|
ما أكثر المرات التي يزعم فيها القادة العرب أن عليهم أن يثبتوا للعالم أمرا ما! فقبل أيام قبلوا الدخول في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل ليثبتوا للعالم – بزعمهم - أنهم "مع السلام" و لكي لا يدعوا للخصم حجة. زعموا ذلك أيضا عندما قبلوا بالمفاوضات الغير مباشرة مع إسرائيل و قالوا حينها إنها – أي المفاوضات - ستكون لمدة أربعة أشهر و لن تستحيل إلى مفاوضات مباشرة ما لم يتوقف الاستيطان و تثبت إسرائيل أنها جادة في السلام.
مثل ذلك قيل سنة 2002 عندما قدموا مبادرة السلام العربية، و مثله أيضا سيقال في المستقبل لدى تقديمهم مبادرة جديدة في هذا المسار أو تغطيتهم على تنازل جديد. فلماذا – إذن – هذا العذر؟
للجواب علي هذا السؤال عدة جوانب أحدها أن هذا العذر يخفي – أو هكذا يتصورون – عن شعوبهم حقيقة أن قراراتهم كانت استجابة لضغوط مورست عليهم، فيحفظون حينئذ ماء و جوههم و يدفعون عن أنفسهم تهمة الخنوع و تضييع الحقوق. و لعل قارئ هذه السطور يدرك مدى سخف هذا الخداع و كونه لا يكاد ينطلي على أحد ما عدا أصحابه.
من جانب آخر يأتي هذا العذر كمثال على لغة خاصة لا تستعملها أمة إلا في مرحلة معينة من تاريخها. و لأن العجز و الخنوع هما عنوان هذا المرحلة الراهنة من تاريخنا فإن لغتها تحوي أمثال هذه الأعذار و المسوغات التي ما كانت لتكون لو أننا كنا في عزة من أمرنا و منعة. و لا نحتاج لأن نسهب في أمر هذا العجز و ذلك الخنوع، فهذا موضوع قد أشبعه الكتاب بحثأ و تقليبا، قديما و حديثا.
علي أن الجانب الأكثر إثارة – لكاتب هذه السطور على الأقل – يكمن في أن هذا المبرر يشي بوجه من الوجوه بكيفية تصور هذه القيادات للعالم ( و الغرب خاصة) من حولها و علاقتها به. يفترض هذا التصور أساسا أن لدى العالم مجموعة من الانطباعات السيئة عنا نحن العرب و المسلمين: كالانطباع بأننا متطرفون و غير مرنين في معاملاتنا و عنيفون في سلوكنا و متخلفون و غير واقعيين و عاجزون عن مجاراة الواقع و انتهاز الفرص و غيرها، و أنه متى ما عالجنا هذه الانطباعات و تخلصنا من آثارها فإن العالم سيقف معنا و نحن ندافع عن قضايانا و سيناصرنا في استعادة حقوقنا، و هذا بدوره سيساعدنا في حل العويص من مشاكلنا.
لا يقتصر هذا التصور على القادة و السياسيين و من في ركابهم من كتاب و صحفيين بل يتعدى هؤلاء إلى بعض المفكرين و الأدباء و الدعاة؛ إذ تعتقد هذه الفئة أن هذه الانطباعات – حقيقة كانت أم افتراءا - يمكن تغييرها بمواقف – كهذه - واقعية و عملية وغير حماسية أو انشائية، كما تصفها في أدبياتها، فالسياسة عندها "فن الممكن".
مكمن الخطأ في هذا التصور عدة أمور:
أولا: أنه يتناسى أن هذه الانطباعات لم تأت من فراغ و ليست سواءا، فمنها ما له سياق تاريخي كالصراع بين الشرق و الغرب و الحملات الصليبية و الفترة الاستعمارية؛ و منها ما له مبرراته في عبثية سياساتنا و فظاعة تصرفات البعض منا وسوء أوضاعنا الراهنة؛ و منها ما يأتي في سياق صراع المصالح بيننا و بينهم.
