رَحَل علاو وبقي يحيى
حبيب العزي
حبيب العزي

بينما كنت منهمكاً في عملي وبين أوراق مكتبي محاولاً استباق عقارب ساعتي لإنجاز ذاك العمل الذي كان في يدي ، إذا بعقارب الزمن كانت أكثر سرعة لتتجاوزني وعقارب ساعتي الصغيرة ، وتقفز بي إلى حيث اللحظة التي يتوقف معها كل إحساس بالحياة واللهث وراءها ، إنها لحظة سماعي لخبر وفاة الإعلامي الكبير يحيى علاو رحمة الله عليه ، وبذات اللحظة وجدت نفسي أتمتم وبشكل عفوي ولا إرادي لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، إنا لله وإنا إليه راجعون ووجدتني عاجزاً عن حبس بعض عبرات تساقطت على خدي ، ربما ألماً على فقدان علم من أعلام الصحافة والإعلام اليمني ، وربما كانت وفاءً لأستاذ لطالما تعلمنا منه الكثير عبر الشاشة الصغيرة .

وبذات اللحظة وجدت نفسي أغرق في بحر من التفكير ، عميق بمقدار عمق الحقبة التي بدأت معها رحلة نجاحات وتألق ذاك الراحل العزيز على نفسي ، مع أنني لا تربطني به علاقة شخصية مباشرة ، سوى علاقة الشاشة الصغيرة بالمشاهد ، وبدأت أغوص في أعماق ذاكرتي لأستخرج منها بعض ذكريات من ألقه ، فكان عالم عجيب هو البداية التي شكلت ملامح إعجابي بأدائه الرائع و المتميز ، إنه البرنامج الذي استهواني وأنا لازلت طالباً في المرحلة الإعدادية لدرجة أنني كنت أقوم بتسجيل العديد من حلقاته على أشرطة الفيديو آنذاك .

تذكرت .. ذاك المشهد الاستثنائي والجريء للراحل ورفيق دربه الإعلامي المتميز كذلك الأستاذ / عبد الغني الشميري ، في نشرة الأخبار الاستثنائية التي جمعتهما معاً على التلفزيون في أول يوم تفجرت فيه حرب صيف عام 94م ، وإعلان الانفصال من قبل البيض وزمرته الانفصالية آنذاك ، حيث كان الراحل أول صحفي يجرؤ على قراءة مثل ذاك الخبر الحساس آنذاك ، والذي كانت تكمن حساسيته في أن البيض كان منصبه نائباً للرئيس حينها ، ويُنْعتُ في نشرات الأخبار بهذه الصفة ، فمن هو المذيع الذي سيجرؤ – هكذا بين عشية وضحاها - على الظهور ليقرأ ما نصه ( ... الخائن البيض وزمرته الانفصالية ... الخ ) في تلك اللحظة التاريخية ، والتي عكست مدى وحدوية ووطنية هذا الراحل الكبير .، كما تذكرت ذاك الثنائي الرائع من خلال الكشكول – إن لم تخونني الذاكرة - ، والذي قدما فيه باقة من الحلقات المنوعة التي كانت تحظى بإقبال كبير آنذاك .

تذكرت .. ذاك الصوت الذي أجاد وأبدع في فن الكتابة للصورة منذ أول يوم عرفته في عالم عجيب قبل حوالي عشرون عاماً أو تزيد ، وانتهاءً بـ أسواق شعبية و أولي العزم الذي كنت أتابع إحدى حلقاته على قناة السعيدة قبل يومين فقط من رحيله .

تذكرت .. البدايات الأولى لفرسان الميدان ، وكيف كنا نتسابق على مجالس السمر نحن والأصدقاء لمتابعة ذاك البرنامج الأشهر – محلياً – على الإطلاق ، ثم تذكرت تلك اللفتات الإنسانية والقيمية والأخلاقية التي كانت تعكس لي وللمشاهد مدى نُبل وصفاء جوهر ذاك الرجل – الإنسان - ، حين كنت أحس وكأنه ينتقي الفئات والأفراد ، من أولئك الناس الذين أجهدهم الفقر في مناطق مختلفة من الريف اليمني ، والذي كان يبدوا لي وكأنه يحبذ أن تقع جوائز برنامجه عليهم تحديداً .

لا زلت أتذكر .. ذلك المشهد للراحل في إحدى حلقاته مع تلك العجوز التي بلغت من العمر عتيا ، وهي لازالت تعمل في الحقل الزراعي في أحد الأرياف ، ورغم محدودية معرفتها بدا صبوراً عليها وكأنه مُصِر على أن تكون جائزة ذاك السؤال من نصيبها ، لما يراه من بؤس حالتها وهي في تلك السن ، وفعلاً كانت من نصيبها .

تذكرت .. وتذكرت .. وتذكرت ..

تذكرت أن العظماء والناجحون فقط هم من تبدأ حياتهم عند رحيلهم ، فكم من أناس نراهم أحياء على هذه الأرض ولكنهم في الحقيقة أموات ، وأحسب أن راحلنا العزيز لم يمت ، ولكنه غادر دار الفناء إلى جوار ربه – وأي جوار لعمري أفضل من ذاك الجوار ، وأحسب كذلك أن له من اسمه نصيب ، فهو وإن رحل عنا فسيبقى يحيى في ذاكرتنا ، وسيبقى يحيى فينا ومعنا من خلال ذاك الإرث الكبير من الألق والتميز والنجاح ، الممتد منذ ثلاثة عقود مضت ، والذي تعلمنا منه وسنظل نتعلم الكثير والكثير .يا كوكباً ما كان أقصر عُمره * * وكذاك عُمر كواكب الأسحارِ إن الكواكب في علو مكانها * * لتُرى صغاراً وهي غيرُ صِغار أبكيه ثم أقول معتذراً له * * وُفِّـقْتَ حين تركتَ أَلْأَم دارِ جاورتُ أعدائي وجاور ربه ¬¬¬* * شتان بين جواره وجواري ختاماً : إن بعضاَ من كلمات الرثاء .. ربما لا تفي للفقيد حقه ، ولكن حسبنا أن يتقبل ربنا سبحانه وتعالى منا هذا الدعاء ، فقولو معي :

اللهم اغفرله وارحمه ، وأكرم نزله ، ووسع مدخله ، ولا تحرمنا أجره ، وأسكنه فسيح جناتك ، وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان ، وإنا لله وإنا إليه راجعون .


في الأربعاء 16 يونيو-حزيران 2010 04:09:25 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=7347