الشارع الرئيسي في المعلا.. الأمل يفرد ذراعيه مجددًا !

السبت 02 يونيو-حزيران 2012 الساعة 05 مساءً / مأرب برس/ الجمهورية/ بديع سلطان
عدد القراءات 18890

 

في بداية خمسينيات القرن الماضي ردم الاحتلال البريطاني الرصيف المخصص لرسو السفن أسفل عقبة عدن التاريخية فيما يسمى اليوم بـ”الدكة”، بهدف شق أطول شارع في عدن بنيت على ضفتيه وبامتداد كيلو مترين أكثر من مائة عمارة حديثة وفق مواصفات العمارة في المدن الأوروبية آنذاك، بني الشارع الجديد لاستيعاب عائلات الجنود البريطانيين، وأطلق على الطريق اسم “ MAIN ROAD ” أو الشارع الرئيسي، ولم يكن له مثيل في الجزيرة العربية والخليج، تغير اسم الشارع عقب الاستقلال الوطني من الاحتلال البريطاني في نهاية الستينيات ليصبح اسمه “ شارع الشهيد مدرم”.. الشارع ظل على امتداد ستة عقود، معلماً من معالم مدينة عدن، وشاهد على مدنيتها التي سبقت أرقى المدن في البلدان المجاورة، وقبل أن يتطاول سكان الصحراء في بنيانهم الذي بلغ عنان السماء اليوم، كانت مباني عدن تمتشق طريقها نحو الأعالي منذ ما يزيد عن ستين عاماً، حتى بات الشارع الرئيسي “ شارع الشهيد مدرم” في مديرية المعلا جزءا من هوية المدينة التي كانت ذات يوم حلماً تجارياً واقتصادياً وحضارياً لمن حولنا.

 ولم يشهد الشارع الأعرق في المنطقة أن تعرض للإغلاق على امتداد تاريخه، بل كان على الدوام فارداً ذراعيه لكل من ولى ويمم وجهه قبله، غير أن الأحداث التي شهدتها اليمن في أواخر فبراير من العام الماضي وما نتج عنها من اضطرابات في مدينة عدن كان الشارع الرئيسي مسرحاً لبعضها دفعت البعض ممن اعتقدوا أن لهم الحق في مصادرة تاريخ وهوية بحجم هذا الشارع إلى إغلاقه، ناسين أو متناسين أن الشارع ملك للجميع ولا يملك أحد مصادرة هذا الحق.. الأمر الذي جعل من الشارع بؤرة توتر هددت أمن مديرية المعلا، ومحافظة عدن، وحولت التاريخ التي تشبعت به جنبات الشارع وبنياته إلى مجرد “ وكر للمخالفين والخارجين عن القانون” على حد وصف وزير الدفاع اللواء ركن محمد ناصر أحمد في تصريحات صحفية.. أكثر من عام والشارع العتيق يرزح تحت تهديد حملة الأسلحة الذين بثوا الرعب على الأرصفة والأزقة، غير آبهين بالأرزاق التي تسببوا بقطعها أو بالأمان الذي تسببوا باغتياله في أحداق الأطفال، هذا الوضع فرض تدخلاً سريعاً يعيد للشارع تاريخه وهويته وقيمته قبل أمنه واستقراره.

 إرهاصات لإعادة الحياة

منتصف مايو شهد حراكاً سياسياً وشعبياً توج باجتماع ترأسه وزير الدفاع بحضور محافظ المحافظة وقيادات محلية في مديرية المعلا، بالإضافة إلى قيادات وشخصيات توصف بـ “الجنوبية” عبرت عن رفضها لاستمرار وضع الشارع أو لمجرد استغلاله في مناكفات سياسية أو حتى مطالب مشروعة، وخرج الاجتماع بتشكيل لجنة من الشخصيات الاجتماعية في مديرية المعلا للتحاور مع الشباب الرافضين لفتح الشارع، وفي ظل رفض الشباب لأي تحاور أو تفاوض ونتيجة لتمسكهم بشروط ليس مكانها الشارع بقدر ما يكون مكانها القنوات القضائية والأمنية، تم في صباح يوم الجمعة الثامن عشر من الشهر اقتحام الشارع من قبل قوات الأمن وعمال النظافة في عدن لإعادة الحياة للشارع.. ورغم محاولات من قبل الشباب المستفيد من بقاء الشارع في حالة موت سريري، إلا أن إجراءات بعث الحياة للـ” MAIN ROAD ” استمرت ولم يصبح اليوم التالي إلا وأبواق السيارات تزف لأبناء عدن أنباء الفرحة بعودة الحركة على عتبات تاريخ عريق تضمه ضفتا الشارع العتيق.

