عابر سبيل في رحاب المدينة الفاضلة
د. محمد معافى المهدلي
د. محمد معافى المهدلي

نود من خلال هذا المقال أن نخرج تماماً عن نمط الكتابة الجائرة المعتادة في صحافتنا، نمط الظلم والجور والبغي والاعتداء ، ونكران جوانب الأمل والخير والإشراق في أمتنا ، رغم كثرتها الكاثرة .

صحيح أننا بلا شك في أزمنة الظلم والجور ، لكن ثمة ظلماً وجورا يرتكب يغفل عنه الكثيرون ، لعل من أبرز مظاهره ، التعدي والظلم والبغي الصحفي والإعلامي في الحديث عن سوداوية عصرنا وظلمته المعتمه ، والتعامي عما فيه من جوانب مضيئة ومشرقة وجميلة ورائعة وبديعة ، تملأ أرجاء هذا الكوكب الفسيح ، ولو لم يكن في عالمنا بعض خير وإيمان وصلاح ، لذهب الله به وأقام الساعة ، فالساعة إنما تقوم على شرار الخلق وخلو الأرض من الصالحين أو المصلحين .

لا أخفي القارئ سراً أنّ الحديث الذي سأسطره هنا ليس من قبيل نسج الخيال ولا يعد وهماً من الأوهام ، أو رؤية منامية رائعة ، أو طيبة قلب زائدة ، أو رؤية سطحية غافلة ، كما يفهم من عنوان المقال ، بل هو حقيقة واقعية مسطرة يعرفها كثير من الناس ، لكن ثمة موانع تمنع من الحديث والإفصاح عنها ، ربما لعلّ من أبرز هذه الموانع العصبيات الوطنية والطائفية والحزبية.

لا أرى مناسباً هنا التطرق تفصيلاً إلى هذه الموانع ، فموضوعنا هو الحديث عن المدينة الفاضلة ، التي أجزم أنها ليست معدومة على كوكب الأرض ، بل ستجدونها في كثير من المواطن في أمتنا المليئة بالخير والبركة وإلى أن تقوم الساعة ، قد تجدون بعض أجزاء هذه المدينة الفاضلة على ضفاف نهر النيل الأزرق أو الأبيض ، أو في عمق صحراء حضرموت اليمن ، أو في بعض أجزاء من جزيرة الإسلام ، الجزيرة العربية .

ربما أيضاً قد لا تكون هذه المدينة الفاضلة بهذا الوصف في محيط محدد جغرافي إلا أن أجزاءً منها في هذه البقعة من الأرض أو تلك ، إنها قَطعاً موجودة على خريطة العالم الإسلامي ، وأجزم أنها غير موجودة قطعاً على خريطة أوربا أو الأميريكيتين ، رغم ضجيجهم الإعلامي الفج في الحديث عن نهاية التاريخ ، وأنهم بلغوا منتهاه.

أول ما يلفت ناظريك في المدينة الفاضلة هو قلة أجهزة الأمن في هذه المدينة ، ليس لأجل نقص في العدد أو الإمكانيات ، أو أن كل من فيها هم أجهزة أمن ، بل الحاجة إليها نادرة جداً ، فالمدينة الفاضلة هي مدينة السلام والحب والتآخي بين الناس ، شعب المدينة الفاضلة شعب مثقف متحضر ، رغم بدويته ، فلا يحتاج إلى ثكنات عسكرية تسيّره ، أو تسوقه سوقاً بالحديد والنار ، فهذا أمر لا تجده في المدينة الفاضلة ، وأذكر أنه وقعت مرة جريمة سرقة لأسطوانة غاز ، في ليلة باردة مطيرة ، وأنه تم استعادة هذه الأسطوانة ، في نحو عشر دقائق ، حيث أحاطت أكثر من عشرين سيارة نجدة بالحي ، إلى أن تم القبض على السارق ، في غضون عشر دقائق!! .

في المدينة الفاضلة تختفي الفوارق والعصبيات ، فحين تتقدم لعمل ما في الجامعة أو غيرها من مؤسسات المدينة الفاضلة ، لا تحتاج إلا إلى ملف تضع فيه مؤهلك ، ولا تحتاج في المدينة الفاضلة ، إلى وساطة أو تزكيات من خمسين عالماً ، كما لا تحتاج إلى المرابطة لعام أو عامين على باب رئيس الجامعة ، ونظرة يا حضرة ، ولا يحتاج أيضاً أن تحمل على بطنك خنجراً أو تحمل سلاحاً ، لتأكيد الهيبة والرجولة الكاذبة ، كما لا يحتاج أن تحمل على رأسك عمامة ضخمة ، ولا يحتاج أن تصطحب معك شخصاً يعرّف بك أنك من قبيلة كذا ، المعروفة بالبطولة والجهاد ، بل يكفي أن تأتي بورقة أو ورقتين يتيمتين في ملفك لا أكثر ، تثبت بها مؤهلك وجدارتك لهذا العمل ، عندها مباشرة يلقاك الموظف المختص بالسلام والترحاب ، الخالي من الابتسامة الصفراء.

