحلن من صنعاء، اتهموهن بإفساد أولاد المسلمين وبناتهم أيضا، كن كما تردد يقمن بمهنة القوادة، فيجمعهن بين بعض المسلمين رجالا ونساء فى بيت خصص لذلك، أو فى بيوت هؤلاء المسلمين أنفسهم، مقابل أجرة يحصلن عليها، وإذ سبقتهن أخبارهن إلى ريدة فإن المسلمين ــ ولا سيما الشباب منهم ــ ظلوا يترددون إلى الحى اليهودى بهدف رؤية هؤلاء النسوة، حتى قيل إن البعض جاء من مناطق بعيدة لهذا الغرض».

يبدو أن مناخ التحرر قد شاع فى نفوس الشباب، حتى إن فاطمة بنت المفتى أقبلت على مبادرة عجيبة، إذ بعثت برسالة إلى يهوديها الحالى كما تسميه تقول له فيها:

«أعلم عافاك الله أننى وهبت لك نفسى، حرة عاقلة لتصبح زوجى إذا تجاوبت معى وأبلغتنى بقولك: قبلت»

ولا تنس بنت المفتى أن تبرر ما أقدمت عليه وتعززه بالأسانيد قائلة: «قرارى هذا وصلت إليه بعد أن درست أقوال الشريعة ورأيت فيها بحر اختلاف يجمع علماء المسلمين بدون اتفاق، وكان دليلى لقرارى الإمام الجليل أبوحنيفة الذى أبهجنى بإجازته للمرأة البالغة الرشيدة تزويج نفسها بدون ولىّ الأمر، وزادنى سرورا المجتهد اللبيب أبوالمعارف بهاء الدين الحسن بن عبدالله بفتواه المدونة فى التصاريح المرسلة التى يجيز فيها للمسلمة الزواج من يهودى أو نصرانى»

وعلى هذا تدبر له الأمر للخروج معها من ريدة، واللجوء إلى صنعاء بعيدا عن لوم الأهل وتوترات الطائفتين. يطلق الراوى على هذا السلوك مذهب فاطمة الذى تدين فيه بدين الحب والمسامحة والسلام، وتربطه بما كان يدعو إليه الشيخ الأندلسى الأكبر محيى الدين بن عربى، لكن الغريب أن الراوى لا يتحول إلى الإسلام إلا بعد فجيعته فى فاطمة التى تقضى نحبها خلال ولادة عسيرة، وتترك له مضغة صغيرة لطفلة تحتاج إلى رعاية، فيجد نفسه مضطرا إلى إعلام إسلامه حتى يظفر برعاية الوليدة والمجتمع والقرب من الولى ذاته.

وتمضى الرواية لتسجل أهم حدث تاريخى فى هذه الفترة، بعدما انضم الراوى إلى جيش الإمام المتوكل وأفاد من حسن حظه فى تدوين فتوحات الجيش وانتصاراته ضد العاصين والخارجين عن الدين والدولة، حتى وصل إلى مدونته الأخيرة وفيها يسجل:

«دخلت سنة سبع وسبعين وألف للهجرة، حين أظهر اليهود تململهم من تكرار دوران الدائرة عليهم، ونفاد قدرتهم حتى على الضجر. أيامها وصلت إليهم أخبار عن ظهور المسيح المخلص المذكور فى الكتب القديمة، فبدت فرحتهم عارمة، كأن لم يكن لهم من حلم سوى انتظاره، تنادوا مبشرين به فى جهات اليمن الأعلى والأسفل.. ظنوا ذلك تحققا لما تنبأت به تلك الكتب: إن الغلبة ستكون لليهود وإن الملك سيصير لهم وحدهم».

هذا هو جذر الأساطير المؤسسة لتمردهم فى تلك الفترة، وصدور قرار طردهم من اليمن، على شاكلة القرار الذى كان قد صدر فى الأندلس من قبل، ويصف الراوى بخيال تاريخى مدهش مظاهر احتشادهم وخروجهم من المدن راجلين ومنهكين فى شتات رهيب بعد مصادرة أموالهم وجميع ممتلكاتهم، لكن العقوبات لم تلبث أن خففت عنهم، ولم يتم إخراجهم عنوة من اليمن، بل ظلوا فى بعض القرى على أطرافها، وعادوا إلى نطاق الذمة مرة أخرى، واندغم فى حياتهم صوت الراوى وبرز بعض أحفاده المختلطين بين اليهودية والإسلام، وظلت هذه الأساطير تختمر فى الضمير اليهودى حتى أسفرت عن تجلياتها فى العصر الحديث، لكن يظل نموذج هذا التعايش العاشق الحرج الذى قدمته فاطمة فى هذه الرواية الزاخرة بالإشارات والدلالات مضيئا للتاريخ والواقع فى آن واحد.

إقراء أيضاً
اكثر خبر قراءة ثقافة