صنعاء في الرياض
د. محمد جميح
د. محمد جميح

لم تعد صنعاء هذه الأيام حديث أهلها وحدهم في «مقايل القات» حيث يلتقي اليمنيون لمضغ الوريقات الخضراء مع شيء من القهوة والسياسة في آن واحد. أصبح الحديث عن صنعاء يدور في عدد من العواصم والمدن العربية والعالمية بما فيها الرياض ولندن وأبوظبي ولاهاي ونيويورك.

الرياض قلقة على صنعاء وقلقة من صنعاء. قلق الرياض على صنعاء ومنها نابع من أن الرياض لن - بل ولا - تستطيع أن تدير ظهرها لصنعاء.

لا تستطيع الرياض أن تدير الظهر لصنعاء لأن الهم مشترك والأمن والقلق مشترك والمصير مشترك وآلف الكيلومترات من الحدود المشتركة يجول فيها تجار المخدرات والقات والحوثيون و«القاعدة» والمهربون وكائنات أخرى لا يعلمها إلا الله.

الرياض وضعت صنعاء في دائرة الاهتمام وعقدت العزم على المساندة، حتى إن المتابع ليخلص إلى أن الملف اليمني هو ملف سعودي بامتياز. يقول الملك عبد الله بن عبد العزيز: «ما من شك شئنا أم أبينا أن اليمن جزء من الأمة العربية والإسلامية وجزء من الخليج. واليمن أصل العرب وهذا أمر ليس فيه كلام، وهو الرحم الذي خرج منه العرب». مسؤولون سعوديون كبار ذكروا مرارا أن أمن الرياض من أمن صنعاء. قال لي زميل إعلامي سعودي: نحن في الرياض نقول إننا نشعر بالقلق عندما تتوتر الأوضاع في بلد عربي ما، لكننا عندما تتوتر الأوضاع في اليمن فإننا نتأثر ونتوتر بشكل كبير.

وقد تجلت حقيقة الأمن المشترك واضحة للعيان خلال حرب الحوثيين العبثية ضد الحكومة اليمنية واعتدائهم على الحدود السعودية.

أود هنا ذكر بعض النقاط:

أثبتت تجربة الحرب مع الحوثيين أن صنعاء والرياض مستهدفتان بشكل ملحوظ من قوى داخل اليمن وخارجه. رأت صنعاء آثار الثعلب الإيراني في كهوف صعدة، ورصدت حركة نشطة لقوارب صيد محملة بأسماك من حديد كانت تأتي من الساحل الغربي للبحر الأحمر تذكر بالقول القديم «ما للجمال مشيها وئيدا».

الإيرانيون موجودون اليوم في القرن الأفريقي، الذي كانت سواحله منطلق «قوارب الصيد» المحملة بأسماك الحديد المذكورة آنفا. وجود الإيرانيين هناك بالإضافة إلى ذراعهم العسكرية في اليمن (الحوثيون) ليس لمنازلة قوى «الاستكبار العالمي» ولا لضرب إسرائيل، بل هو للتربص بالبلدين الشقيقين: السعودية واليمن.

كان اعتداء الحوثيين على الأراضي السعودية الخطوة غير المحسوبة من قبلهم، التي أدت إلى سرعة رفعهم الراية البيضاء وقبول النقاط الست في الحرب السادسة. أذكر في هذا الخصوص أنني كنت ضيفا على الـ«بي بي سي» وكان معي الناطق الرسمي للحوثيين ليلة الاعتداء الحوثي على الحدود السعودية وكان يرغي ويزبد مشيدا ببطولات جماعته التي تقاتل دولتين في آن واحد، وأذكر أنني قلت له ستذكر فيما بعد أن هذه الخطوة كانت خطأ فادحا ارتكبتموه وستدفعون ثمنها غاليا. وهذا ما حدث بالفعل.