 خوف وخسائر

 “الجمهورية” زارت الشارع صباح يوم السبت “ اليوم التالي لفتح الشارع وعودة الحياة إليه” والتقت بعدد من أصحاب المحلات التجارية الصغيرة والمواطنين وعدد من النساء، حيث عاد كل منهم إلى ممارسة ما كان يمارسه قبل أكثر من عام، بعد أن تسبب إغلاق الشارع بالخسائر المادية للتجار وملاك الفنادق وممثلي أعرق الشركات العالمية في عدن، بالإضافة إلى تسبب هذا الإغلاق في انعدام الأمن وبث الخوف والرعب من مسلحين سيطروا على أرصفة وتقاطعات وأزقة الشارع.

 مشاهدات

 كان لافتاً للنظر تمركز رجال المرور على تقاطعات الشارع، كما لو أنهم لم ينسوا ـ على ما يبدو ـ أن يمارسوا حزمهم وانضباطهم المعهود وفرض قراراتهم على كل من يخالف أوامرهم وتوجيهاتهم الأمر الذي انعكس على حركة المركبات وسيارات الأجرة، التي انصاع سائقوها وكأنهم في انتظار من يقودهم صوب السلامة، منظر لافت آخر كان جلياً من خلال حضور مراسلي القنوات الفضائية والصحفيين وهم يجرون اللقاءات والحوارات مع المواطنين وأصحاب المحلات، بالإضافة إلى حركات المصورين المتنقلين من مربع إلى آخر وهم يوثقون بكاميراتهم الحركة الطبيعية التي فاض بها الشارع.

 الشركات العملاقة التي اتخذت، على مدى عقود، من الشارع الرئيسي مقرات لفروعها في عدن عادت هي الأخرى للحياة، في مشهد لا يمكن أن تغفله العين، وبعد يوم واحد فقط من فتح الشارع، ولسان حالهم يُخبر عن انتظار طال.. أهم من ذلك انطباعات من قابلتهم “الجمهورية” في الشارع، فبعد أن ولجنا أحد محلات الاتصالات ومستلزمات الهواتف الجوالة، كان البائع الشاب منهمكا بالمفاصلة مع إحدى الزبائن، فلم نكن لنخوض في تلك المفاصلة إلا بعد انقضائها، حينها أدلى البائع الشاب عماد بن صالح بانطباعاته حول عودة الحياة إلى الشارع الرئيسي حيث استهل حديثه متغزلاً بتاريخ عدن وتاريخ شارع مدرم التاريخي قائلاً: عدن جوهرة اليمن ولؤلؤة الخليج، عدن التاريخ والحضارة ومدينة الحاضر والمستقبل، عدن مدينة الحب والسلام، ويعتبر الشارع الرئيسي من أهم الشوارع في عدن الذي تتجسد فيه كل تلك المعاني.

وعن إغلاق الشارع منذ أكثر من عام قال: إن بريطانيا التي احتلت عدن لأعوام لم تغلق الشارع الرئيسي في تلك الفترة، وبدأت ثورة إسقاط النظام في اليمن في تاريخ الثاني من فبراير من العام الماضي، وفي يوم الجمعة الموافق الخامس والعشرين من الشهر ذاته في نفس العام أغلق هذا الشارع الرئيسي نتيجة اقتحام الشارع من قبل جنود أمن النظام السابق وراح ضحية هذا الاقتحام العديد من الشهداء والجرحى وسميت المعلا باسم “المعلا الصامدة”.

