الثورة اليمنية: لقد خرج القطار عن السكِّة
محمد العبسي
محمد العبسي

"مات فرعون ولم تمت الفرعنة"!

لا الثورة اليمنية، ولا أهدافها البالية، قرآن كريم ولا حديث نبي. لا هي وحي ولا نزلت من السماء بزنبيل. إنها مجرد أفكار نبيلة لها سياقها الزمني والموضوعي المحدد. وإذا كان الكتاب الحكيم قد جرى نسخ بعض آياته، لفظاً وحكماً، فمن باب أولى نسخ أهداف الثورة اليمنية أو بالأحرى تثويرها. لم تعد صالحة. لقد أفرغت من مضامينها. إنها "كرت" مستخدم. بقايا أطلال لا تثير اهتمام مغنٍّ ولا تستحق نواح باك!للثورة اليمنية ستة أهداف صيغت، باستعجال، من أهداف ثورة يوليو بمصر. لست مهتماً كثيراً بطريقة صياغة أهداف الثورة من ناحية لغوية. اللغة آخر اهتماماتي في موضوع الثورة. إن ما ينبغي إخضاعه للقراءة النقدية الجادة هو مضامين أهداف الثورة اليمنية الستة في ضوء عقودها الأربعة. إن أية ثورة ليست قائمة بذاتها وإنما بما حققته على أرض الواقع. اليوم، أما وقد مضى نصف قرن على ثورة الـ26 سبتمبر ينبغي على أي يمني أن يسأل نفسه: لماذا قامت الثورة وعلى أي أوضاع ثارت؟ ماذا الذي وعدت به الثورة فأوفت وما الذي نكثت عنه؟ ما الذي تحقق من أهدافها، كلياً أو جزئياً، وما الذي تعثر؟ بل إن السؤال الأهم: هل النظام القائم وريث الثورة بأهدافها الستة وممثل الجمهورية بقيمها السامية؟ هذه المادة محاولة منقوصة، بحكم الاستعجال، للإجابة على هذه الأسئلة. 

أهداف الثورة اليمنية:

1- التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما وإقامة حكم جمهوري عادل وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات.

2- بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها.

3- رفع مستوى الشعب اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً.

4- إنشاء مجتمع ديمقراطي ثقافي عادل مستمد أنظمته من روح الإسلام الحنيف.

5- العمل على تحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة.

6- احترام مواثيق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والتمسك بمبدأ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز والعمل على إقرار السلام العالمي وتدعيم التعايش السلمي بين الأمم.

الهدف الأول:

أ- التحرر من الاستبداد والاستعمار ومخلفاتهما: أسقطت الإمامة والاستعمار وقامت مخلفاتهما!

أما الشق الأول "التحرر من الاستبداد والاستعمار" فنعم. وأما تكملتها "مخلفاتهما" فلا. إن النظام الجمهوري القائم هو نظام مخلفات بامتياز. لقد سقط نظام حكم الإمام ولكن لم تسقط أدواته. وتم الجلاء البريطاني ففرغت الساحة وإذا بالرفاق ينكبون على قتال بعض.

إن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن ثوار الشمال تقاتلوا فيما بينهم البين أكثر مما قاتلوا الإمام وفلوله. وكما في الشمال تكررت البشاعة في الجنوب. لقد تقاتل ثوار أكتوبر وأوشك بعضهم على إفناء بعض أكثر مما كان منهم في قتال الجيش البريطاني. ودارت العجلة.

في الشمال عاد، مع المصالحة الوطنية، رموز ما قبل ثورة 26 سبتمبر إلى المشاركة النسبية في السلطة. وفي الجنوب عاد رموز نظام ما قبل ثورة 14 أكتوبر إلى المشاركة النسبية في السلطة أيضاً إنما بعد زمن طويل. وما عودة الملكيين كعودة السلاطين. ولا عودة يحي المتوكل كعودة طارق الفضلي. كلا. فلا الثانية قامت على أساس المصالحة الوطنية (ألهذا تفجرت في أحداث يناير 86م؟) ولا الأولى، وإن وسعت نطاق المشاركة، حالت دون إطلاق العنان للقوى التقليدية حتى أن بعض مشائخ بكيل ممن شملتهم المصالحة فاق نفوذه اليوم، فيما يفترض أنه عهد جمهوري، نفوذه في العهد الإمامي ذاته. وبشكل فج أيضا.

ينبغي الإقرار بحقيقتين: الأولى أن النظام الجمهوري القائم وقتها، في الشمال والجنوب، لم يكن جمهورياً خالصاً حتى يقال إنه فقد معدنه الثوري بعودة أسر، مالكة أو نافذة، من حقبة ما قبل الثورتين ومشاركتها في السلطة. الثانية: أن عودة الأسر الملكية، أو رموزها، كأشخاص عمل محمود بالتأكيد. أقلها لأنهم يمنيون وهذه بلادهم. المذموم هو إعادة إنتاج أدوات حكم ما قبل الثورة بعدها بصيغ جمهورية وهذه الحاصل اليوم: إعادة إنتاج مخلفات نظامي الإمامة والاستعمار جمهورياً رغم سقوطهما.

الأسباب كثيرة: إن ألغام المملكة المزروعة في اليمن، حسب تعبير الملك فيصل، وحصار صنعاء دفعا النظام الجمهوري في الشمال إلى المصالحة الوطنية. تمثيل الملكيين في السلطة كان إيذاناً بفتح صفحة جديدة بيد وتمزيقاً لصفحات أخرى بيد. وكان إعادة إنتاج للقوى التقليدية بكلا اليدين!