أذكر كذلك أنني بُعيد تشكيل لجنة الإشراف على تنفيذ النقاط الست تواصلت مع عضو بارز من أعضائها وسألته عن سير العمل، فرد بقوله: في اليوم الأول للقائنا مع ممثلي الحوثيين جاءوا مطأطئي الرؤوس عليهم علامات الهزيمة الواضحة وكانوا يؤكدون ضرورة استمرار التنسيق لمنع الرجوع للحرب. قال محدثي وبعد أيام وجيزة التقيناهم لنزع الألغام وكانت لهجتهم قد بدأت تتغير وصورة الانكسار التي لقيناهم عليها في اليوم الأول قد ولت وبدأوا وبدأت اللجنة تزيل الألغام وكلما أزيل لغم وضعوه في حقيبة ثم حملوه إلى سياراتهم التي تعود به إلى مخازن أسلحتهم، ولم يسلموا الألغام للجانب الحكومي حسب الاتفاق.

ثم بعد ذلك سارت الأمور بشكل ينبئ عن أن الحوثيين لن يعيدوا الأسلحة الثقيلة ولن يتخلوا عن مواقعهم بل واستحدثوا مواقع جديدة. ثم انتهى الأمر إلى تحقيق الحوثيين مكاسب سياسية على الرغم من الهزيمة العسكرية التي نالتهم.

ما الذي جرى؟ لماذا استثمر الحوثيون ما حدث بعد وقف إطلاق النار وصوروا أنفسهم على أنهم قد خرجوا منها منتصرين. ما هي أسرار معركتهم الأخيرة في حرف سفيان عندما حاصروا عضو مجلس النواب بن صغير الرجل الذي صمد لهم حتى آخر لحظة ثم أجلي إلى صنعاء، في خطوة دأب عليها الحوثيون لتطهير المناطق التي يسيطرون عليها ممن وقف ضدهم من أبناء هذه المناطق. لماذا لا تتنبه الحكومة إلى أن التخلي عمن دعموها ضد المتمردين إنما يرسل رسائل كلها خاطئة: الرسالة الأولى يتلقفها الحوثيون الذين يزداد تنكيلهم بمن وقف مع الحكومة ضدهم مطمئنين إلى أن الحكومة ستلتزم ضبط النفس. الرسالة الثانية يتلقاها من وقف مع الحكومة بخيبة أمل ربما جعلتهم يغيرون ولاءهم لصالح الحوثيين، الرسالة الثالثة يتلقاها الجوار الذي يراقب على السواء بشيء من الريبة والحذر.

الواقع أن الحكومة حققت مكاسب عسكرية في الحرب الأخيرة ولكنها لم تستثمرها سياسيا، بينما خرج الحوثيون منهكين من الحرب ولكنهم حققوا مكاسب سياسية كان من الممكن أن تحرزها الحكومة لو أنها أدارت معركة ما بعد الحرب بشكل جيد.

الحوثيون استغلوا الفراغ الموجود في بعض مديريات صعدة وبدأوا إعادة تسليح أنفسهم وترتيب صفوفهم وتصفية خصومهم جسديا.

ويتساءل المراقب: ما هو دور الخلايا النائمة في صنعاء في دعم الحوثيين ماليا وسياسيا؟ ما مدى صحة ما ذكر عن صفقة أسلحة مولتها دولة عربية لصالح الحوثيين؟ ما علاقة تاجر السلاح فارس مناع الذي ظهر على المشهد السياسي مؤخرا بهذه الصفقة؟ ما هي آثار حقيقة الوجود الإيراني على السواحل الغربية للبحر الأحمر؟ وما علاقة ذلك «بقوارب الصيد» التي تغمرنا بين الحين والآخر بـ«شحنة طيبة من الأسماك»؟

على صنعاء أن تدرك أن الحوثيين مشكلة يمنية بالمقام الأول، وأن الأشقاء والأصدقاء معنيون بالمشكلة بمقادير متفاوتة كل حسب رؤيته وطاقته وما تعنيه له هذه المشكلة.

الشيء المؤكد أن استمرار الوضع على ما هو عليه مع الحوثيين غير مريح لا للجوار ولا لليمنيين. الوقت يمضي، ولا يغيب أن استمراء الحوثيين لعبة الكر والفر والمراوغة سيضر بجهود الحكومة لاحتواء أزمات أخرى كالوضع في بعض المحافظات الجنوبية. الحوثيون هم من شجع الانفصاليين على خوض التجربة، بعد أن رأى الانفصاليون أن الأمر لا يتطلب أكثر من بندقية وجبل لإرغام الحكومة على التراجع، والانفصاليون هم من وفر الفرصة لعناصر «القاعدة» ليسرحوا ما شاءوا في بعض محافظات الجنوب مستغلين فرصة انشغال القوى الأمنية بمواجهة العناصر الانفصالية، إضافة إلى ما ذكر مؤخرا من تنسيق بين الانفصاليين المسلحين وبعض العناصر من تنظيم القاعدة. وهكذا كلها حلقات آخذٌ بعضها برقاب بعض.