سوق للسلاح والحبوب

ويمضي عماد معلقاً: سقط النظام واستمر الشارع مغلقاً ونتيجة إغلاق الشارع لمدة عام وثلاثة أشهر تقريباً ظهرت العديد من الإشكاليات مثل: السرقة والتخريب واقتحام المحلات التجارية المغلقة وترهيب الساكنين في المنطقة، وأصوات الرصاص حلت محل أبواق السيارات التي هجرت الشارع، وانتشار المسلحين استتبع انتشار الحبوب المخدرة في أوساط الشباب، بالإضافة إلى بيع الحشيش أمام الناس جهاراً، وبات الشارع مكانا لبيع السلاح والمخدرات في ظل غياب سلطات الأمن، كل ذلك أدى إلى إرغام بعض المحلات على إغلاق مصدر رزقها نتيجة نقص الدخل في المحلات وعدم توفر قوة شرائية نتيجة إغلاق الشارع من بعض البلاطجة، ومن حينها تحول اسم المعلا الصامدة إلى “المعلا السرق”، وأدت كل تلك الإشكالات إلى عدم وصول الخدمات إلى الشارع، فتوفيت امرأة وابنها نتيجة تأخر سيارة الإطفاء بعد اندلاع حريق بشقتها في إحدى بنايات الشارع، وذلك بسبب إغلاق الشارع من جميع الاتجاهات.

الوضع الطبيعي

ويواصل عماد حديثه وهو أحد أصحاب المحلات بالإضافة إلى أنه من سكان الشارع قائلاً: ولكن بحمد الله وفضله وبجهود وزير الدفاع وقيادات المحافظة وشباب المعلا وبالذات الشاب “مياس حيدرة” الذي تعرض للعديد من التهديدات من البلاطجة تم فتح الشارع الرئيسي وبدأت الحياة تعود لطبيعتها وعمت الفرحة في قلوب كل الساكنين في المنطقة وخارج المنطقة، ولم يتبق سوى إصلاح الحواجز الحديدية وتوفير رجال المرور لإعادة ضبط الحركة في الشارع لعدم حدوث مكروه لا سمح الله وملاحقة البلاطجة والقبض عليهم في أقرب وقت ممكن لتعود الحياة إلى ما كانت عليه وتعود المعلا إلى رونقها الطبيعي خالية من السرق والبلاطجة والمخربين.

الأمن قبل الأمان

كان قابعاً وسط فواكه وخضروات بدأت أيادي الزبائن تمتد نحوها بالشراء بعد شهور من الكساد بسبب وضع الشارع المزري، إلا أنه ظل متمسكاً وماكثاً في دكانه الصغير جداً، يبيع ثمار الفاكهة ويحلي مذاقات الناس رغم المرارة التي يعيشونها.. علي اليمني تاجر فواكه وخضروات في الشارع الرئيسي، أحد الذين تأثروا بإغلاق الشارع، لكنه ظل هناك يترقب لحظات الأمل في العودة القريبة للحياة تدب من جديد على أرصفة الطريق العتيق، لتعود إلى دكانه الصغير أهميته في المنطقة، ظل طيلة تلك الفترة يتمسك بأمله ذاك غير آبهٍ لانتهاكات المسلحين ولا لقلة المشترين والزبائن.. يقول الحاج علي ـ في عقده الخامس ـ : فتح الشارع أعاد لمصدر رزقنا الحياة مرة أخرى، ولم يجن أهالي المعلا من إغلاق الشارع سوى “البوار” بالنسبة للتجار أو الخوف والرعب بالنسبة للأطفال والنساء، والحمد لله أننا تمسكنا بالبقاء في المحل ولم نتركه كما ترك غيرنا محلاتهم ومتاجرهم بسبب الخوف وانعدام الأمن.

واختتم حديثه معنا بحكمة تؤيدها تجاعيد الزمان وتجاربه: “يابني الأمن قبل الإيمان” ولايمكن لأحد أن يعمل ويشقي دون أمان.

حركة تجارية

صاحب محل البهارات على الضفة اليسرى للشارع سعيد الحضرمي أكد أن الكثير من أصحاب المحلات أغلقوها وصفوا تجاراتهم في الشارع بسبب الأوضاع الأمنية التي شهدها، وقال: لم تفلح الزيارات التي قام بها عدد من التجار إلى ديوان المحافظة للالتقاء بقيادة السلطة المحلية والدعوة لإعادة فتح الشارع، غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث بسبب عدم جدية البعض في حل مشكلة الشارع إذ يبدو أنهم كانوا مستفيدين من هكذا وضع.