عودة سلاطين الجنوب، نفوذاً لا أشخاصاً، لها أسباب أخرى ليس أحدها المصالحة الوطنية: لا شعاراً، كما في الشمال، ولا مضموناً. فمع الوحدة (يحلو للبعض تسميتها الثورة الثالثة) وبسبب ظروف حرب 94م، أو إعداداً لها، قام نظام صنعاء باستقدام أمراء سلطنات الجنوب من الخارج. تلك طريقته المفضلة: إنه الـ"كرت" المناسب.

لقد أعاد نظام الرئيس علي عبدالله صالح، مع الوحدة، أمراء سلطنات ما قبل ثورة 14 أكتوبر لمواجهة شريك الوحدة الاشتراكي الذي ورث ثورة أكتوبر ومثّلها وكان هو ذاته سبباً في تقويض السلطنات المعاد إنتاجها جمهورياً! لم يكن الحزب الاشتراكي ليفكر في استجلاب أمراء نظام الإمامة، من الخارج، على طريقة شريكه في دولة الوحدة من أجل ضرب الخصم الجديد بالخصم القديم، والثوري بالملكي. وأحيانا يصدق قول زهير: "ومن لا يظلم الناس يُظلم!"

والآن: فلنحصي الخسائر؟ لقد سقط نظام الحكم الإمامي، في الشمال، ولم تسقط أدواته وتعاظم نفوذ مخلفاته: القوى التقليدية. وفي الجنوب عادت الاقطاعيات ما قبل ثورية. بل وقام النقيض على النقيض: شمالاً لم يكن في مقدور شيخ مهما عظم نفوذه أن يأوي مطلوباً من حكومة الإمام. أما اليوم فليمدد أبا حنيفة ساقيه ولا حرج! جنوباً: لو بعث الرئيس سالمين من قبره لا أدري هل كان ليعجب بالشنفرة أم مسدوس؟ الأكيد أنه سيغتم كثيراًَ وهو يرى الأراضي التي تم تأميمها صارت طعمة للنسور الكاسرة!

الشاهد هنا هو: نسخ الأنظمة الجمهورية المتعاقبة بعضها بعضاً. محو قوانين السابق بفرض قوانين معاكسة من اللاحق. كان النظام الاشتراكي، بوصفه جمهورياً، يؤمم الأراضي والعكس: النظام الحالي، وبوصفه جمهورياً أيضاً، يبددها لذم سلوك سلفه. بالغ ذلك في فرض سيادة القانون وبالغ هذا في خرقه. لقد قام النقيض على النقيض. ما يدل، إجمالا، على عدم استقرار العهد الجمهوري.

النهايات المأساوية لرؤساء اليمن، شمالاً وجنوباً، أيضاً دليل دامغ آخر على أن النظام الجمهوري القائم نظام مخلفات بامتياز. أربعة من رؤساء اليمن قتلوا على مرأى ومسمع ومن أقرب الناس (قحطان وسالمين والحمدي والغمشي) ثلاثة نفوا وأجبروا على مغادرة البلد (السلال/ الإرياني/ ناصر). وآخر عالق بين الحقيقة والأسطورة ولا يعرف له قبر إلى اليوم (عبدالفتاح). إن هذه النهايات المتجانسة لرؤساء اليمن، وفق تعبير الزميل لطف الصراري، لهي دليل فشل وبرهان موثوق على عدم استقرار النظام السياسي للعهد الجمهوري بالإجمال: شمالاً وجنوباً. عدم استقرار النظام السياسي للجمهورية هذا أورث دولة الوحدة عاهات مستديمة. إنه، بالنتيجة، فشل عام في الثورة وأهدافها.

ب- إقامة حكم جمهوري عادل

يحضر العدل في منظومة الحكم الرشيد على هيئة: قضاء مستقل، فرص متساوية بين سكان المركز والأطراف، توزيع عادل للثروة والسلطة، سيادة القانون على الجميع بلا استثناء.

والآن على واحدة واحدة:

القضاء: لا القضاء في اليمن مستقل ولا هو أيضاً غير مستقل. يوجد قضاة مستقلون ولكنهم يتحركون في محيط موجه حتى لا أقول غير مستقل. بوسعي القول إن القضاء مستقل والدليل: حكم القاضي باذيب بإخراج المعسكرات من المدن وإدانة رئيس الجمهورية وعدداً من كبار قادة الجيش. والعكس: القضاء غير مستقل والدليل: فصل القاضي من منصبه وتسريحه من الخدمة! إنه بلد النقائض. 

نادي القضاة

سيادة القانون على الجميع: إن موقف القاضي عبدالرحمن الإرياني من رئيس الوزراء في عهده الفريق حسن العمري في قضية قتل مشهورة هو النسخة الجمهورية من موقف الإمام أحمد من قائد جيشه الثلايا في حادثة فلاحي الحوبان. لا أحد فوق القانون. وتطبيق العقوبة على القوي والضعيف والخاصة والعامة على حد سواء وبلا تمييز أو محاباة هو بحق أساس الحكم العادل. إن ما نفذه الإمام بقائد جيشه والقاضي الإرياني برئيس وزرائه عجزت، اليوم، السلطة الوارثة لثورتي سبتمبر وأكتوبر عن تنفيذه في القضايا الخاصة والعامة، والهيّنة والمتعسرة.

إن دولة تعجز أو تتهرب، لأي الأسباب، عن تنفيذ حكم قصاص ليست بدولة. ومن يعجز في الأولى يسهل عليه العجز في الثانية. تلك هي الحقيقة. لقد صار إسقاط هيبة القانون عادة يومية لدى نظام الحكم. أكان بحق قاتل الدكتور درهم القدسي بصفته طبيب، أو بحق منفذ الاعتداء على الدكتور حسن مكي بصفته رجل دولة.