ثانيا: أن هذا تصور غير واقعي للعالم من حولنا. فالعالم ما زال – كما كان دائما - تحركه المصالح. و ما زالت مصالح الأقوياء مقدمة علي مصالح الضعفاء، فإذا تم لأمة من الأمم تحقيق مصالحها و لو كان في ذلك من ضرر الآخرين و أذاهم الكثير، فلن تتورع عن ذلك.
ثالثا: أن الحقوق لا يستعيدها إلا أصحابها المطالبون بها. و أن الآخرين و إن تعاطفوا معنا و ناصرونا و ساندوا قضايانا، فأن هذا السند و تلك المناصرة لا تعدو أن تكون معنوية تساعد على النصر و لكنها لا تصنعه.
و لو أنهم فكروا مليا لما وجدوا خطة أنجع في تصحيح هذه الانطباعات من أن تكون لدينا علاقة صحية مع هذا العالم. هذه العلاقة الصحية لا تكون إلا بالاحترام المتبادل و المعاملة بالمثل. أما علاقة التابع و المتبوع و العصا و الجزرة و الضعيف و القوي و المتقدم و المتخلف فهي كلها علاقات مرضية تزيد من مثل هذه الانطباعات و لا تنقصها.
إننا لا ندين لهذا العالم بشيئ حتى نثبت له شيئا، و مهما صنعنا فلن نكسب احترامه ما دامت هذه حالنا و تلك مواقفنا. فالعالم لا يكن احتراما للضعفاء لاسيما أمثالنا الذين هم في كثرة من العدد و وفرة من المال، إذ ما يقعد بمن توافرت له أسباب القوة عنها إلا ضعف الهمة و خور العزيمة و غياب الطموح، و هذه أمور لا تجلب لأصحابها إلا الازدراء و قلة الاحترام. و إننا و هذه حالنا و تلك مواقفنا لنأتي – و يا للمفارقة – من الأمور ما ندعي الفرار منه و نقع في عين ما نحتاط من الوقوع فيه. و هل نحن اليوم أحسن حالا من إخوان لنا – إبان زحف التتار -كانوا ينتظرون الجندي التتري ليذهب فيحضر مديته و يجتز رؤوسهم، أو من أولئك الهنود الذين خاطبهم غاندي ذات يوم قائلا: لو كنتم ذبابا يطن في أذن الانجليز لخرقتم آذانهم. و هل يستحق الاحترام قوم يعتقدون أن 99% من حلول مشاكلهم بيد غيرهم.
و لعل الأحرى بهؤلاء القادة إن أرادوا إثبات شيئ أن يثبتوه لنا نحن – رعاياهم و شعوبهم. فليثبتوا لنا أنهم ليسوا طائفيين و لا عنصريين و لا دعاة فتنة، فتختفي هذا الآفات من بلداننا؛ و لتتسع صدورهم لمُواليهم و مُعارضيهم، فتسعنا جميعا أوطاننا؛ و ليثبتوا لنا أنهم مصلحون و ليحاربوا الفساد في أنفسهم و مجتمعاتهم، فيصلح حالنا؛ و ليثبتوا لنا أنهم أحرار ديمقراطيون يدافعون عن حرية شعوبهم و يُحَكموها في أنفسهم و سلطانهم، فنعز بهم و يعزوا بنا؛ و ليرونا من أنفسهم غيرة و أنفة ألا يضيع لها حق و لا تصاب لها كرامة و لا يهان لها كبرياء. ليفعلوا ذلك و أنا كفيل لهم بأن ينظر إليهم العالم بقدر عظيم من الاحترام و المهابة يعادل أضعاف ما يلقونه اليوم من الازدراء و الاستخفاف.
في الخميس 12 أغسطس-آب 2010 10:19:51 م