فورين بوليسي: لا تلوموا أردوغان على كل شئ

السبت 12 يناير-كانون الثاني 2019 الساعة 07 مساءً / مأرب برس - وكالات
عدد القراءات 2101

 

وجد خبراء تركيا في واشنطن أنفسهم يعملون ساعات إضافية خلال الإجازات عندما انتهى حديث روتيني بين "دونالد ترامب" و "رجب طيب أردوغان" مع إعلان أن الولايات المتحدة سوف تسحب قواتها من سوريا فوراً وسيترك تركيا تتولى زمام القتال ضد "الدولة الإسلامية" أو "داعش".

أثارت مناورة "ترامب" المخاوف من أن الانسحاب المبكر من شأنه أن يقوّض المكاسب التي تحققت ضد "الدولة الإسلامية".

   عدم فهم نوايا أردوغان

في الواقع، اقترح مستشار "ترامب" للأمن القومي "جون بولتون"، الأحد أن تبقى القوات الأمريكية حتى تهزم "الدولة الإسلامية" وتحمي حلفاءها الأكراد في واشنطن، مما أثار ردة فعل غاضبة من "أردوغان" في خطاب أمام البرلمان التركي ونشر مقالة افتتاحية باسمه في صحيفة "نيويورك تايمز"، تعهد فيها بهزيمة حلفاء الولايات المتحدة الأكراد؛ "وحدات حماية الشعب"، التي تعتبرها تركيا الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني الذي تم اعتباره منظمة إرهابية، ولجعل غضبه واضحاً، رفض "أردوغان" اجتماعاً مع "بولتون" عندما مر المسؤول الأمريكي عبر البلاد الثلاثاء بعد رحلة إلى (إسرائيل).

على الرغم من محاولة "بولتون" الأخيرة للتراجع عن خطة الانسحاب الخاصة بـ"ترامب"، يبدو من المرجح أن الولايات المتحدة سوف تسحب بعض قواتها قريباً، والنقاد وصانعو السياسة في واشنطن متوترون من أن تركيا لا تستطيع (أو لن تقوم) بملء الفراغ، وأصل هذه المخاوف عدم الثقة التي تتمسك بها واشنطن ضد "اردوغان"، الذي لا يوجد لديه من يلومه على هذا سوى نفسه.

 

في حين أن هناك أسئلة مشروعة يمكن طرحها حول ما إذا كانت تركيا ستفعل ما يكفي لمواجهة النفوذ الإيراني أو ما إذا كان بإمكانها القيام برد فعل فعال ضد روسيا، فإن المخاوف الأكثر شيوعًا هو أن "أردوغان" لديه تعاطف مع الجهاديين أو أنه قد يغض الطرف عنهم، في الوقت الذي يقمع فيه الحلفاء الأكراد في أمريكا، الذين ساعدوا القوات الأمريكية على دحر "الدولة الإسلامية".

حتى في صفحات مجلة "فورين بوليسي"، فإن المتخصصين رفيعي المستوى مثل "ستيفن أ. كوك" انطلت عليهم بعض من هذه الأوهام، وهناك مساهمين آخرين، مثل "أحمد إس يايلا"، الذي - بصفته كان رئيس شرطة مكافحة الإرهاب في تركيا كان له يد في تحويل البلاد لتصبح تحت سيطرة ومراقبة "أردوغان" وبدا أنه لم يكن لديه تحفظات على ذلك آنذاك - يزعم اليوم أن "أردوغان" لا يمكن أن يكون حليفاً موثوقاً، وذلك بعد أن أصبحوا هم أنفسهم تحت النار، لكن هذه المخاوف تكشف افتقاراً لفهم نوايا "أردوغان" الحقيقية.

إن فكرة أن "أردوغان" متعاطف أيديولوجياً مع "الدولة الإسلامية" يكشف عن جهل بالسياسة الداخلية لتركيا.

   تركيا أكبر ضحايا داعش

تلعب الأوامر الدينية، المعروفة أيضًا بالطرق الصوفية، دورًا حاسمًا في الائتلاف الحاكم لـ"أردوغان"، وعلى غرار نظرائهم في الأديان الأخرى، فإن هذه المجموعات تضم مئات الآلاف من الأعضاء، وتتحكم بمليارات الدولارات، وتمارس نفوذاً هائلاً على الحياة السياسية، وهم يتمتعون بوجود عالمي، مع سلاسل لهم في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ويعيشون من خلال شريعتهم الخاصة وطقوسهم وصلاتهم، سميت معظم الطرق الصوفية على اسم القديسين – مثل القادرية على اسم "عبدالقادر جيلاني" والنقشبندية تيمناً بـ"بهاء الدين نقشبندي البخاري" والخلواتية على اسم "عمر الخلواتي" – حيث يُعتقد أنهم مختارون من قبل الله، ولديهم القدرة على المعجزات، يصلي المؤمنون لهم للحصول على الشفاعة، وتعتبر مقابرهم وأضرحتهم أماكن للعبادة.