العدالة في الظلم، لدى البعض، عدل. لكن الظلم في العدل بالتأكيد ليس عدلاً. يتساوى في هذا تنفيذ العقوبة على الأفراد أو تنفيذها على الجماعات الخارجة عن القانون أو المخلة بالأمن العام. غير إن عدالة النظام القائم عدالة "مخصخصة" تتبدل حسب تبدل المناطق الجغرافية. في مناطق تشد، وفي مناطق تلين. حتى أنه ليُمنع في بعض مناطق اليمن إطلاق الأعيرة النارية أثناء الاحتفال بالأعراس وهذا حسن. بينما لا تكترث "الدولة" في مناطق أخرى عند استخدام الأسلحة الثقيلة والمتوسطة! للأمر علاقة بثنائية "مطلع" و"منزل".

وهذه عيّنة أخرى: لقد بُعثت هيبة الدولة من مرقدها في قضية "حفار شرعب"، مثلاً، وحضرت على هيئة قوة عسكرية ضاربة لفرض سيادة القانون! وهذا حسن لو طبق على الجميع لكن هيبة الدولة تشخر وتغط في النوم في منطقة أخرى: حفارات طريق الحسينية ذمار مثلاً مقابلاً!

إن سيادة القانون وهيبة الدولة تحضر في الرقعة الجغرافية المدنية بحزم وشدة إلى درجة استخدام العسكر الرصاص الحي في تفريق مظاهرة للمطالبة بتوفير المياه في المعلا. في الرقعة الجغرافية القبلية، شمالاً وجنوباً، العكس: الدولة أعجز من إزاحة برميل قِطاع من الخط العام. (ليس تحريضاَ على مناطق بل نقداً لانفصام الدولة)

العدالة في توزيع الثروة والأرض أيضاً جوهر النظام العادل: إن 5% فقط يملكون 95% من أراضي وعقارات الحديدة. و95% من أبناء الحديدة يملكون 5%. تلك والله قسمة ضيزى. إن من يقرأ تقرير اللجنة البرلمانية حول نهب أراضي الحديدة ويقرأ، في نفس الوقت، الهدف الأول من أهداف ثورة 26 سبتمبر؛ كان ليقول: أحدهما بالضرورة مزور!

الفرص المتساوية بين المحافظات قياساً بمقومات كل محافظة وسكانها: هل فرص شبوة كتعز وصنعاء كالمكلا ولحج كإب والضالع كالبيضاء وسيئون كعمران؟ كم عدد الجامعات، المدارس، المستشفيات قياساً إلى الخارطة السكانية ونسب النمو والسياحة؟ ما نسبة تمثيل كل محافظة في الحرس الجمهوري والخاص مثلاً قياساً لمقوماتها وتعداها؟ الأمر حساس. إذن فلنسأل: هل فرص ابن حُبيش في الانضمام إلى كلية الشرطة متساوية مع فرص المنضمين مما حول صنعاء؟ لو صح ذلك ما تحدث أعضاء مجلس النواب، منذ 10 أيام فقط، عن وجود "مناطقية في امتحانات القبول وانتقائية في المقابلات بخلاف توجيهات الرئيس".

تتزاحم في رأسي الأسئلة: كم الحصص السنوية لكل محافظة من الوظائف العامة والمنح الدراسية والطبية قياساً لتعداد المحافظة ونسب التعليم والزيادة السكانية؟ الحديدة مثلاً من أكثر المحافظات الموبوءة بالفشل الكلوي. أنا على يقين أننا لو تحققنا من عدد المنح الطبية الممنوحة لمرضى الكلى لما بلغت حصة الحديدة الربع. للأمر علاقة بالقدرة على الوصول إلى أصحاب القرار ومسائل أخرى. تصريح نائب وزير الخدمة للسياسية يوضح حصص بعض المحافظات من الوظائف العامة للعام الجاري، كما ويجيب عن سؤال الأسئلة: هل هذا نظام جمهوري عادل؟

 

م

وظائف عموم الجمهورية

13.000 درجة وظيفية

1

حصة صنعاء

7000 درجة وظيفية

2

بقية المحافظات

6000 درجة وظيفية

3

تعز

535 درجة وظيفية

4

ذمار

361 درجة وظيفية

 

الأسئلة كثيرة: كم حصص كل محافظة من المشاريع الخدمية والإنمائية كقطاعات ومخصصات مالية؟ هل تخضع المحاصصة لدراسات التنمية المستدامة أم لتقلب مزاج السلطة المركزية؟ إن الطامة الكبرى أن لأصوات الناخبين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية علاقة بزيادة، أو نقصان، المشاريع المنفذة في محافظة أو مديرية ما. إنه تدنيس للديمقراطية وابتزاز لا يليق بنظام يدعي تمثيل اليمنيين جمعياً.

أمر آخر. يقوم المسئولون الحكوميون، في حالات عديدة، بصرف المشاريع عن المناطق الأكثر استحقاقاً لها إلى المناطق التي ينتمون إليها. فهذا خليجي 20 من المقرر إقامته بين محافظتي عدن وأبين: أما كانت لحج أقرب؟ بالتأكيد لحج أقرب جغرافياً لكن أبين أقرب من القرار السياسي في البلد.

مثل آخر: وافق البرلمان على مشروع تشييد أستاد رياضي بمواصفات دولية أين؟ في معبر. للأمر علاقة كما هو معروف بانتماء رئيس مجلس النواب يحي الراعي الجغرافي في حين أن محافظة بحجم وتعداد صعدة ليس فيها ملعب بمواصفات ملعب تجارة جامعة صنعاء!

كل هذه الأسئلة، أو بعضها، يجيب عليها التقرير رقم (75) المرفوع من مجلس الشورى في تاريخ 16/6/2008م لرئيس الجمهورية في موضوع التنمية والتخفيف من الفقر. هذه بعض الأرقام معالجة في أشكال بصرية.

