|
إذا أعلنوا ذات يومٍ وفاة العرب..
ففي أي مقبرة يُدفنون؟
ومن سوف يبكي عليهم؟
وليس لديهم بناتٌ
وليس لديهم بنون.
وليس لديهم حزنٌ
وليس هناك من يحزنون
من رثاء نزار قباني لموتى العرب، إلى المثل الشائع بينهم «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض»، الذي أبطلوا الاعتبار به بعد أن أصبحوا لا يميزون بين الأُسُود والثيران، مرورا بالجُحر الذي لا يُلدغ منه مؤمن مرتين، إذ أنهم لا يزالون في استمتاع باللدغ كل الوقت ومن كل الجحور، بل وصل ببعضهم الأمر أن يضع إصبع قدمه بالجُحر ويُنادي: ها أنا هنا، هيّا فلتلدغني!
متى يفيق العرب ويخرجون عن العباءة الأمريكية؟ متى يعلم العرب أن أمريكا تبني سياستها في المنطقة على الأمن القومي الإسرائيلي؟ متى يعلم العرب أنهم دُمى تحركها أيادي البيت الأبيض التي تمسك بكل الخيوط؟ قالوا في المثل: «اللي متغطي بمتاع الناس…عريان»، اقتبسها أحد الرؤساء العرب فقال: «اللي متغطي بالأمريكان عريان»، لكن الرجل تعرّى بالفعل وهو عميل لهم بامتياز، كان سعيد الحظ عندما قضى بقية عمره في بيته بعد خلْعه. حكام أمتنا تغطوا بالأمريكان وهم يوقنون أن البيت الأبيض لن يستر لهم عورة، وأنهم كلهم إلى مصير الثور الأبيض، تلاعبهم أمريكا بمخاوفهم، بأوهامهم، بأطماعهم وبشعورهم الموروث بالهوان والنقص..
كالتاجر الحاذق الذي يُعطِّش السوق للسلعة، أثار الوديع أوباما مخاوف القوم بالاتفاق النووي مع إيران، فوقعوا في (حيص بيص)، فهم الذين تعودوا النوم تحت مظلة الأمن التي تضربها أمريكا، ويأتي من بعده ترامب ليجني الثمار ويحصد ما زرعه أوباما، ويغير قواعد اللعبة، تقارب أكثر مع العرب على حساب إيران، قطعا ليس من أجل العيون العربية اللوزية، الرجل كان بحاجة إلى دعم داخلي في بلاده، فلم لا يزور الرياض ويرجع إليهم بأكثر من 400 مليار دولار، هي ثمن الوعد بالحماية؟
ما أشد غباءنا السياسي ونحن نعوّل على اختلاف الإدارات في الولايات المتحدة، يا سادة السياسات العامة الأمريكية ثابتة، فقط يكون لكل مرحلة رجُلها، وكان ترامب هو رجل هذه المرحلة، مثلما كان أوباما يوما سيّدها. ولكن ترامب كان سخيًّا للغاية، ومع الجميع…
أعطى صكّ الأمان لدول الخليج ضد الأطماع الإيرانية، باعتباره حامي الحمى وشرطي العالم، وبيده خيوط اللعبة، مقابل المال والنفط والتطبيع مع الصهاينة، وقطع خطوات في الاستجابة لنداء العولمة. وطّد حكم الأنظمة الديكتاتورية، وعلى رأسهم سفاح مصر، وضرب بعرض الحائط كل الانتهاكات التي قام بها النظام الانقلابي ضد الشعب، وغض بصره عن الملف الحقوقي الأسود لزعيم الانقلاب، مقابل السيطرة على التيار الإسلامي والتوسع في تعريف الإرهاب والإسراف في البطش، بدعوى مواجهة ذلك الإرهاب، وتطويع الخطاب الديني للأهداف الأمريكية، التي حددتها مؤسسات راند وأخواتها التي تخدم صانع القرار، والأهم من ذلك التطبيع المُمنهج مع الصهاينة والتلاقي معهم كحليف، وحماية حدود دولة الاحتلال.