وبالطبع لا يجرأ الموظف المختص أن يسألك بعض الأسئلة المحرّمة بتاتاً في المدينة الفاضلة ، مثل الأخ مِن أين ؟!!!!، لأن المدينة الفاضلة تلغي دور العصبية الجاهلية ، وتعتبر الناس جميعا سواسية كأسنان المشط ، بصرف النظر عن بلدانهم وأوطانهم وقبائلهم واتجاهاتهم وقناعاتهم ورؤاهم الفكرية أو الثقافية أو انتماءاتهم المذهبية ، أو أشكال عمائمهم الهندسية.

لا يحتاج الأمر لتعيينك كثرة الذهاب والخروج على حضرة رئيس الجامعة ، عافاه الله ، والتزلف إليه ، وأن تمدحه بأنه مجدد القرن الخامس عشر الهجري ، ولا أن تثبت بين يديه أنك من الأولياء والصالحين من خلال المظهر الكاذب ، أو أن الآخرين ينقصهم معيار \"التزكية\" بل تنتظر بضعة أيام ريثما يتم فحص أوراقك ، والتأكد من الحاجة إليك ، ليصلك اتصال هاتفي بضرورة حضورك إلى الإدارة .

وفي المدينة الفاضلة تجد بجوار المدينة الجامعية ، المدينة السكنية ، والتي أعدت بكل الخدمات ، من مياه وكهرباء وصرف صحي ، وهاتف ، وشوارع وطرقات ، وكل ما يحتاجه مواطنوا المدينة الفاضلة ، حيث يعد كل شيء في المدينة السكنية ويجهز قبل أن تبنى حبة طوب واحدة ، الأمر الذي يكشف لك أهمية التخطيط في المدينة الفاضلة .

وفي المدينة الفاضلة يبنى المسجد قبل أي شيء آخر ، كما تَهَب المدينة الفاضلة مواطنيها قطع الأراضي ، وفق الأسبقية في التسجيل ، بغض النظر عن أي معيار آخر ، كالقرابة أو الوظيفة أو المركز الاجتماعي ، أو القبيلة أو من حزب الرئيس ، أو من قبيلة الشيخ أو حرسه الخاص ، أو غيرها من الترهات ..الخ.

وفي المدينة الفاضلة لا تجد متسولاً أو مجنوناً يجوب الشوارع ، فالمدينة الفاضلة كفلت للجميع حد الكفاية ، لا حد الكفاف ، فللمسنين رواتب تكفيهم ، وللمطلقات والعوانس ومن في حكمهم ما يكفيهم للعيش الكريم ، وللمزارع راتب شهري ، بحسب ما لديه من أنعام ، سعياً من المدينة الفاضلة لتشجيع مزارعيها ، حتى لا تُهجر الأرض ، فالأرض في المدينة الفاضلة تعني الشيء الكثير ، فهي أغلى من الذهب والفضة والبترول ، لأنها مصدر الخيرات والبركات ، ولذا فالمدينة الفاضلة تبذل قصارى جهدها لارتباط المواطن بأرضه .

وفي المدينة الفاضلة أول ما يدهشك القضاء العادل والنزيه والنظيف ، فمن الخيال المحال أن تتصور أن قاضياً مدخناً ينفث سيجارته في أروقة المحكمة ، دون نظر إلى قانون أو ذوق أو أدب ، فالقضاة في المدينة الفاضلة هم العلماء والأئمة الأبرار ، علماً أنه ليس في المدينة الفاضلة محاكم غير شرعية ، فكل المحاكم في المدينة الفاضلة محاكم شرعية ، ولا يجوز أن يتولى مهنة القضاء سوى العلماء المعروفون بالخير والصلاح والعلم والفقه ، والمشهود لهم بالعدالة والوسطية.

وفي المدينة الفاضلة تجد التعليم متنوعاً بلا غضاضة أو إشكال ، ففي المدينة الفاضلة تجد التعليم الديني على سبيل المثال يحظى بغاية العناية والرعاية ، ومدارس تحفيظ القرآن الكريم ، أشبه ما تكون بالجامعات من ناحية المباني والمعامل والإدارات والأروقة الأشبه بمعرض فكري ما أن تدخلها حتى تأبى قدميك مغادرة المكان ، لما تجده من اللوحات والمجلات الفنية التي تأسر قلبك قبل ناظريك .

