هل الصراع في مأرب بأيدي خفية؟
أ.د.عبدالوهاب العوج
أ.د.عبدالوهاب العوج
  

في الوقت الذي تخوض فيه مأرب حرب استنزاف مفتوحة مع المليشيات الحوثية، انفجرت في قلبها اشتباكات قبلية مسلحة بين فروع من قبائل عبيدة في مديرية الوادي، وتحدثت مصادر محلية عن مواجهات متقطعة بين أسر من آل فجيح وآل حتيك وآل قماد وآل مسرعان، واستخدام للأسلحة المتوسطة والثقيلة وما ترتب على ذلك من أضرار على السكان والنازحين (مصادر محلية، 2025). هذا التطور يعيد طرح سؤال “الأيدي الخفية” التي تغذي الصراع داخليًا في لحظة حساسة من المعركة الأشمل على المحافظة ومقدراتها النفطية والغازية والكهربية.

 

هذه الاشتباكات، مهما بدا طابعها محليًا، ليست حدثًا عابرًا في سياق حرب مركبة، فهي تفتت لحمة الصف الداخلي، وتفتح ثغرات أمنية وسياسية لطالما سعت جماعة الحوثي لاستغلالها إبان محاولاتها المتكررة للوصول إلى مدينة مأرب منذ 2020 (تقرير مركز صنعاء، 2023)، وقد بيّنت تحليلات أن صمود المدينة ارتكز على تماسك القوى القبلية المحلية، خصوصًا داخل عبيدة، وعلى دعم جوي وإسناد لوجستي من التحالف (دراسة مركز الخليج للأبحاث، 2022)، ما عنى أن أي تصدع قبلي يترجم مباشرة إلى خسارة تكتيكية على خطوط التماس.

 

الأثر الاقتصادي للنزاعات القبلية لا يقل خطورة، فالاشتباكات تعرقل طرق الحركة والتجارة نحو صافر ووادي عبيدة، وتزيد المخاطر حول منشآت النفط والغاز التي تشكل شريانًا ماليًا وإمداديًا حيويًا للمحافظة والدولة (وزارة النفط اليمنية، 2024). و لقد ظل الحوثيون ينظرون إلى السيطرة على موارد مأرب النفطية والغازية والكهربائية بوصفها هدفًا استراتيجيًا يغيّر معادلة الحرب (معهد واشنطن، 2023)، ما يجعل كل اضطراب أمني داخلي بمثابة مكسب مجاني لهم.

 

صورة الدولة في وعي المواطنين تتأثر بدورها عندما تتكرر حوادث الثأر وتتعطل وساطات التهدئة وتغيب استجابة أمنية حازمة وسريعة، فتتآكل الثقة في قدرة الحكومة على فرض النظام وحماية السلم الأهلي (تقرير هيومن رايتس ووتش، 2023)، ويتنامى الخوف من انزلاق مأرب من نموذج للصمود والإدارة النسبية إلى ساحة لتصفية حسابات قبلية، وهو ما حذرت منه تقارير بحثية أشارت إلى أن أي اختلال طويل الأمد في مأرب سيهز توازنات اليمن كله نظرًا لزخم النزوح الداخلي والاقتصاد المحلي والرمزية السياسية التي راكمتها المحافظة منذ 2015م وحتى الان (برنامج الإنذار المبكر للنزاعات، 2024).

 

أما سؤال “الأيدي الخفية”، فله بعدان داخلي وخارجي، داخليًا، تتداخل اعتبارات النفوذ داخل البنية القبلية نفسها، وتتنافس مرجعيات وسلطة عرفية على إدارة الأرض والسلاح والموارد، وخارجيًا، لا يمكن فصل ديناميات القبيلة في الشمال عن محاولات أطراف متعددة التأثير في مساراتها عبر دعم شيوخ أو تسويات أو توظيف شبكات ولاء قديمة (دراسة المعهد الملكي للشؤون الدولية، 2021). وقد وثّقت أبحاث تغير مقاربات قوى إقليمية تجاه قبائل الشمال، أحيانًا بتغليب إدارة التوازنات على بناء مؤسسات ضابطة، وهو ما يترك فراغات تستغلها جماعات مسلحة عند كل اهتزاز أمني.

 

ولفهم عمق الإشكال في اليمن، لا بد من العودة إلى الإرث التاريخي للصراع بين “السلطة الإمامية” والبنى القبلية، فقد نهضت الإمامة الزيدية منذ القرون الوسطى وحتى سقوطها عام 1962 على ثنائية الشرعية الدينية للسادة والتوازنات القبلية المحلية، وحافظت على حكمها طويلًا عبر سياسات “فرّق تسد” وتدوير الحروب الصغيرة وشراء الولاءات (وثائق الأرشيف الأمريكي، 1960)، وهي ممارسات تركت أثرًا اجتماعيًا طويل الأمد في علاقة القبيلة بالدولة.