2008م

 ج- إزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات:

أزالت الثورة طبقات وأوجدت طبقات. أضعفت الطبقية السلالية وقوت الطبقية الجغرافية. سحبت امتيازات السلطة والثروة من فئات آفلة وكرستها لدى أخرى صاعدة. قرابة الإمام عامة وخاصة: الهاشميين وبيت حميد الدين. وقرابة الحاكم الجمهوري أضيق: الأسرة والعشيرة. لا حاجة، أو لا وقت، للتفصيل. ويمكن عوضاً عن ذلك استعادة قول البردوني: "استبدلوا إمام بأئمة". وكفى!

الهدف الثاني:

بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها: تقصدون هذا؟

صورة اللواء المستسلم 105 أثناء نزوله من الجبل في الحرب الأخيرة.

اللقطة مهينة. أفراد من القوات المسلحة يجلسون على الإسفلت كما لو أنهم في انتظار أن يقول المتكلم على رؤوسهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". وقد قيلت وإن لم تقل. وسُرح الجنود بالفعل إلى قراهم ومنازلهم بعد محاضرة عصماء.

الواقعة مشهودة. لقد استسلم، في بداية الحرب الأخيرة، أحد ألوية الجيش 105 وأُسقط في يد الحوثي. الحرب سيئة بالتأكيد وأسوأ منها آثارها النفسية. وكم آلمني أن أرى "مرمطة" الجيش تبث على الهواء مباشرة في تسجيل مصور على قناتي الجزيرة والعالم الفضائيتين.

في ذلك اليوم، بالتحديد، وبينما كنت أشاهد الجنود الأسرى وهم ينزلون، زمراً وفرادى، من الجبل سيراً على الأقدام تذكرت بشكل عفوي ثاني أهداف ثورة الـ26 من سبتمبر: "بناء جيش وطني قوي لحماية البلاد وحراسة الثورة ومكاسبها" فقلتُ في نفسي: أتقصدون هذا؟

لا يفهمنّ كلامي غلط: لا أشمت بالجيش ولا أحرض ضد الحوثي. لا أتقصد الإضرار بمعنويات الجيش ومعاذ الله أن أكون مسعّر حرب سابعة. ولكن هل من المهين أن تقول لمصاب بالملايا أنه مريض بفيروس الملاريا. أعرف أن المسألة شديدة الحساسية ولكن ينبغي على أحدهم أن يقول إن حروب صعدة قد أهانت الجيش اليمني، أيما إهانة، ودمرت معنوياته. إن إعادة إعمار صعدة ينبغي أن تتزامن مع إعادة إعمار النفوس: المدنية والعسكرية، الحوثية والقبلية، فكلنا أبناء بلد واحد لا نحسن العيش فيه.

لا يجب قياس الأمور هكذا: إن نقد ضعف الجيش وعدم جاهزية المؤسسة العسكرية لا يجب أن يُفهم على انه بغرض الإشادة بالحوثي وقوته أو العكس: التحريض المبطن ضده. كما أن الحرص على أن يكون لليمن جيش قوي فتلك رغبة فطرية لدى أي مواطن يمني ولكني ألمح خطاً تحت كلمة اليمن.

أعرف أن من السهل على الذين يُحرفون الكلم من مواضعه اعتبار ما كتبته سخريةً من المؤسسة العسكرية وإضراراً بمعنويات الجيش ولكن ما يجب أن يعرفه "حراس مرمى الثوابت" أن من حقي كيمني أن أطمئن على جيش يقع على عاتقه حماية كل شبر من هذا البلد. ثم ما بالكم تغفلون عن أننا في فترة سلم واتفاقية الدوحة دخلت حيز التنفيذ.

لنقل الأمور بوضوح وبساطة أكثر. اليوم وبعد مرور نصف قرن على الثورة اليمنية أليس من حقي كيمني أن أقف ملياً أمام ثاني أهداف الثورة لأسأل: هل تحقق أم لا؟ أعرف سبب حساسية الموضوع ولكني أدفعها بحساسية مماثلة. إن الجيش اليمني لم يخض أية حرب خارجية أصلاً. حرب صيف 94م لها ظروف أخرى. وبالتالي فإن الإجابة الوحيدة على هذا السؤال لا يمكن استخلاصها إلا من حروب صعدة ونتائجها. والإجابة واضحة.

الهدف الثالث:

رفع مستوى الشعب اقتصادياً واجتماعيا وسياسياً وثقافيا:

لا أشك مقدار مثقال ذرة أن مستوى الشعب اليمني في العهد الجمهوري أفضل منه في العهد الإمامي اجتماعيا وسياسياً وثقافيا أما اقتصادياً فنعم ولا. أعرف أن أشياء عديدة تغيرت وجرت في النهر مياه جديدة. بعضها بحكم الزمن وعصر السرعة. بعضها بحكم البنية السياسية والاجتماعية، غير السلالية، لنظام الجمهورية. وعوامل أخرى أكثر تعقيداً وخصوصية بالحالة اليمنية.

أؤمن أن مهمة الصحفي كمهمة الطبيب بالضبط وبالتالي سأحلل الهدف الثالث من الثورة، فقط، بطريقة غير حيادية. أتناول المُحبطات وأتجنب المنجزات. إن مهمتي تقتصر على تشخيص العضو المريض في الجمهورية وليس المعافى، والخلية السقيمة من الثورة لا الصحيحة. ولدي حُجة: ليس من المهين أن تقول لمريض أنه مريض ومن المهين جداً أن تقول لصحيح أنه صحيح! هذه هي.

أ‌- رفع مستوى الشعب اقتصادياً: الله وأعلم!

