|
-مما تجدر الإشارة إليه أن العودة خطوة إلى واحدة من أهم المحطات الرئيسة في تاريخنا المعاصر وبالذات إلى عهد الرئيس إبراهيم ألحمدي تحديدا، ما هي إلا محاولة للقفز خطوتين إلى الأمام، ليس للتباكي عليها والمزايدة عليه كما اعتاد الكثيرين في وقتنا الحالي على ذلك، وإنما كي يتسنى لنا تجاوز ما أفضت إليه هذه الحقبة من إرهاصات شتى غلب عليها طابع الغموض والسلبية والتي مازالت معظم أهم تفاصيلها عالقة في أذهان وعقول الكثيرين، بصورة نجح البعض الذي يدعي احتكاره لكافة الحقائق والتفسيرات عما دار فيها بصفتها إرث خاص لهم وليس إرث قومي للأمة التي مازال أبنائها الذي أثروا وتأثروا بها على قيد الحياة، ومن ثم الحق في إعادة بلورتها وقراءاتها ومن ثم توظيفها في الاتجاه الذي يخدم أهدافهم الخاصة ضمن إستراتيجية معدة لمثل هذا الغرض مسبقا، اتضحت ملامحها الرئيسة واضحة وضوح الشمس في كبد السماء في إرهاصات العام الماضي؛ من خلال السعي الحثيث وراء إحياء جزء من هذا الماضي بملفاته الشائكة التعقيد التي تصب في اتجاه تبرير دعا ويهم وحججهم الخاصة التي يغلب عليها طابع بث وتأجيج ومن ثم تعميق بذور الكراهية والأحقاد والضغائن وصولا إلى محاولة شق الصفوف بين أبناء الوطن الواحد تحت مبررات شتى ما انزل الله بها من سلطان، بدلا من الاهتمام بالحاضر الذي لو أخلصنا له لما وجدنا الوقت لاحتوائه وللملمة تفاصيله وصولا إلى التركيز على المستقبل المنشود.
-وبصورة نستطيع من خلالها قطع الشك باليقين في هذا الملف الشائك الأكثر تعقيدا؛ من خلال السعي وراء وضع أول حجر أساس لإعادة كتابة التاريخ اليمني من زاوية يندر تناولها لدي الكثيرين- وفقا- لما تشير إليه الدلائل التاريخية بهذا الشأن، في ضوء ما تمثله هذه المرحلة من أهمية كبيرة في الذاكرة اليمنية، في محاولة استباقية باتجاه قطع الطريق أمام كل من تسول له نفسه التجاوز على تاريخ الأمة من الآن فصاعدا، سيما بعدما أصبحت معظم هذه العناصر والناصريين منهم- بوجه خاص- معولا رئيسيا من معاول الهدم المنظم لاستقرار ووحدة الوطن وأمن المجتمع.
-ومن نافلة القول أنه في الوقت الذي استطيع فيه أن أجزم مع الكثيرين بان الرئيس ألحمدي هو أحد أهم الرجال الذين عاشت أمتهم بين خلجات قلوبهم وحرارة أنفاسهم ليل نهار، فكانت أفعاله وأقواله ومن ثم طموحاته كبيرة بحجم الأمة- هذا إن لم نقل كان أُمة بحجم رجل، إلا أنه من الواجب- بهذا الشأن- الإشارة إلى أن ما حققته إدارة الرئيس الراحل إبراهيم ألحمدي في الفترة الأولى من حكمه من انجازات نسبية على الصعيدين المعنوي والمادي كانت امتداد هذا إن لم نقل نتاج للعديد من المحددات الرئيسة الحاكمة لإرهاصات الفترة الواقعة بين عامي 1970- 1977م على أقل تقدير، التي جعلت من ظهور التيارات المعتدلة والقيادات الوطنية المعنية بالمصلحة الوطنية العليا ظاهرة إقليمية أكثر منها حالة فريدة تتعلق باليمن فقط، برزت منها المحددات الداخلية التي سهلت أمامها تجاوز معظم العقد الرئيسة الشائكة في البيئة الداخلية، في ضوء ما وفرته من قدرة على إمكانية تلمس طريقها نحو الغاية المنشودة بوضوح منقطع النظير وبمراعاة عامل الزمن والسرعة والكلفة.
-واضعة أياديها مباشرة على مكمن التحديات الرئيسة الأكثر أهمية وخطورة التي تقف أمام وجود أية إمكانية ليس للتأسيس لمرتكزات مشروعها الوطني المنشود شكلا ومضمونا فحسب، بل وأيضا السير قدما نحو تحقيقه واستمرار بقائه في آن واحد، في ضوء الدور المحوري الذي لعبه الرئيس ألحمدي في تحديد أولوياته الرئيسة- وفقا- للجدلية الثنائية (الأهم/ المهم) الذي من خلاله نجحت في تجاوز معظم التحديات التي فرضتها البيئتين الداخلية والخارجية آنذاك، من خلال اللعب شبه المحترف على متغيرات الساحة الدولية ومن ثم الإقليمية والمحلية بنفس القواعد المتعارف عليها، والسعي وراء اغتنام هذه الفرصة التاريخية إلى أقصى حد ممكن.