الأوضاع الحالية تظهر الدولة بمظهر العاجز عن اتخاذ القرار والعاجز عن تنفيذه حال اتخاذه، وهذا لن يشجع الانفصاليين وحدهم ولكنه سوف يشجع «القاعدة» والقبائل وقطاع الطرق وقد شجعهم بالفعل.

وعودة إلى العلاقات اليمنية - السعودية التي يجب أن تكون على رأس اهتمام صناع القرار في البلدين، يجدر القول أن هناك من لا يريد لهذه العلاقات أن تكون نموذجية. هناك على الجانب اليمني الحوثيون وأنصارهم في بعض الأحزاب السياسية وبعض الجهات الإعلامية الذين يفضلون علاقات حميمة مع إيران على حساب العلاقات اليمنية - السعودية ناسين أن الرياض أقرب لصنعاء جغرافيا وقوميا، هناك من يبالغون في إطراء النموذج الإيراني، بل ويتبنون شعاراته ومناسباته الطائفية والسياسية، كما في إحياء الحوثيين مناسبات «لطمية وبكائية» تدعو إلى الثأر من أعداء آل البيت سيرا على منوال أوليائهم في قم وطهران، ناهيك عن تقليد الإيرانيين في الدعوة لإحياء «يوم القدس» في الدهاليز التي يختبئ فيها الثعلب الإيراني في مناطق الحوثيين، مع أن مسلحا واحدا من الحوثيين أو جنديا واحدا من الإيرانيين لم يقتل على أرض القدس التي يبخلون عليها بـ«الدماء» ويخصصون لها «الزعيق» من أجل كسب المزيد من الدعاية السياسية في أوساط السذج الذين لم يدركوا حقيقة المخططات الإيرانية في البلاد العربية. هؤلاء يتحدثون عن «الغزو الوهابي» لليمن ويهدفون بذلك إلى الاصطياد في الماء العكر بزعزعة العلاقات الأخوية بين صنعاء والرياض. هناك أيضا بعض أيتام اليسار العربي في اليمن الذين لا يزالون يدندنون حول «الرجعية العربية» وهؤلاء كالحوثيين لا يريدون علاقات حميمة مع السعوديين ويحاولون «فك الارتباط» بين الأشقاء في اليمن والسعودية.

وهناك أيضا من لا يزال ينظر للعلاقات اليمنية - السعودية بمنظار الأحداث المريعة التي شهدتها المنطقة بعد غزو العراق للكويت وهؤلاء لا بد أن يدركوا أن مياها كثيرة قد عبرت تحت الجسر منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم.

الرياض كان لها دور محوري بل الدور المحوري في اجتماع أصدقاء اليمن في نيويورك يوم 24 سبتمبر (أيلول) 2010 وسوف تحتضن اجتماعا آخر نهاية العام الحالي، وفت الرياض بالمبالغ التي تعهدت بها في مؤتمر لندن عام 2006 وتسعى الآن لإنشاء صندوق دعم اليمن مع مجموعة أصدقاء اليمن وسوف يكون عليها العبء الأكبر في هذا الصدد. وفوق ذلك الأزمة الاقتصادية التي تمر بها اليمن تستدعي ما هو أكثر من مجرد فتح المجال أمام العمالة اليمنية في المملكة، نحن بحاجة إلى خطط طموحة لتشجيع المستثمر السعودي للمجيء إلى السوق اليمنية، سوف يعطي ذلك فرصا أوفر للعمل داخل اليمن وسيمنع تدفق اليمنيين للضغط على سوق العمل السعودية.

أخيرا علاقات ممتازة بين صنعاء والرياض لا بد منها للتغلب على التحديات المشتركة، علاقات ممتازة بين العاصمتين تعني علاقات يمنية خليجية وعربية ممتازة.

* كاتب يمني مقيم في بريطانيا


في الخميس 14 أكتوبر-تشرين الأول 2010 04:43:15 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=8108