في المقابل، فإن السلفية الوهابية التي تلهم "الدولة الإسلامية"، هي عقيدة متشددة، وتعتبر هذه الطقوس عبادة للأوثان، بالطبع استهدف مقاتلو "الدولة الإسلامية" الطرق الصوفية بلا هوادة في الأراضي التي يسيطرون عليها، وأعدموا عشرات من الشيوخ، الذين كان كثير منهم يتمتعون بشعبية في تركيا، وهدموا مواقع مثل مرقد النبي يونس في الموصل وضريح عويس القرني في الرقة، التي تعتبرها العديد من الطرق - بما فيها تلك الموجودة في تركيا - مقدسة.

وبالتالي، فإن الطرق التركية معادية بشدة لـ"الدولة الإسلامية"، إن خطاب الداعية الشهير الذي يظهر على التلفاز "أحمد محمود أونلو"، وهو شيخ نقشبندي يصل مشاهدوه للملايين، هو أحد الأمثلة على ذلك، لقد اتخذ موقفاً صارماً ضد "الدولة الإسلامية"، بل ذهب إلى حد إصدار فتوى تعلن أن "أولئك الذين يقتلون (مقاتلي الدولة الإسلامية) والذين قتلوا على أيديهم هم شهداء وسوف يُباركون كذلك للأبد"، أثار رجال الدين هؤلاء غضب الدولة الإسلامية لدرجة أنها هددتهم بالقتل عبر مجلتها "رومية".

إن إيمان "أردوغان" الشخصي له جذور في هذه الطرق، وتعتمد مصالحه السياسية على دعمهم المستمر، ومن ثم، فهو ليس لديه الكثير من التعاطف مع "الدولة الإسلامية"، يدرك المتشددون هذا جيداً ودعوا إلى الجهاد ضد "أردوغان"، الذي تعتبره الجماعة "طاغوت".

لكن حتى لو لم يكن "أردوغان" متعاطفًا مع تنظيم "الدولة الإسلامية"، فإن هذا غير كافٍ لهؤلاء الذين يخشون أنه لن يوجه انتباهه إلى "الدولة الإسلامية" إلا عندما يتعامل مع "وحدات حماية الشعب"، وهي خطوة يقول النقاد إنها تنطوي على مخاطر تمهد الطريق لعودة الإرهابيين عودة من خلال الإهمال إن لم يكن من سوء التصرف.

هذه الادعاءات ليست مقنعة أيضاً، إذ لا يوجد كثير من البلدان التي تواجه تهديداً قوياً من "الدولة الإسلامية" مثل تركيا، فقد عانت البلاد من بعض أفتك هجمات داعش، والتي استهدفت تجمعات المعارضة، فضلاً عن المواقع السياحية في اسطنبول، ومطارها الدولي، وأحد أشهر نواديها الليلية.

أضرت هذه الهجمات بالاقتصاد - مما أدى إلى تقليص إيرادات السياحة بأكثر من الثلث – وأيضاً حطمت السلام الهش الذي تعيشه تركيا، وأوقفت المحادثات الجارية مع حزب العمال الكردستاني وجددت العنف في جنوب شرق البلاد الذي يقطنه الأكراد، من غير المنطقي القول بأن أنقرة تغض الطرف عن الدولة الإسلامية مع كونها الخاسر الأكبر من استعادة التنظيم لقوته.

غالبًا ما يظن المتشككون أن عدم كفاءة الحكومة التركية هي خبث، مستشهدين بمرور الجهاديين عبر حدودها، لقد كانت حدود تركيا مع سوريا سهلة النفاذ منها، ومع الحرب الأهلية التي أرسلت الملايين من اللاجئين الفارين من العنف عبر الحدود، أصبح من المستحيل السيطرة عليها بشكل كامل، قبل ظهور تنظيم "الدولة الإسلامية"، كان من الممكن أن تأخذ سيارة أجرة - أو حتى تمشي - عبر الحدود ولا تتوقف حتى من أجل التحقق من الهوية، كما يمكن أن يشهد أي شخص كان يعمل في المنطقة في ذلك الوقت.

منذ ذلك الحين، بنت تركيا على حدودها مع سوريا حائطًا ضخماً، مع كتل خرسانية ذات 7 أطنان مغطاة بأسلاك شائكة بارتفاع 10 أقدام وعرض 6 أقدام ممتداً على مسافة 475 ميلاً، أي ما يساوي المسافة من واشنطن العاصمة إلى مونتريال.