أما هذه فمشكوك في حرفيتها. إن مقارنة دخل الفرد اليمني في العهدين الملكي والجمهوري قياساً إلى عدد السكان والموارد الطبيعية تؤكد ذلك. فإن كان لا بد من الإقرار بارتفاع المستوى الاقتصادي للشعب في العهد الجمهوري عن الملكي فإن حقيقة أخرى لا بد أن تقر: إن المستوى الاقتصادي للشعب آخذ في التدهور كلما تقدم عمر الجمهورية.

الفقر والبطالة اليوم، كأرقام، أكثر منهما في السبعينات. الثمانينات للتسعينات. إن المشكلات الاقتصادية، بالمجمل، في تزايد مستمر كلما تقدم عمر الجمهورية: من حكومة العيني إلى حكومة عبدالغني ومن حكومة الوحدة إلى حكومة الإرياني فباجمال ومجور. حدثت طفرات في بعضها لكنها لم تستطع تغير المسار العام. إن دراسة الوضع الاقتصادي، كأرقام وإحصائيات، خلال أربعين عاماً تؤكد أن مستوى (دخل الفرد/ الأسعار/ الريال في مقابل الدولار) في تناقص مستمر بخلاف جوهر الهدف الثالث من أهداف الثورة.

وقت كتابة هذا الهدف لم يكن أحداً، بما فيهم كاتبه، ليتوقع أن آباراً من النفط ستكتشف مستقبلاً وحقولاً من الغاز والثروات المعدنية ستستخرج. اكتشفت الثروات الطبيعية فزادت الأوضاع الاقتصادية سوءا. هذه الأرقام والمعلومات، المعالجة في أشكال بصرية، مستقاة من تقارير حديثة للبنك الدولي صدرت في الأعوام الأخيرة.

ب‌- رفع مستوى الشعب اجتماعياً: بلى

أما هذه فنعم. لقد ارتفع مستوى الشعب اجتماعياً غير إن مخلفات الإمامة ما تزال باقية بالتفرقة لا الجملة. أوضح مثال النظرة الانتقاصية لذوي البشرة السوداء وتسميتهم بـ"الأخدام". وكذا أصحاب المهن البسيطة. لا حاجة أن أقول: أحقر من الجزار من يحتقر الجزار لمهنته. والحلاق لمهنته. والقشام لمهنته. فذاك مؤكد.

ت‌- رفع مستوى الشعب سياسياً: وهذه أيضاً

وهذه أيضاً نعم مرتين. إن البنية السياسية أكثر البنى تطوراً في اليمن وأسرعها نموا بالتأكيد. وإذا كنت متيقناً من ارتفاع "مستوى الشعب سياسياً" كما نص الهدف الثالث حرفيا فالشيء الذي ينبغي التأكد منه هل ارتفع الوعي السياسي للنخبة الحاكمة بذات القدر؟ هل صار العقل السياسي جمهورياً خالصاً 100% أم أن بعض مخلفات الإمامة تظهر بين الحين والآخر؟

أحياناً، وفي بقاع عدة من العالم، تتأثر الجمهورية بالملكية أو ببعض طباعها في الحكم وإدارة البلد. ذلك مؤكد. وفي اليمن هذه عيّنات متفرقة، فضّلتها بصرية لا مكتوبة، عن ممارسات سياسية جمهورية يبدو أنها من نفس الطينة الإمامية، أو من مخلفاتها في أحسن الأحوال.

الجمهورية متأثرة بطباع الملكية

 من علّم الجماعات المسلحة في الجنوب فرز الناس بالبطاقة؟

نظام الرهائن في طبعتيه الإمامية والجمهورية!

مات الإمام ولم تمت الإمامة. مات فرعون، وفق تعبير البردوني، ولم تمت الفراعنة. لقد سقط نظام الحكم ولما تسقط بعد جملة من عاداته وشرائعه. بدليل أن نظام الرهائن لما يزل معمولاً به إلى اليوم ولكن بصيغ جمهورية. والفرق طفيف بين رهينة العهد الإمامي والجمهوري: تلك بقانون معلن والأخرى بدون. الأولى تسمى باسمها والثانية تتلبس أسماء أخرى لا غير.

كان الإمام، كأي حاكم مُوسوس، يأخذ من كل أسرة مشيخية مؤثرة أو ذات نفوذ وطموح سياسي أحد أبنائها رهينةً فتقيم، معززةً مكرمة، في القصر الملكي تحت ناظريه ورعايته. يدٌ على الزناد ويد تمسح، بحنان، على فروة الرأس. بعبارة أخرى: تشريف للابن وتحذير للأب. لن يجد الابن مكاناً بنفوذ وخبرات قصر الحاكم ولن يخرج الأب عليه، بالمقابل، أو يحاول الإطاحة به ما دام ابنه في قصر الحاكم أو بالأحرى تحت قبضته.

الزمن تغير. والفكرة الإمامية طورت، في العهد الجمهوري، وطبقت بصيغ عصرية معدلة. هذا ممكن. يختار رئيس الجمهورية، بين الحين والآخر، أحد أبناء المشايخ الأكثر تأثيراً ونفوذاً في البلد لاستبقائهم في القصر الجمهوري لا كرهائن وإنما بوصفهم مرافقين شخصيين له في حله وترحاله، أو عاملين في القصر. تشريف للابن وتحذير للأب. الانتقاء يتم بدقة تامة. نائب رئيس أعلى مؤسسة مسئولة عن التشريع في البلد كان يوماً أحدهم فيا له من منقلب.

رهائن الإمامة نسخة واحدة ورهائن الجمهورية نسخ متعددة: أثناء اختطاف أفراد من إحدى قبائل بني ضبيان نجل توفيق الخامري قامت الدولة بالمثل: اعتقلت، أو بالأحرى اختطفت، أكثر من 150 شخصاً ينتمون لبني ضبيان، بشكل عشوائي، حسب البطاقة ورمت بهم في السجن. لا أدري إن كان من الممكن أن يكون أحدهم، في المستقبل، زيد مطيع دماج آخر.

