يرويها عبدالرحمن البيضاني نائب رئيس الجمهورية الأسبق

الثلاثاء 05 أغسطس-آب 2008 الساعة 04 مساءً / مأرب برس - الخليج
عدد القراءات 5869

“النهضة والحضارة مناهج لمقومات تنبثق من ظروف كل أمة، بعد أن تستفيد قدر ما تستطيع مما وصل إليه العلم” في شتى المجالات. من هنا كان يقين عبد الرحمن البيضاني، نائب رئيس الجمهورية ورئيس وزراء اليمن الأسبق، بأن دراسته في مدرسة التجارة المتوسطة لا تمكنه من الاشتراك مع غيره في إصلاح اليمن، فالأمر كما رأى في ذلك الوقت، يحتاج إلى دراسات مستفيضة في العلوم القانونية والشرعية، لذا كان لابد من السعي إلى الالتحاق بالجامعة المصرية وبكلية

الحقوق تحديداً. وفي شهر مارس (آذار) سنة ،1945 أي قبل الامتحان في مدرسة التجارة المتوسطة، بعد أن وصل فيها إلى السنة الثالثة، قرر أن يترك كل هذا ويعكف على القراءة في دار الكتب المصرية، ويجمع كتب المدارس الثانوية، لينجح في امتحان الثقافة العامة نظام الأربع سنوات في امتحان واحد. والتحق بكلية الحقوق، ليحصل بعد العام 1949 على دبلوم الفلسفة والمنطق وعلم النفس في الجامعة الأمريكية، بعدها بعام حصل على ليسانس الحقوق.

وصلت برقية من الإمام أحمد تامر بوصوله إلى اليمن لمقابلته، ثم أمر بتعيينه مستشارا للمفوضية اليمنية بالقاهرة، وتقرر عقد اجتماع قمة من رؤساء الحكومات العربية، وكان الإمام أحمد لا يخرج من اليمن فأناب عنه السيد علي المؤيد لتمثيل اليمن في هذا المؤتمر وتصادف أن أصيب بالتهاب في صدره، فأناب البيضاني عنه، وكان عمره آنذاك 26 عاما.

وكان الأمير البدر يتطلع إلى خلافة والده، في منافسة عمه، فأقنعه البيضاني بأن الشباب الذين يتعلمون في مصر يتطلعون إليه ولياً للعهد مقتنعين بأنه الأفضل للقيام بإصلاح اليمن، فهو شاب يمكن إقناعه بحتمية النهضة، وعندما اقنع البيضاني “الإمام” بحتمية الإصلاح الاقتصادي طلب منه خطة إصلاح شامل، فألقى خطابا في ميدان تعز، بحضور الإمام، يبشر فيه بعزم الإمام على اتخاذ إجراءات إصلاحية كبرى.

وعندما قامت ثورة 23 يوليو (تموز) في مصر أراد الإمام أن ينشئ علاقة خاصة مع قادة الثورة المصرية، كي يقنع الشعب اليمني بأنه اختار اللحاق بمسيرة الإصلاح، فاستدعى “البيضاني” في 24 ديسمبر 1952 وأمره بأن ينقل رسالة إلى القيادة المصرية لإنشاء علاقة خاصة بين اليمن وقادة الثورة.

وكان المصريون لا يعرفون أهداف الإمام من تلك الخطوة، وأثناء اجتماع مغلق مع الإمام ضمه والمقدم كمال عبد الحميد مدير الشؤون العربية بمجلس قيادة الثورة والبيضاني، انتقل الأخير إلى الحديث عن الأمير البدر وولاية العهد، ولما ابتسم الإمام اقترح البيضاني على الإمام أن يطلب من مصر بعثة عسكرية لتدريب نواة جيش يساند ابنه، وهمس في أذن الإمام بأنه إذا استجابت مصر وأرسلت بعثة تدريب عسكرية، فإنها تكون قد عبرت عن استحسانها لولاية ابنه في مواجهة عمه، فطلب الإمام من المقدم كمال أن يحمل هذا الرجاء إلى قادة الثورة المصرية، وأصدر أمرا بتعيين البيضاني نائبا لمندوب اليمن لدى جامعة الدول العربية.

