ومن السذاجة ما قتل
احمد عبد الله مثنى
احمد عبد الله مثنى

... أفضل تسمية يمكن أن نطلقها على عصرنا هذا في عالمنا العربي -تحديدا- هو أنه عصر الفوضى في كل المجالات دينية أو سياسية أو علمية أو طبية، فقد غشيت هذه المجالات وغيرها غشاوةُ التطفل وضبابيةُ التعالم، بحثا عن شهرة جوفاء، أوسمعة خرقاء ، لا تزيد طالبها إلا تورما خبيثا لا دواء للمجتمع منه إلا أن يستأصل، حتى لا نحسب الشحم فيمن شحمه ورم.

فكل منا يمتطي صهوة فرس لا يملكه، ولا يعرفه فأنى يجيد ركوبه، وفي المثل الخيل تعرف خيالها. .. وهذا الأمر أدخلنا دوامة لا تنتهي ودهاليزَ لا نهاية لها، نتج عنها هذه الفوضى المضحكة أحيانا والمبكية أحيانا كثيرة. .. قلب طرفك في أرجاء وطننا العربي، وفي سماء ثقافتنا. وإن كان لها سماء، فهي سماء ملبدة بغيوم يتبعها عارض غير ممطر ولا شك. بل هو عارض مشؤوم. .نسأل الله السلامة. و بلغ الأمر من السوء -أخي الكريم - أضعاف ما نتصوره، يراه كل من أجال بصره فيه ولو بنظرة خاطفة. ولو أننا فهمنا كيف نصنع الحياة بطريقة إبداعية لكان الأولى بنا أن تكون هذه المجالات يخدم بعضها بعضا، فنحن اليوم نعيش في عصر الإبداع الجماعي؛ الناتج عن تكامل التخصصات. أما الإبداع الفردي فقد ولى زمانه أو أصبح محدودا جدا، في حدود المساهمة والاجتهاد في العمل وتقديم المبادرات. ولم يعد هناك (الفرد المعجزة ).

ولكننا أمام ظاهرة جديدة (التكامل الإبداعي ) كما ذكرت وكلما زاد التطور تضاعفت عقد هذا العصر، وتضاعفت الجهود المبذولة لمعالجة الآثار السلبية على الفرد والمجتمع. واليوم نجد الأمم شرقا وغربا مع كل أزمة تحدث تتداعى لإيجاد الحلول وتتحرك قوافلها العلمية، كل في مجاله للبحث والتنقيب والعمل الدؤوب بصبر جميل، ورباط محكم؛ وحركة دائبة على مدار الليل والنهار لا يفترون. وأما نحن فإن كل أزمة تفتح أبوابا واسعة لأهل الدعاوى العريضة، والأفكار المريضة،

والتخرصات الغريبة. تخرصا وأحاديثا ملفقة ليست بنبغ إذا عدت ولا غرب. ولقد مضى علينا حين من الدهر ونحن نسمع ما بين فترة وأخرى أناسا تتطاول ألسنتهم على مقام شريعتنا الغراء بالافتاء فيها أو التصدر للحديث عنها ونزع راية التفكير الإسلامي، والعجيب أن الواحد منهم لا يجيد قراءة آية واحدة صحيحة ولو كانت أقصر سورة في القرآن، وهو مع ذلك لا يحسن أن يقيم جملة واحدة سواء أراد التحدث باللغة الفصحى أو حتى حديثه باللغة العامية، فهو حديث متنافر، تتنافر كلماته عن بعضها ، ويفتقر إلى ائتلاف الألفاظ كما يفتقر إلى ائتلاف المعنى، يغرب في كلامه بما لا يكاد يفهمه هو نفسه؛ ولرقية العقرب أقرب إلى الفهم من كلامه.

، فرحا بمصطلحات جديدة يزعم اكتشافها وهي عند التحقيق لا سند لها ولا وتد، كبيت بلا عمد ولا أطناب. وآخرون من الطرف الآخر تتطاول أعناقهم قبل ألسنتهم على تخصصات علمية طبية أو كيميائية ، كلما سمعوا عن انتشار وباء أو ظهور فيروس، ظهروا علينا بتصريح موجز ( اكتشفنا العلاج )، فهذا من الشرق وآخر من الغرب، هذا معروف وذاك مجهول، كلٌ يدلي بدلوه لا يدري قعر البئر الذي سيهوي فيه. وهؤلاء يعتمدون على معرفتهم بأننا شعوب تاسرنا العاطفة وتموج بنا أمواجها ذات اليمن وذات الشمال، وتجمح بنا في كل اتجاه كجواد بلا لجام.