كان على الولايات المتحدة العمل على إبقاء الأسد، فتم تصدير «داعش» إلى الأراضي السورية لتكون شوكة في ظهر المعارضة، وأبرمت صفقاتها مع إيران لتمرير تواجد الحرس الإيراني – والأذرع الإيرانية كحزب الله والمليشيات الشيعية الأفغانية والعراقية وغيرها – في سوريا لدعم نظام الأسد في حربه، وإحداث تغيير ديموغرافي لإنتاج دولة علوية موالية لإيران، ولم تعارض التواجد الروسي في سوريا، الذي يزيد نفوذ موسكو في المنطقة، وتواجه به أزماتها في شرق أوروبا، والمقابل كالعادة هو ضمانات للأمن الإسرائيلي، تمخضت عن اعتراف أمريكي مؤخرًا بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، تلك البقعة الغالية من أرض سوريا، التي باعها الأسد الأب بثمن بخسٍ، لذا كانت خارج حسابات ابنه السفاح، لأنها ضمانة لسيطرته على سوريا.
ترامب أعطى العرب أقل بكثير مما أخذ منهم، فحتى ينعم الحاكم العربي بالاستقرار، عليه أن يلتزم بالمسار المحدد له سلفا، يذكرني بقول أحدهم لولده في إحدى قصائد محمود درويش: «التصِقْ بالتراب لتنجو»، فعلى الحاكم العربي أن يلتصق بالحضيض لا بالتراب وحسب، ولا يشد هامته لقضايا الأمة، حتى يظفر ببقاء عرشه. في مقابل الاحتفاظ بالعروش كان المقابل فادحًا، فكل التحركات الأمريكية في المنطقة حيال العرب قائمة على تسطيح القضية الفلسطينية، وسلبها محوريتها ومركزيتها في الأمة، وجعْلها قضية فلسطينية بحتة، لا إسلامية ولا عربية، وهذه هي اللغة التي أصبحت علامة مميزة في الخطاب الإعلامي للأنظمة العربية، بالتوازي مع الإغراق في التطبيع، ليجد الشعب الفلسطيني نفسه وجها لوجه أمام صفقة القرن، التي يسابق الأمريكان الريح من أجل إمضائها. قالها ترامب ولم يكذب: «هل سنبقى في تلك المنطقة؟ هناك سبب واحد للبقاء.. هو إسرائيل»، يدور حيث دارت مصالح الابن المدلل، يصدم العرب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ولا يترك لهم ورقة توت لستر السوءة أمام الشعوب المقهورة، أرسل صهره كوشنر بعدة جولات في المنطقة، ليدشن لتصفية القضية الفلسطينية عبر صفقة القرن، كان آخرها إلى تل أبيب قبيل الانتخابات الإسرائيلية التي تدعم فيها أمريكا الرجل المناسب «نتنياهو».
حكام العرب نائمون مع سبق الإصرار، غافلون بمنهجية اليوم يُضيعون فلسطين والجولان، وغدا تدور عليهم الدائرة
أمريكا بعد مظلة الإرهاب الواسعة التي ضربتها في سماء العرب وجعلت منه شبحًا يخيف العرب من إقحام الهوية الدينية في الصراع مع الصهاينة، ها هي لا تستحي من فعل الشيء ذاته، فوزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو في لقاء مع «شبكة البث المسيحية» الأمريكية «CBN»، سأله المذيع كريس ميتشيل ما إذا كان «الرب قد رقى ترامب ليكون رئيسا في هذا الوقت لحماية اليهود من التهديد الإيراني، مثل الملكة إستير»، (بطلة عيد البوريم ذكرى خلاص اليهود في بلاد فارس من مذبحة، بحسب المعتقدات اليهودية) فأجاب بومبيو: «كمسيحي، أعتقد بالتأكيد أن هذا ممكن»، مضيفًا: «أنا واثق أن الرب يعمل هنا.. عندما أرى التاريخ المميز في هذا المكان والعمل الذي تقوم به إدارتنا لضمان أن هذه الدولة الديمقراطية في الشرق الأوسط، هذه الدولة اليهودية، ستبقى».
وأما حكام العرب، فهم نائمون مع سبق الإصرار، غافلون بمنهجية، اليوم يُضيعون فلسطين والجولان، وغدا تدور عليهم الدائرة، لن تستر الحماية الأمريكية عوراتهم، ولن يشفع لهم تزلفهم ولن تُنقذهم طأطأة الرؤوس، لأن الحقيقة وببساطة تؤكد أن (اللي متغطي بأمريكا عريان)، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
في الإثنين 25 مارس - آذار 2019 09:47:15 م