ينطبق الشيء نفسه على تأكيدات المشككين حول وجود "الدولة الإسلامية" على نطاق واسع داخل تركيا، ونشر "دوجو إروغلو"، وهو صحفي استقصائي يعمل خبيراً في تدفقات الأسلحة من تركيا إلى "الدولة الإسلامية"، مؤخراً كتاباً يقدم صورة مختلفة تماماً، تظهر أن شبكات التجنيد التابعة لـ"الدولة الإسلامية" في تركيا كانت صغيرة نسبياً وأن معظم المجندين كانوا راديكاليين محليين، من العادل أن نقول إن قادة تركيا استغرقوا وقتاً طويلاً لفهم التهديد، وأن أساليبهم كانت مقصرة، وأنهم فعلوا القليل في وقت متأخر، لكن من التمادي أن نعتبر أن أخطاء سوء التقدير هذه كانت قراراً محسوباً لترك العنان لداعش.

المخاوف من أن أنقرة لا تمانع في العمل الخفي مع داعش إذا كانت تدفع الثمن، قوية لأنها تتماشى مع تحيزاتنا، ولكن، على سبيل المثال، توصلت دراسة ميدانية حول التسلح في ثلاث سنوات بشأن سلاسل توريد الأسلحة إلى أن 90% من أسلحة داعش وذخيرتها تم شراؤها إما من أسواق سوداء في الصين وروسيا وأوروبا الشرقية أو تم الاستحصال عليها من عمليات النقل التي قامت بها الولايات المتحدة والسعودية لحلفائهم في البلاد، ولم يتم توثيق الاتهامات حول تورط أنقرة في تجارة النفط بشكل قاطع.

   تهديد وحدات حماية الشعب

في ضوء هذه المخاوف، يمكن للمرء أن يتساءل ما إن كان من الأفضل لو أن وحدات حماية الشعب بقيت على رأس المعركة، حتى لو لم يكن "أردوغان" متعاطفًا بشكل شخصي مع "الدولة الإسلامية" أو سيستفيد من إعادة بعثها ثانية.

كانت الشراكة بين الولايات المتحدة ووحدات حماية الشعب مثيرة للجدل للغاية في تركيا، فقد كان ينظر إلى وحدات حماية الشعب، التي يصفها "كوك" باسم "القوة الأمريكية الموثوقة على الأرض ضد الدولة الإسلامية"، على أنها حليف الأحلام، وأنها مخلصة، شجاعة، وواسعة الحيلة، ولكن بالنسبة لأنقرة، كانت وحدات حماية الشعب عدوًا، وأحيا التودد الأمريكي للمجموعة أسوأ مخاوف أنقرة، فبعد أن قضت عقودًا لإخراج حزب العمال الكردستاني من ملاذه في شمال العراق بعد حرب الخليج عام 1991، كانت تركيا تخشى وجود ظهور قاعدة مماثلة في سوريا، ومع التقدم المستمر الذي حققته وحدات حماية الشعب، والذي قربها من ربط مناطقها الثلاث: عفرين وكوباني وجزيرة، لتصبح جيوباً متاخمة على طول الحدود السورية التركية، اضطرت أنقرة لاتخاذ إجراء.

 

ويقلل العديد من المحللين، مثل "كوك"، من شأن مخاوف تركيا بشأن روابط وحدات حماية الشعب مع حزب العمال الكردستاني إلى كونها مجرد اختلاف في الرأي، ولكن في الواقع، فإن الروابط بين حزب العمال ووحدات الشعب، أكثر بكثير من مجرد تخمين، حيث تصف العديد من المصادر الرسمية، بما في ذلك "تقييم التهديد العالمي" الصادر عن مجتمع الاستخبارات الأمريكية، وحدات حماية الشعب باعتبارها "الميليشيا السورية لحزب العمال الكردستاني"، وعلى الرغم من أن وحدات حماية الشعب تؤكد أنها تستلهم من حزب العمال الكردستاني فقط ولا تتلقى الأوامر منه، إلا أنه من الصعب تصديق هذه المزاعم.

لا تخفي المجموعة احترامها العميق لـ"عبدالله أوجلان"، مؤسس حزب العمال الكردستاني، الذي يقضي حالياً حكماً بالسجن مدى الحياة في سجن بجزيرة في تركيا، فبعد تحرير الرقة - على سبيل المثال - تم تصوير وحدات من القوات الديمقراطية السورية، وهي المجموعة المظلة التي تقودها وحدات حماية الشعب، وهي ترفع صورة "أوجلان"، والعديد من قادة وحدات حماية الشعب - مثل "أزاد سيمي، وأحمد سيكر، وحسين كهرمان" - هم من قدامى المحاربين في حزب العمال الكردستاني الذين كانوا على قائمة المطلوبين في تركيا قبل أن تولد وحدات حماية الشعب.