معظم من اعتقلتهم الدولة لا علاقة لهم بالحادثة ولا يربطهم بالخاطفين رابط. أذكر أني تلقيت اتصالاً من أحد المعتقلين على ذمة القضية. بعد أيام زارني إلى مقر صحيفة الأهالي حاملاً ملفاً طبياً يؤكد أنه دخل صنعاء لعلاج زوجته. اقتيد للزنزانة وقضت زوجته أياماً في مستشفى السبعين لا تعرف عن بعلها شيئاً! تألمت كثيراً عند سماع القصة. لكن سعادتي كانت أكبر عندما علمت من الرجل إنه ورفاقه ذاهبون إلى منظمة هود من أجل رفع قضية ضد وزارة الداخلية: "بني ضبيان تقاضي الداخلية" تخيلته مانشيتاً.

اليوم جاء الدور على قبيلة أخرى. كل من كان من أبناء قبيلة السهمان يؤخذ، بشكل عشوائي، بجريرة اختطاف شقيق رئيس مجلس القضاء الأعلى عصام السماوي. وبماذا؟ بموجب البطاقة الشخصية: أيضاً وخصوصاً!

لن يكف النظام عن إهدار دم القانون. يفرغ سمومه على مواطنين أبرياء ويرسل الوسطاء، حاملين الملايين والسيارات، لإرضاء ثلة من الخاطفين وقطاع الطرق. شيء عجيب! أعجب منه أن السلطة تشتكي من جماعات مسلحة في المحافظات الجنوبية تقول إنها تعامل أبناء الشمال بحسب البطاقة! غافلةً عن سؤال عكسي لا بد من طرحه عليها لا على غيرها: ومن علّمهم فرز الناس حسب البطاقة؟

إن دولة توجه الخطف بالخطف ليست بدولة. لا هي وارثة للثورة وأهدافها ولا هي ممثلة للجمهورية وقيمها! إنها دولة "مخلفات". عجبتُ لنظام يشتكي من المناطقية بينما هو يفرز مواطنيه ويعاملهم حسب البطاقة الشخصية أو وفق تقسيم "مطلع منزل"!

ث‌- رفع مستوى الشعب ثقافياً: هذا حق

أيضاً ما من شك أن هذا الهدف تحقق إلى حد كبير في الكم أكثر منه في النوع. لكن، ومن باب تشخيص الأعضاء المريضة فقط لا السليمة، أحسب أن أنساقاً ثقافية من الموروث الإمامي ما تزال معششة في الرؤوس الجمهورية. إحداها هذه:

"من أين أنت؟ من هو شيخكم؟"

عندما دخل المؤرخ اللبناني أمين الريحاني لمقابلة الإمام أحمد حميد الدين قدمه أحد موظفي البلاط قائلاً: "يا مولانا هذا السيد أمين الريحاني" فبشّ وجه الإمام وتبسم فور سماع كلمة السيد. لم يدرك الإمام، وهو الفطن، أن كلمة السيد التي تقدمت اسم أمين الريحاني قيلت من باب الذوق الدبلوماسي ليس إلا فظن، خطأ، أنه سيد بالمعنى السلالي: أي من ذرة الإمام علي بن أبي طالب.

نتيجة سوء الفهم هذا سأل الإمام أحمد ضيفه اللبناني إلى أي فرع من الشجرة العلوية ينتمي (حسني أم حُسيني)؟ فردّ أمين الريحاني وقد تملكه الشعور بالخجل: (بل مسيحي)!

والحال هذه اليوم. ذلك أن سؤال الجمهورية من نفس طينة سؤال الإمامة. لم يسبق لي شخصياً الالتقاء برئيس الجمهورية ولا بالشيخ عبد الله يرحمه الله. غير إن من المسلم به، والمجمع عليه، أن أول سؤال ينطقه الرئيس والشيخ، كل على حدة، في لقاءاتهما الخاصة هو "من أين أنتَ؟ ومن هو شيخكم"؟

إن سؤال الإمام أحمد عن النسب قبل ثورة 26 سبتمبر، وسؤال الرئيس والشيخ عن العشيرة بعدها يصدران، في الحقيقة، عن وعي أو نسق ثقافي واحد. لقد قامت في اليمن ثورتان تلتهما الوحدة، بديمقراطيتها وتعدديتها السياسية، غير إن الأنساق الثقافية للحقبة الإمامية لما تزل معششة في الرؤوس.

تلك هي الحقيقة المرة. لقد قامت الثورة كعمل عسكري غير إنها لم تقم بعد كعمل ثقافي وأنساق تفكير لدى النخبة والعامة. وما لم يستبدل سؤال "من أين أنتَ ومن هو شيخكم"؟ بسؤال المواطنة المتساوية فإن أحداً ليس بوسعه الجزم بقيام ثورة حقيقة جذرية في اليمن.

توجه علي عبدالمغني إلى صرواح وتوجه الشيخ عبدالله وسنان إلى صنعاء القديمة لوضع اليد على أملاك الإمام:

التفكير بواقعية وبرجماتية!

"الثورات تأكل أبنائها" مقولة صحيحة 100%. وفي بقاع عدة من العالم ينهض بأمر الثورة ويقوم به أناس ويقطف ثمارها آخرون. الأمر مرتبط، أحياناً، بالثروة والنفوذ والوجاهة الاجتماعية التي تجعل صاحبها أكثر قدرة على ركوب الموجة. وفي اليمن ليس أحد في ذكاء وقدرات طبقة المشايخ.