وفي المدينة الفاضلة تجد شرطة اسمها شرطة الآداب العامة وحماية الفضيلة ، هذه الشرطة تؤدي دوراً رائعاً ورائداً في حماية الدين والأخلاق ، فلا تكاد تجد المعاكسات أو التبرج والسفور أو المجاهرة بالمنكرات.

ليوم الجمعة في المدينة الفاضلة مذاق خاص ، وطعم آخر ، فمذهبنا ومذهب جماهيرنا من طلبة العلم المستفيدين ، أننا لا نحضر لصلاة الجمعة إلا قبل أن يصعد الإمام المنبر ببضع دقائق ، وهو الأمر الذي ترفضه أعراف المدنية الفاضلة ، بل يجب التبكير - الوجوب وجوب عرفي لا شرعي - عندهم لصلاة الجمعة.

ففي يوم الجمعة 24/4/1431هـ زرت صديقي أبا علي ، وهو مع أميّته إلا أنه لا يكاد يفوته صيام الإثنين والخميس ، جئته قبل صلاة الجمعة بنحو ساعة ونصف ، وهو في حالة انزعاج شديد بسبب تأخره عن التبكير للجمعة ، على خلاف مذهبنا ومذهب الجماهير ، وحينما دخلنا المسجد سارع إلى الصف الأول ، حاولت ثني الرجل عن الصف الأول وقلت له الأفضل عند بعض العلماء الجلوس بين يدي الخطيب ، قبالته وبين يديه ، ولو جلسنا في الصف الأول أو الثاني ، فالمهم الجلوس بين يدي الخطيب ، إلا أنّ الرجل بحاسته الإيمانية ، رفض هذه الفتيا الفقهية ، فقد شعر بحسه الإيماني أن فُتايي إنما تدور مع العمود حيثما دار ، فنفسي تميل إلى أعمدة المسجد ، أكثر مما تميل إلى الجلوس بين يدي الخطيب ، ولذا أبى أن يتزحزح عن الصف الأول ، الأمر الذي جعلني أجلس معه ، قائلاً في نفسي ، اللهم إيماناً كإيمان أبي علي .

شعرت بسعادة غامرة وحلاوة لا توصف للتبكير لصلاة الجمعة ، ففي التبكير من الأنوار والمواهب الربانية والفيوضات الرحمانية والكرم والمكارم الإلهية ، والخير والبِشْر والجمال النفسي ما لا يوصف ، حينها عزمتُ على ترك مذهبي ومذهب جماهيرنا ... سيما بعد سماعي لخطيب الجمعة الذي لا يقل مستواه العلمي عن درجة الدكتوراه .

فالمدينة الفاضلة لا تلقي بآلاف الناس بين يدي الأميين أو أنصاف المتعلمين أو بعض المخرفين والمبتدعة والمضلين ، أو أئمة الغلو والتطرف ، ليعبثوا ويلهوا بعقول الناس كيف شاءوا ، بل تحرص المدينة الفاضلة على اختيار الخطباء المؤهلين علمياً وشرعياً ، ممن يدينون بالحب والولاء لدينهم ومجتمعهم ومدينتهم الفاضلة ، من ذوي العلم والفقه والتدين الوسطي .

أختم هذه المقالة بالقول بأنه لا شك أن ثمة زوايا مظلمة ولا بد في المدينة الفاضلة ، ولو لم يكن ثمة سلبيات وزوايا غير حميدة ، لكانت هذه المدينة المباركة جنة الدنيا ، لكن يأبى الله إلا أن تكون الدنيا دار ابتلاء بالخير والشر ، إلا أنني هنا حرصت على إبراز الجوانب المشرقة دون المظلمة أو الموحشة ، ليلتئم العنوان والموضوع ولا يتنافرا ، وتركت الحديث عن الأخطاء والسلبيات لأقلام الصحفيين ووسائل الإعلام ، التي كما يعلم الجميع ، هي صاحبة السبق والسابقة واليد الطولى في هذا الميدان ، وإنما حرصت كما ذكرت على مغايرة هذا الأسلوب الصحفي الجائر ، فإن وفقت فمن الله وإن أخفقت فمن نفسي والشيطان ،،،

والله من وراء القصد ، والحمد لله رب العالمين ،،،


في الإثنين 19 إبريل-نيسان 2010 07:44:23 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=6925