وما أكثر ما جنينا على أنفسنا من جراء هذه العاطفة؛ التي قادتنا ونحن لا نشعر، لأننا قد تركنا عقولنا وراءنا ظهريا. وحينما تطغى العاطفة يغيب العقل حتما. وتلك موارد الهلكة ولا شك.

وما أكثر ما أشار الله في كتابه إلى أهمية العقل دعوة لنا أن نحسن استعمال هذا العقل فيما خلق له، وأن نكبت أولئك الذين يخرجون لنا من الشرق أو الغرب فرحين مستبشرين بما لديهم من أفكار جديدة لعلاج هذا المرض أو ذاك. وقد يتوهم أحدهم أن الأمور تسير على قاعدة (ذرية بعضها من بعض )؛ أو على قاعدة شاعر بني حمدان (والأصل تتبعه الفروع )؛ لا أيها الحبيب :

الأمر ليس اصطفاء متوارثا، ولا هو ضربات حظ، بل تخصص وعلم له قواعده وأصوله، وإن أمما عظمى بلغوا في الطب مبلغا لا تخفى علاماته وآثاره حاضرا ومستقبلا ، كأمة الصين التي قيل عنها قديما: ( اطلبوا العلم ولو في الصين) . ويحق لنا اليوم أن نقول: (اطلبوا علم الطب في الصين).(بدون كلمة ولو ). إن أمما كهذه، واقفة اليوم حائرة أمام فيروس خفي لا نحس إلا آثاره. أين هو؟ من أين أتى ؟ كيف أتى ؟ كيف يتحور ؟ بأي شكل ينتقل ؟ ...الخ هذه الأسئلة التي أعجزهم فيها أضعف خلقا الله شأنا.

ونحن-قبل أن نعرف كنه الأمر وحقيقته-، قلنا: اكتشفنا العلاج. في وقت لا يزال متخصصون ينظرون إلى موضوع الفيروس نظرة ريبة، فلعله مصطنع لأمر يراد، وما خبر التهديدات بالحرب البيولوجية عنكم ببعيد. إننا اليوم أمام اختبار حقيقي، فإما أن نكون أمة جادة تنافس الأمم بما تملك من رسالة ربانية تهديها، بخطاب يعيد للعقل هيبته وسلطانه، خطاب يأرز إلى الإيمان بالعلم وتخصصاته الدقيقة المختلفة، كما تأرز الحية إلى جحرها.

خطاب يؤوب إلى إدراك دوره في الحضارة المعاصرة. حتى نتدارك سفينتنا التي تهوي إلى الغرق لولا لطف الله-جل وعلا-. وسنن الله ماضية في الأمم كلها، فإما أن نتعامل معها بفقه نابع من كتاب الله تعالى وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-، وإما أن نعرض سفينتنا للغرق.

وفرصتنا- اليوم- كبيرة جدا، حيث نشاهد تخبط الأمم وتهافت مبادئها، حتى ليكاد هذا الفيروس يخلخل سدها الحضاري الذي شيدته على أعقاب جرائم الحرب والاستعمار ونهب ثروات الأمم المستضعفة في أفريقيا وآسيا. بل لقد خلخل سدها، وكشف سوآتها، وتهافتت مبادئها. فكان الأولى بنا أن نستثمر الفرصة بخطاب جامع لعالم شريعتنا، وأن ندفع بإعلامنا في هذا الاتجاه، فلعل هذه الأزمة تنجلي عن واقع أفضل لأمتنا. وما أدراك فلعل الدور الحضاري لهذه الأمة أصبح وشيكا، إن استطعنا أن نقول للمتطفلين- أيا كانوا- كانوا منا، أو كانوا من غيرنا؛ كفوا ألسنتكم واصرفوا عنا غرائبكم، والعبوا في الميدان الذي تعرفون، وآتوا كل ذي حق حقه، تسلموا وتغنموا. و (كل ميسر لما خلق له).

ومن السذاجة ما قتل. ومن العاطفة أيضا. 


في الجمعة 17 إبريل-نيسان 2020 03:10:41 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=44871