يعرف المشائخ من أين تأكل الكتف. وفي الوقت الذي كان عبد المغني مطهر، وآخرين، ينفق ثروته لتمويل الثورة في مهدها كان عدد من أبرز مشائخ قبيلة بكيل مثلاً يقاتل في صفوف الملكية. أفلس عبدالغني مطهر وطوى النسيان صفحاته. والعكس: صار مقاتلو الملكية بالأمس من أبرز الشخصيات "الوطنية" في المجتمع اليمني اليوم. إنهم يجلسون اليوم هناك في المقصورة الرئيسية من منصة الاحتفال بعيد الثورة وكأنهم هم صنّاعها!

ليس الزبيري ولا النعمان من يجلس اليوم في المقصورة الرئيسية من منصة الاحتفال بعيد الثورة وإنما بعض الذين قاتلوا ضدهما بالأمس في صفوف الملكية. الموازين مختلة بالتأكيد. ومن نكد الدنيا على أحدنا أن يقارن فيما آل إليه مصير أبناء الثوار، كالزبيري مثلاً، وما آل إليه أبناء غرمائهم في حصار السبعين من ثراء ونفوذ وسلطة في دولة الجمهورية التي شقي على قيامها آبائهم! الأمر شبيه إلى حد كبير ما آل إليه طلقاء فتح مكة وأبنائهم في الخلافة الإسلامية فيما بعد.

لا أحب التعميم. وأعرف أن هناك مشائخ وطنيين ومن معدن نفيس قدموا تضحيات جسيمة لليمن. غير إن الأمور تقاس بمجملها. والأحكام تبنى على المتواتر لا المنقطع. وكما أن من المشائخ الجمهوريين اليوم من كان ملكياً الهوى والموقف وقت الثورة فإن آخرين كانوا في صفوف الجمهورية منذ اللحظة الأولى. الأسماء كثيرة. وبالتأكيد فإن الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، وآخرين، في طليعة الجمهوريين. 

لا أريد التعظيم، أو التقليل، من دور أحد ولست أنا من يوزع صكوك الوطنية. ما أنا معني به هنا لفت الانتباه إلى مدى اختلاف وتباين طرق التفكير. طرق التفكير التي تجعل الشيخ أكثر قوةً وتأثيراً في المجتمع اليمني من المثقف. إنه يفكر ببرجماتية أكثر ويركز جهده على كل ما له ارتباط مباشر بالسلطة والثروة.

عندما اندلعت ثورة الـ26 من سبتمبر توجه علي عبد المغني، العقل المدبر للثورة، إلى صرواح. يقال إنه أرسل من صنعاء بالمهمة وقد تم الترتيب بحيث لا يعود إليها ثانية. أياً يكن الأمر وسواء استشهد علي عبد المغني أو تمت تصفيته فإن الرجل الذي بكى جمال عبدالناصر لفقدانه ذهب إلى الميدان للقتال ولم يفكر في خيارات أخرى متاحة. كان تفكيره مثالياً.

توجه علي عبد المغني إلى صرواح بينما توجه، في نفس الوقت، الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر إلى صنعاء. كان الشيخ معتقلاً في سجن الإمام وما إن خرج حتى قدم بصحبة آخرين إلى صنعاء. التقى الشيخ برجال الثورة وآزرهم. ثم خاض هو والشيخ سنان أبو لحوم معركتهما الخاصة ضد الإمام.

معركة علي عبدالمغني ضد الإمام كانت في صرواح بينما كانت معركة الشيخين عبدالله وسنان في صنعاء القديمة. لقد وضع الشيخين أيديهما على معظم عقارات وبيوت الإمام في صنعاء انتقاماً منه واسترداداً لما قالا إنه سلبه منهما ومن آبائهما من أملاك. العين بالعين. وما ذلك المنزل الذي تقام فيه كل اثنين ندوة منتدى الأحمر في صنعاء القديمة إلا أحد تلك العقارات. في السابق كان منزل الصمام بن الإمام يحي.

ذهب علي عبدالمغني ولم يعد. وإذ لم يظفر حياً بشيء مادي فقد ظفر ميتاً، على الأقل، حباً شعبياً وسمعة طبيةً وتسمية شارع مهم في صنعاء باسمه. هل كان عليه الذهاب إلى صرواح أم كان يتوجب عليه المجيء هنا؟ فكرت بهذا أثناء حضوري ندوة حقوقية في منزل الصمام أقصد منتدى الأحمر وما خرجت بنتيجة! هل أسمي ما قام به الشيخين ذكاءً وفطنةً وما قام به علي عبدالمغني مثالية وطيبة زائدة عن الحد؟ أم أقول إنه القدر وتدابيره؟ كلا. بل أقول إنها طرق التفكير. يبدو أن المشائخ أفضل من يفكر بواقعية وبرجماتية في هذا البلد. هذا مؤكد.

الهدف الرابع:

إنشاء مجتمع ديمقراطي ثقافي عادل مستمد أنظمته من روح الإسلام الحنيف.

اليمن اليوم بلد ديمقراطي، بالتأكيد، كنظام سياسي وحرية تعبير وتعددية سياسية. لكن هل المجتمع اليمني، من الداخل، مجتمع ديمقراطي؟ ذلك أمر آخر. إلى أي مدى يمارس اليمنيون الديمقراطية وحرية الاختيار في منازلهم وعاداتهم الاجتماعية؟ الأمر بحاجة إلى تراكم ووقت وإيمان بشمولية الأهداف النبيلة.

الهدف الخامس:

العمل على تحقيق الوحدة الوطنية في نطاق الوحدة العربية الشاملة.