وأضاف سعيد: خلال اليوم الأول من فتح الشارع شهدنا حركة تجارية لم يشهدها الشارع، الذي يعتبر شارعاً تجارياً بامتياز، منذ أكثر من عام، وما ذلك إلا بفضل الله ثم بفضل الشخصيات المحلية والقيادية والاجتماعية التي أسهمت في إرجاع الشارع إلى حالته الطبيعية مما سيساعد على إعادة الاستثمار وعودة الشركات والمحلات والفنادق التي هجرت الشارع.

رعب

في كل محل كنا ندلفه نقابل عددا من النسوة يبتعن أغراضهن، فكان أن تحدثت بعضهن معنا على هامش لقاءاتنا مع أصحاب المتاجر، حيث أجمعن على أنهن لم يكن يجرؤن على الخروج من منازلهن بمفردهن خلال فترة إغلاق الشارع بسبب تواجد المسلحين و”المحببين” ـ أي متعاطي الحبوب المخدرة ـ وقلن: كنا لا نخرج من العمارات إلا برفقة أحد الرجال أو الشباب من محارمنا، حتى إن الأطفال لم يكونوا ليذهبوا إلى مدارسهم بشكل طبيعي إلا برفقة آبائهم أو إخوانهم الكبار.. وأضفن: أطفالنا حرموا من مدارسهم ومن التعليم، بل حتى حرموا من اللعب بأمان بسبب وجود المسلحين، كنا نخشى عليهم من أصوات الرصاص والمظاهرات التي غالباً ما تنتهي باشتباكات بين المتظاهرين أنفسهم أو حتى بينهم وبين متظاهرين من أطراف أخرى أو جنود الأمن.

من أجل الوطن

ونحن نقول: ومهما كانت الأسباب أو المطالب الحقوقية التي تسببت بإغلاق شارع عتيق بحجم الشارع الرئيسي إلا أن تلك المطالب لاتحل ولا تحقق بإغلاق الأماكن العامة أمام مصالح الناس والمواطنين، بل لها قنواتها وطرقها الخاصة، ومن الضرورة على السلطات المحلية، بل وعلى قيادات الدولة بدءاً برئيس الجمهورية إيجاد حلول وتعويضات مرضية لأسر وأهالي القتلى والجرحى الذين سقطوا في احتجاجات الشارع أواخر فبراير 2011م، بالإضافة إلى سرعة ضبط المتسببين بإصدار أوامر القتل وإطلاق النار على المتظاهرين السلميين، وتحقيق الأمن والعدالة المنشودة ليمضي الناس في مصالحهم، وعلى أمل إعادة الشارع العام في مديرية المنصورة الذي تتشابه مسببات إغلاقه مع مثيلتها في الشارع الرئيسي بالمعلا رغم الصعوبات الأمنية التي يعانيها الأول عن الثاني.

ويبقى أمن ومصلحة الوطن والمواطنين أولوية قصوى، والحفاظ على تاريخ وهوية مدينة عدن ومعالمها التي أسهمت وستسهم في بناء وطن ينأى به أبناؤه عن العنصرية والمناطقية، والتوجه به نحو التكاتف والتوحد والبناء والتنمية، ورفض العناصر التي لا تعيش سوى بإحداث الصراعات بين الإخوة وأبناء الوطن الواحد.. وربما تبقى تفاصيل الهوية التي تفخر بها جنبات الشارع العتيق شامخة في وجوه المخربين ممن يعيثون في الأرض فساداً مبررين لأنفسهم دعوات التشظي والتفتت، فيما العالم من حولنا يتكتل ويتكاتف، وجدران شارعهم العريق تتحدث عن تاريخ تعلو هامة مجده على دونها من مخططات لا تقوى على الصمود أمام أحلام شعب صارت حقيقة كتب لها أن تبقى للأبد.

اكثر خبر قراءة أخبار اليمن