 

هذا الإرث لا يطفو فقط في الذاكرة، بل يظهر في آليات إنتاج السلطة والشرعية داخل المجتمع الشمالي حتى اليوم، حيث يستدعى النسب والوساطة والصلح كأدوات إدارة للخلاف، ومع ضعف مؤسسات الدولة تتوسع مساحة “سوق القوة” وتتكاثر الوسطاءات غير الرسمية (جامعة أكسفورد، 2019). وقد ناقشت أبحاث أكاديمية كيف تعاقبت أشكال الدولة في اليمن بين سيطرة أئمة الزيدية على المرتفعات وسيطرة كيانات ساحلية أو استعمارية على السواحل، ما أنتج ازدواجية مزمنة في مصادر السلطة والقانون.

 

وتضاف إلى ذلك طبقات لاحقة من التعقيد في حقبة ما بعد 2011، حيث أعادت حروب القاعدة وتموضعات السلفيين وأنماط النزوح والهجرة الداخلية في تشكيل الجغرافيا القبلية في مأرب ووادي عبيدة، ووفرت مناطق التماس والفراغ الأمني هوامش حركة لجماعات مسلحة او قوى قبلية نافذة (تقرير الأمم المتحدة عن اليمن، 2022)، وكلما اشتعل نزاع قبلي ارتفعت شهية هذه الجماعات لاستغلاله، وازداد الضغط على موارد الأمن المحلية.

 

التجارب السابقة داخل اليمن تكشف خطورة ترك النزاعات القبلية دون حسم، ففي حروب صعدة الست بين 2004 و2010 كان توظيف الانقسامات القبلية أحد عوامل تمدد الحوثيين (مركز دراسات الجزيرة، 2011)، وفي ما بعد 2015 ساهمت خصومات محلية في شبوة والبيضاء والجوف في فتح ثغرات عسكرية، بينما أظهرت مأرب، حين توحدت مرجعياتها القبلية خلف قيادة واحدة، قدرة على صد أعنف هجمات الحوثيين (المركز العربي للأبحاث، 2020).

 

إقليميًا، تشبه مأرب في لحظتها الراهنة تجارب مدن سورية وليبية تحولت فيها النزاعات الداخلية إلى “كعب أخيل او حصان طراوده” للجبهات، إذ تراجعت القدرة الدفاعية بمجرد تفكك شبكات الوساطة المحلية (معهد كارنيغي، 2019)، ما يعني أن بناء مؤسسات إنفاذ القانون والتحكيم الأهلي المؤسسي ليس ترفًا، بل شرط عسكري لإدامة الصمود، وهو درس تؤكده تقارير الإنذار المبكر التي تضع مأرب كنقطة ترجيح في المشهد اليمني.

 

نظرة تحليلية:

وإذا نظرنا إلى المسار التاريخي، نجد أن ما يحدث اليوم في مأرب ليس مجرد صدفة، بل هو امتداد لأسلوب حكم الإمامة الزيدية في اليمن لعقود طويلة، حيث اعتمدت على تفتيت البنية القبلية عبر إثارة النزاعات الداخلية وشراء الولاءات وإعادة إنتاج منظومة الولاء الشخصي بدل الولاء الوطني (وثائق الأرشيف البريطاني، 1959).

هذا النمط يتكرر اليوم في سلوك الحوثيين، الذين ورثوا الأدوات ذاتها تقريبًا: استخدام الخلافات القبلية كسلاح استراتيجي، وتوظيف وسطاء محليين لإطالة أمد الصراع، وحرمان أي طرف من بناء سلطة مركزية قوية،

و الفارق الوحيد هو أن الحوثيين يعملون في بيئة أكثر تعقيدًا بفعل الانقسام السياسي اليمني الواسع وتدخل أطراف إقليمية و دولية، لكن الجوهر واحد وهو إضعاف تماسك المجتمع المأربي من الداخل ليتسنى السيطرة عليه بأقل تكلفة عسكرية، وليس كما حدث من انكسار وهزائم في نوفمبر 2021م، وهذا التشابه التاريخي يجعل من الضروري أن تدرك جميع القوى المحلية في مأرب أن كل نزاع قبلي غير محسوم ليس مجرد خلاف داخلي، بل جزء من لعبة أكبر تُدار بخيوط تتجاوز حدود المحافظة.

  
في الجمعة 15 أغسطس-آب 2025 05:00:36 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=47768