إن كان المقصود بالوحدة الوطنية في الهدف الخامس وحدة الجغرافيا فقد والله تحققت وها هي، بعد عقدين فقط، متصدعة ومهددة. أما إن كان المقصود بالوحدة الوطنية وحدة الهوية اليمنية فذلك أعسر. إن فشل الدولة في خلق هوية جمعية مشتركة لكافة أبناء اليمن هو السبب الرئيس لنمو المشاريع الصغيرة المهددة لوحدة البلد واستقراره.

أدل دليل على فشل النظام في تحقيق مواطنة متساوية وخلق هوية يمنية جامعة تذوب فيها الهويات الصغيرة هو هذه الهويات المتعددة من حولنا: الهوية الحوثية في شمال الشمال. الهوية الحاشدية المعلن عنها حديثاً بوثيقة. الهوية الجنوبية (الحراك). بل ويمكن القول أيضاً الهوية الفضلية استناداً لتصريحات طارق الفضلي عن أرضه من العلم إلى.... وهويات أخرى طور التشكل.

نومة أهل الكهف كالعادة! لم يدرك النظام الوارث للثورة والممثل للجمهورية أنه فشل في خلق هوية يمنية جامعة إلا متأخراً ولم، ولن، يقر. ليته يدرك أن الهوية اليمنية لن تتشكل من خلال الهيئة الوطنية للتوعية وإعلاناتها. ولا من خلال سيارات تطوف الشوارع، بمكبرات الصوت، تصدع بالأغاني الوطنية. لن تتشكل هوية جامعة لليمنيين إلا بالعدالة والمواطنة المتساوية لا غير.

الهدف السادس:

احترام مواثيق الأمم المتحدة والمنظمات الدولية والتمسك بمبدأ الحياد الإيجابي وعدم الانحياز والعمل على إقرار السلام العالمي وتدعيم التعايش السلمي بين الأمم.

ما أجمل الفقرة الأخيرة من الهدف الثوري السادس: "إقرار السلام العالمي وتدعيم التعايش السلمي بين الأمم". وكم سيكون أجمل لو استبدلت كلمة العالمي بالمحلي. وكلمة الأمم باليمنيين. فنحن والله أحوج.

جامع الصالح أم دار الحجر؟

إنها غلطة كل العصور: الأنظمة الجديدة تقوم بالقضاء على تراث الأنظمة القديمة. اللاحق يُقصي السابق ويعمل، بإمكانات دولة، على محو رموزه وتشويه تاريخه وتحقير ماضيه. بعبارة أخرى: التاريخ يكتبه المنتصر. وهذا بالضبط ما كان من الثورة اليمنية لحكم الإمامة. وهذا أيضاً ما كان من الأئمة مع خصومهم ومن كان قبلهم. وهذا ما كان، بشكل أوسع، في الدولة الإسلامية من العثمانيين لسابقيهم دولة المماليك، ومن العباسيين للأمويين، ومن الأيوبيين للفاطميين في مصر، ومن الموحدين للمرابطين في بلاد المغرب العربي بنسب متفاوتة.

إن معظم الثورات الإيديولوجية والانقلابات العسكرية تقوم، في مختلف أنحاء العالم، بتدشين عهد بإبادة عهد وتمجيد فترة بتحقير فترة. إن أفضل طريقة لتقوية النظام الجديد هي هدم وتدمير ذكرى النظام الحاكم السابق وكأن كل نظام صاعد يجبُّ، بالضرورة، ما قبله. الثورتان الفرنسية والروسية مثل جيد.

في اليمن اكتفى النظام الجمهوري بذم وتحقير العهد الإمامي الكهنوتي الظلامي إعلامياً فقط بينما هو على أرض الواقع يعيد إنتاج رموز النظام الإمامي بشكل أو بآخر. أين هي منجزات الجمهورية في التفاصيل اليومية للحياة؟ أين ما يمكن أن نسميه ماركة العهد الجمهوري؟

قوس النصر الذي شيده نابليون، في باريس، أحد رموز الثورة الفرنسية بالتأكيد فلا يقولن لي أحدكم أن ميدان التحرير هذا رمز للثورة والحداثة في البلد؟ أتسمون هذه الكتل الإسمنتية العشوائية، المفتقرة للتخطيط، مدينة؟ إن أحداً ليس بوسع الجزم بأن في اليمن مدينة بالمعنى الحرفي للكلمة.

يقول الإعلام الرسمي إن العهد الإمامي كان سيئاً لكن تخطيط مدينة صنعاء القديمة يقول العكس. يقول الإعلام الرسمي إن العهد الإمامي كان سيئاً لكن قصر الإمام "دار الحجر" يقول العكس. يقول الإعلام الرسمي إن العهد الإمامي كان ظلامياً لكن حديث الكهول والمسنّين يقول العكس: (كان الناس يذهبون إلى الصلاة ويتركون محلاتهم التجارية في صنعاء القديمة مفتوحة!).

مفارقات العهد الجمهوري ليس لها آخر. ومن ذلك مثلاً أن الإعلام الرسمي يلعن العهد الإمامي، ليل نهار، فإن زار اليمن رئيس دولة عربية أو أجنبية أو مسئول أممي أخذوه إلى أين: إلى ما بني في العهد الإمامي: صنعاء القديمة أو دار الحجر. أين هي منجزاتكم إذن؟

تبدلت الآية. مؤخراً صار لصنعاء، ومن إنجاز العهد الجمهوري، تحفة معمارية بديعة من غير الممكن لأي ضيف أو شخصية سياسية أو دبلوماسية أن يزور اليمن من دون زيارة هذا المعلم. إنه جامع الرئيس صالح. الجامع في الحقيقة آية في الجمال المعماري لكنه يبقى جامع الصالح وليس جامع الجمهورية. وما هذه كتلك وإن تزامنتا!

Absi83@maktoob.com


في السبت 30 أكتوبر-تشرين الأول 2010 05:28:59 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=8206