يقول البيضاني استجاب الرئيس عبد الناصر لطلب الإمام وأرسل إلى اليمن أول بعثة عسكرية مصرية مع أسلحة هدية، وكان ضابط الاتصال بين القيادة المصرية والإمام الملازم محمد فائد سيف أول خريج يمني في الكلية الحربية ثم عضو مجلس قيادة الثورة اليمنية فيما بعد، وطبقا لوجهة نظر البيضاني فإن بناء جيش حديث أول الطريق إلى الإصلاح حيث كان جنود الإمام جماعات متفرقة من قبائل تتميز بصراعات مستمرة يغذيها الإمام ضمن قواعد حكمه.

استمر تدريب نواة الجيش اليمني بضعة أشهر حتى عاد الإمام سيرته الأولى فاستدعى البيضاني، وكلفه برجاء مصر أن تسحب بعثتها العسكرية فزار الرئيس عبد الناصر عام 1955 وأوضح له استحالة إصلاح اليمن إلا بقيام ثورة جذرية جمهورية تعتمد على جيش حديث فأحاله إلى السادات (سكرتير عام المؤتمر الإسلامي آنذاك) ليتولى معه متابعة شؤون اليمن.

يقول البيضاني: “توطدت علاقتي مع السادات وكنا نلتقي يوميا في بيت أحدنا، وكنا متفقين على استحالة تحقيق أي قدر من النهضة في ظل النظام الإمامي ولذلك كان لابد من قيام ثورة جذرية جمهورية في اليمن، وكان ذلك أمرا مستحيلا بغير أسلحة ثقيلة، أما نقلها إلى اليمن فكان كذلك مستحيلا حيث كان ميناء الحديدة يصلح فقط لاستقبال السفن التي كانت ترسو على بعد نحو مائة متر من الشاطئ الضحل”.

ولاحت فرصة بناء ميناء الحديدة عندما كلف الإمام البيضاني برئاسة وفد اقتصادي لتوقيع اتفاقية اقتصادية مع الحكومة اليابانية، واستمرت المفاوضات أسبوعين، استمال خلالها البيضاني اليابانيين إلى استئناف شراء الملح من اليمن شرط القيام ببناء ميناء الحديدة، حتى يظهر اسم اليمن ضمن قوائم الموانئ الدولية التي تصدر سلعا إلى اليابان، وكان البيضاني يعلم أن الإمام رفض ذلك لأنه يريد استمرار عزلة اليمن عن العالم ضمن قواعد حكمه، لكنه أمام إغراء بيع الملح إلى اليابان، وهي الدولة الوحيدة التي تستورده، سوف يقبل هذا الشرط على مضض لأن إيراد الملح كان يدخل إلى خزينته الخاصة.

عندئذ لاحت الفرصة الذهبية التاريخية لإدخال أسلحة حديثة إلى اليمن، وما يترتب على ذلك من تدريب الجيش اليمني عليها ثم تنظيمه وتثقيفه ونشر الوعي بين أفراده فأقنع البيضاني البدر بأهمية السعي إلى الحصول على أسلحة من الاتحاد السوفييتي لحمايته باسم حماية اليمن من الاعتداءات البريطانية على اليمن انطلاقا من جنوبها المحتل.

وانضم البيضاني إلى وفد على رأسه “البدر” في الاتجاه إلى موسكو، وعلى مائدة العشاء كان الجميع في ضيافة خروشوف، ووقف البدر يلقي كلمة ارتجالية قال فيها إنه لا يستغرب حفاوة حكومة الاتحاد السوفييتي به والتفاف الشعب السوفييتي حوله حيث تجمع بين اليمن والاتحاد السوفييتي صفات مشتركة فعلم الاتحاد السوفييتي لونه أحمر وعلم اليمن لونه أيضا أحمر، وأكثر من ذلك تقع اليمن على شاطئ البحر الأحمر.

وقام البيضاني بترجمة كلام البدر بعيدا عما قاله، بحيث صفق خروشوف طويلا وشد على يدي البدر مؤكدا له تأييده المطلق، وعلى الجانب الآخر كانت بريطانيا حانقة على مصر، فأطلع “ايدن” رئيس الوزراء البريطاني السيد حسن إبراهيم وزير اليمن المفوض في لندن، على نيته إسقاط ناصر، وفوض بنقل بشرى إسقاط عبد الناصر إلى الإمام أحمد وتحذيره من وصول أسلحة سوفييتية إلى اليمن.

وفي تلك الأثناء تلقى البدر برقية شديدة اللهجة من الإمام أحمد يستنكر فيها إقدام الوفد على طلب سلاح من الاتحاد السوفييتي، وعند العودة إلى اليمن كان الإمام ثأئراً فحاول البيضاني تهدئته قائلا: “إن الأسلحة عندما تصل إلى الشاطئ ستظل مفككة داخل صناديقها، أي مجرد قطع من حديد، وأنها لا تصبح أسلحة إلا بعد إخراجها من صناديقها وتركيبها، ثم تدريب البشر على استخدامها وكل ذلك مرهون بإرادة الإمام”.