أحد المتطرفين، هو "فرهاد عبدي شاهين"، الذي تم رصد مكافأة من الحكومة التركية بقيمة 1.1 مليون دولار على رأسه ويشتهر بدوره في هجوم عام 2008 على نقطة حدودية تركية قتل فيه 17 جنديًا، والذي أثار أزمة دبلوماسية بين واشنطن وأنقرة بعد تصويره مع "بريت ماكجورك"، الذي كان مبعوث الولايات المتحدة إلى التحالف ضد "الدولة الإسلامية".

تشترك المجموعات أيضاً في المقاتلين، وعبّر أحد المقاتلين الأكراد الذين أجريت معهم مقابلات في صحيفة "وول ستريت جورنال" عن الأمر بأفضل شكل ممكن حين قال: "أحيانًا ما أكون حزب العمال الكردستاني، وأحيانًا أنا حزب الحياة الحرة الكردستاني [الفرع الإيراني]، وأحيانًا أنا وحدات حماية الشعب، هذا لا يهم حقاً، إنهم جميعاً أعضاء في حزب العمال الكردستاني"، فقط في واشنطن، سيعتقد المرء أن هاتين مجموعتين مختلفتين، مع إنهما تقاتلان من أجل القضية نفسها، وتستلهمان من نفس القائد، ويقودهما نفس الأشخاص، ويقاتل فيها نفس المقاتلون.

عندما نتوقع أن تتجاهل تركيا التودد الأمريكي لوحدات حماية الشعب، فإننا نتغاضى عن الجذور العميقة لقتال تركيا ضد حزب العمال الكردستاني، الذي أدى إلى مقتل عدد من المواطنين الأتراك أكثر من عدد الغربيين الذين قتلتهم القاعدة والدولة الإسلامية مجتمعة، لم يكن بوسع أنقرة أبداً أن ترتبط مع وحدات حماية الشعب كما تمنى حلفاؤها الغربيون، ويبدو أن الأمر نفسه يسري على وحدات حماية الشعب، وعندما قوبلت احتجاجات أنقرة بآذان صماء، قررت أن تحارب لوحدها.

في البداية قامت تركيا بعزل عفرين أولاً بعملية "درع الفرات"، ثم دقت إسفينها أكثر مع عملية "غصن الزيتون"، التي وصلت إلى ضواحي منبج، التي تعد آخر معقل لوحدات حماية الشعب، كان من شأن السيطرة على منبج أن يكون قد أنجز مهمة تركيا المعلنة ذاتياً المتمثلة في إجبار المقاتلين على العودة إلى ما وراء نهر الفرات، لكنه أيضاً عقد الاستراتيجية الأمريكية في البلاد.

   التحليل السليم محوري

من الواضح أن أعمال تركيا في سوريا تفيد "أردوغان" عن طريق صرف الانتباه عن المشاكل الاقتصادية في البلاد بينما يحشد قاعدته القومية، ومع ذلك، فقد وصل "كوك" إلى تحليل متناقض، حين قال: "الأتراك الغاضبون على نحو مفهوم خافوا من أن الولايات المتحدة تجلب دولة إرهابية على حدودها"، وفي نفس الوقت يلومهم على التصرف على النحو الذي يجنبهم هذه المخاوف لمنع عدوهم من إقامة دولة بحكم الواقع على حدودهم.

 

ليس هناك شك في أن تركيا مسؤولة عن العديد من المشاكل التي جلبتها على نفسها بقراءتها الخاطئة للظروف في سوريا وأوهامها الممجدة للذات في حزام سني مستوحى من "أردوغان" في شرق البحر الأبيض المتوسط، وهناك الكثير مما يمكن انتقاده بشأن الممارسات الخاطئة في السياسة الخارجية في أنقرة، والكوارث التي تسببت بها لنفسها، وسوء إدارتها الشامل، بما في ذلك علاقاتها مع أكرادها، لا شئ من هذا مع ذلك، يمكن أن يعفي من خطأ تحليل موقف أنقرة، وليس كل ما تفعله خاطئ.

إن خلط حقائق شر "أردوغان" مع أوهام منتقديه لا يتوقف عند كونه مجرد طيش، بل إنه يعوق السياسات السليمة والعقلانية التي تحتاج إليها الولايات المتحدة وتركيا للتعاون حيث تتقارب مصالحهما، ولإدارة الخلافات حيثما تختلفان، وفي حين أن التحالف بين الولايات المتحدة وتركيا ليس بالأمر السهل، فإن كلا البلدين سيجد الحياة أكثر صعوبة بدونه.