يقول البيضاني: تنازعت الإمام عواطف مختلفة، وتجاذبته مشاعر متعرضة كان يكره اعتداءات الإنجليز العسكرية من عدن ويكره نداءات عبد الناصر القومية من القاهرة، كان وطنيا في مواجهة الإنجليز، وانعزاليا في مواجهة الرئيس عبد الناصر. وعندما انتصرت مصر على العدوان الثلاثي في 1956 بدأ الإمام أحمد بتكيف الأوضاع العربية والدولية الجديدة، ووقف يخطب في الناس في مدينة الحديدة قائلا: “انتظروا صيحتي الكبرى”، وكان يقصد الزحف على عدن، حيث كان متأثرا بالمناخ العربي القومي الذي أظهر تضامنه في مواجهة العدوان الثلاثي على مصر، ووقعت معارك على أطراف اليمن في الجنوب والشرق.

وكان البيضاني في ألمانيا يقيم المؤتمرات الصحافية يشرح فيها عدوان الطائرات البريطانية على بعض مواقع اليمن وهدم البيوت وسقوط الأنقاض فوق الضحايا ومعظمهم كما كان الإمام يقول في برقياته من النساء والأطفال والشيوخ، وفي القاهرة كان عبد الرحمن أبو طالب وزير اليمن المفوض في القاهرة يعد دفاتر للمتطوعين العرب الذين سدوا منافذ المفوضية مطالبين بتسفيرهم إلى اليمن لإنقاذ إخوانهم اليمنيين، كما يقول البيضاني.

وفجأة وصلت برقيتان من الإمام أحمد إلى البيضاني وأبي طالب تأمرهما بالكف عن عداوة بريطانيا، وإيقاف الحملة الصحافية ضدها وعدم التصريح بشيء، وجرى استدعاء البيضاني الذي وصل إلى اليمن في 24 يناير (كانون الثاني) ،1957 ووجد الإمام غاضبا بغضب بريطانيا، وقال إنه ما كان ينبغي على البيضاني أن يحمل على بريطانيا كل هذه الحملة، لأنه يستعد لمهاجمتها في قلب عدن، ولا يريد أن يلفت نظرها بالدعاية الصحافية، كان يتكلم بصراحة عن عزمه على غزو عدن.

 وبعد نقاش طويل اقتنع الإمام بأهمية تدريب الجيش اليمني على الأسلحة الحديثة التي وصلت من الاتحاد السوفييتي كمخرج من المأزق الذي وضع نفسه فيه عندما أعلن للناس قائلا: “انتظروا صيحتي الكبرى” لأن تدريب الجيش سيحتاج إلى وقت يتحكم فيه الإمام كما يشاء، فضلا عن أن الانتظار حتى يتم بناء ميناء الحديدة لاستقبال الأسلحة الثقيلة يحتاج إلى وقت أكبر.

واقترح البيضاني أن يستثمر الانتصار المصري العربي على العدوان الثلاثي، ويطلب من الرئيس عبد الناصر مدربين مصريين لتحقيق رغبة الإمام في التصدي للاستعمار البريطاني في جنوب اليمن، ووصلت البعثة العسكرية المصرية الثانية إلى الحديدة، في منتصف فبراير (شباط) ،1957 دون أن يلتقي الإمام أفرادها، إلى أن جاء محمد حلمي عراف الإمام إلى البيضاني، وكان الإمام تعود على أن يستشير حلمي ويأخذ رأيه الفلكي في جميع قراراته وتحركاته، وأبلغ حلمي “البيضاني” بأن أعداء النهضة زرعوا في قلب الإمام الشك في نتائج تدريب الجيش، لاسيما على أيدي ضباط مصريين تعلموا الثورة من الرئيس عبد الناصر، ورفاقه، وسوف يحملون روحها إلى أفراد الجيش اليمني مما يشجعهم على الانقلاب على الإمام.

وكان الإمام تأخر في السماح لرجال البعثة العسكرية المصرية بمقابلته انتظارا لمعرفة حكم النجوم، وكان طلب معرفة ذلك فعلا من محمد حلمي، الذي أعد تقريرا يرد على استفسار الإمام بشأن حكم النجوم على نشاط البعثة العسكرية المصرية، وعلى أثر ذلك استقبل الإمام رجال البعثة وأبدى لهم كامل ثقته في عملهم وطلب من رئيسهم أن يعد تقريرا يتضمن مقترحاتهم الخاصة بمهمتهم.

يقول البيضاني: “قامت البعثة بوضع برنامج تدريب مكثف يحتاج إلى اثني عشر شهرا، لكن البعثة أتمته في ثلاثة أشهر فقط، لأنها كانت في سباق مع الزمن، حيث كان لزاما أن تكمل تدريب هذا الفوج قبل أن يوسوس المغرضون في أذن الإمام مرة أخرى بوقف التدريب، واحتفل البدر بتخريج أول فوج على يد البعثة العسكرية المصرية وهو فوج البدر، ثم عملت البعثة على إعادة فتح الكلية الحربية قرب نهاية عام ،1958 بعد أن أغلقها الإمام أحمد سنة 1948 إثر انقلاب عبد الله الوزير.

وتمكنت البعثة المصرية من إقناع الإمام عن طريق البدء بإنشاء مدرسة لضباط الصف ومركز لتدريب الجنود على الأسلحة المختلفة وبعد ذلك تم إنشاء مدرسة أسلحة للتدريب على المدرعات بعد أن استغنى الإمام عن المدربين الروس واكتفى بالبعثة العسكرية المصرية، التي أنشأت مدرسة للطيران.

في صيف 1959 سافر الإمام أحمد إلى روما للعلاج من أمراضه المستعصية، بعد أن أسند أعمال الدولة إلى ابنه البدر، الذي ألقى خطابا في حفل أقامه الجيش تكريما له، فندد بسياسة والده الإمام وأعلن عن عزمه القيام بإصلاحات نهضة اليمن وتأسيس أول مجلس نيابي، كان البدر يعتقد أن والده يلفظ أنفاسه الأخيرة فأراد أن يثبت أنه داعية مساواة ووحدة وطنية، على خلاف عمه الذي كان ينافسه على الإمامة.

لكن البدر استعجل فاندفعت في “تعز” عناصر معادية لهذه الإصلاحات، وحدثت حرائق وقتل، وفي تلك الأثناء وصلت إلى صنعاء شخصيات قبلية اتفقت على تفويض الشيخ الشاب حميد بن حسين الأحمر لتمثيلهم لدى البدر والتعبير عن مطالبهم وإصرارهم على الإصلاح الذي يريده الشعب وأعلنت البدر، فازداد الموقف تعقيدا.

وصلت هذه الأخبار إلى حاشية الإمام أحمد في روما، الذي أصر على أن يعود إلى اليمن، لمحاكمة من وصفهم بالمجرمين الذين وقفوا مع ابنه البدر، فيما أعلنه من إصلاحات، وطلب البيضاني مهلة حتى يلحق بالإمام في اليمن فرجح الأخير انه يفتعل المرض حتى لا يتولى رئاسة المحكمة، فأمر بنقله سفيرا في السودان.

 وعندما وصل الإمام إلى ميناء الحديدة حشد البدر جمهورا كبيرا لاستقباله، لكن الإمام صفع البدر على وجهه عدة صفعات أمام جموع المستقبلين، واستدعى الإمام “البيضاني” بعد 13 يوما من اعتماد أوراقه من قبل الفريق عبود رئيس السودان، ليعين ضابطا لمكافحة الجراد الصحراوي في منطقة تهامة، وكان الإمام يقيم في قرية السخنة للاستشفاء وذهب إليه مشايخ وزعماء قبيلة حاشدة لاستصدار عفو عن الشيخ حميد بن حسين الأحمر ووالده، لكنه صاح فيهم: “والله لأملأن هذه السيارة برؤوسكم إذا لم تعيدوا إلي الخمسة ملايين ريال التي أعطاها لكم البدر”، كما طالبهم بإعادة الأسلحة التي كان البدر قد وزعها عليهم.

كما أمر بمصادرة ممتلكات الشيخ حسن الأحمر وأسرته والاحتفاظ بابنه الشيخ عبد الله الأحمر (رئيس مجلس النواب الراحل فيما بعد) رهينة تحت الحراسة في “السخنة” ثم أرسل بعض المشايخ إلى الحديدة، وقبل أن يصلوا إليها كان القتل من نصيبهم، وأمر الإمام البيضاني بأن يذهب للإقامة في دار الضيافة بالحديدة، وبعد وساطات صدر قرار الإمام بتعيينه مستشارا اقتصاديا له بدرجة وزير.