-ومنها المحددات الخارجية في ضوء مرونة وانسيابية الحراك النسبي المرن في بيئة أقل مناهضة- هذا إن نقل أكثر جاذبية- لمثل هكذا توجه للسياسة الإقليمية والدولية القائمة التي فرضتها المعطيات الظرفية في البيئة الخارجية منذ مطلع عقد السبعينيات والناتجة عن حالة الوفاق الدولي الذي شاب العلاقة على محور واشنطن- موسكو (1970- 1977م)، على خلفية ما أصاب السياسة الأمريكية من شلل حاد ناتج عما تعرضت له من هزيمة ساحقة في فيتنام توجت بالانسحاب الأمريكي منها عام 1974م، ومن ثم تخفيض طبيعة ومستوى التنافس بينهما إلى أدنى حالاته في اتجاه الحفاظ على حالة التوازن النسبية بين كفتي الميزان المعمول بها ضمن إطار سياسة الاستقطاب الثنائية والسماح للحليف الصيني (الجناح المعتدل في الحركة الشيوعية) للولوج إلى المنطقة بمرونة عالية لملء الفراغ الناشئ نيابة عنهما.
-ومن هذا المنطلق أود أن أوضح أن ما سأحاول لفت الانتباه إليه في موضوع مقالتي هذه هي تلك الجزئية الأكثر أهمية وحساسية والتي يندر التركيز عليها والتي تتمحور- بحسب وجهة نظري- حول ما الذي يستطيع أن ينجزه أية شخص كان في هذه الفترة الوجيزة جدا وغير المحسوبة من عمر الأمم والشعوب لانتشال أمة ووطن من مربع ما تحت الصفر بدرجات واسعة، في بلد كان غارق حتى أذنيه تحت ثالوث الفقر والجهل والمرض، ويرزح تحت تداعيات ومن ثم آثار حربا أهلية طاحنة بأبعادها الإقليمية والدولية (1962-1968م) أكلت معها اليابس، في ضوء ضعف بل ندرة الموارد والإمكانات القومية وهشاشة- بل وانعدام- متطلبات الحياة الأساسية ؟
-في محاولة منا للوصول إلى إجابة وافية عن سؤال محوري آخر غاية في الأهمية يكشف أمامنا بجلاء ذلك الجزء الأكثر أهمية من الحقائق شبه الضائعة التي حاول ويحاول وسيحاول الكثيرين توظيفها لما يخدم مصالحهم الخاصة الخبيثة ضد بلادنا، والذي يمكن إعادة صياغته بـ\" ما الذي تسنى لإدارة الرئيس ألحمدي تحقيقه من منجزات مادية عظيمة أكثر منها معنوية- في حال تسنى لنا قول ذلك- رفعت أداء الدولة بأجهزتها المختلفة إلى مستوى الدولة المدنية الحديثة المنشودة ونقلت أوضاع الوطن والمواطن نقلة نوعية إلى الأمام في هذه الفترة الوجيزة جدا، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن خارطة الطريق آنذاك كانت ومازالت في طور التبلور ولم تكتمل إلى حد ما طوال فترة حكمه إلا بعض أهم معالمها الرئيسة ؟ ولماذا ؟
-سيما أن هذا الأمر ستتضح أهميته تباعا عندما يصبح بمقدورنا القيام بتقييم موضوعي ودقيق لهذه المرحلة وما تحقق بعدها في عهد أخيه الرئيس الصالح من منجزات عملاقة لا تقارن بالمطلق نقلت اليمن خطوات واسعة إلى الأمام- حتى وإن كانت دون الطموح- على الرغم من استمرار تنامي حالات القصور الحادة الحاصلة في المسيرة التنموية؛ جراء ضعف إمكانية الانتقال لمرحلة دولة النظام والقانون المنشودة كمدخل أساسي بل ومحوري للوصول إلى مرحلة التنمية الشاملة والمستدامة المنشودة؛ لاعتبارات رئيسة عديدة خارج نطاق حدود سيطرة الرئيس الصالح وفريق إدارته، أسست لها وفرضتها المعطيات الظرفية للبيئة الخارجية والداخلية التي تشكلت معالمها الرئيسة منذ اغتيال الرئيس ألحمدي وبعض رفاقه 1977-1978م وصولا إلى الإرهاصات والتداعيات الخطيرة التي خلفها الانقلاب الأسود عام 1978م على حاضر ومستقبل اليمن دولة وشعبا، الذي قادته الحركة الناصرية بالشراكة والتعاون والتنسيق مع القوى التقليدية المحافظة والمتطرفة واليسارية بامتياز منقطع النظير.
-واستناد لهذا السياق من التحليل يسعني الإشارة بالقول أن إدارة الرئيس الراحل إبراهيم ألحمدي طوال فترة الحكم التي لم تتجاوز الـ4 سنوات قد نجحت أثناء محاولاتها المتكررة إعادة صياغة ومن ثم بلورة أهم المعالم الرئيسة في صورتها الأولية لخارطة الطريق المراد عبوره للوصول إلى الغاية المنشودة، باعتبار إن هذه الإدارة كانت امتداد لحركة وطنية تصحيحه استثنائية تسلمت قيادة دفة البلاد منذ العام 1974م، في ضوء نجاحها النسبي الذي حققته في وضع يدها على بعض أهم المرتكزات الأساسية اللازمة لقيام الدولة المدنية الحديثة وخلق الإنسان اليمني الجديد- وفقا- لبعض أهم المعايير العالمية بهذا الشأن مع مراعاة الخصوصية الوطنية، وبالاستناد على ما بذلته من جهود مضنية في إعادة قراءة وتشخيص الواقع بشكل شبه موضوعي ودقيق نسبيا، بصورة كشفت أمامها أهم مكامن الضعف ومن ثم نقاط القوة الرئيسة فيه.
-والتي تسنى لها على أساسها وضع الخطوط العامة الأولية المحددة للإستراتيجية الوطنية المقترحة لتأسيس بعض أهم أركان الدولة المدنية الحديثة المنشودة، وهو الأمر الذي أفضى- في نهاية المطاف- إلى حدوث تقليص حاد في عدد الخيارات المتاحة أمامها للسير قدما في هذا الطريق من عدمه- مستفيدة في ذلك- مما أحدثته حركات التحرر الوطنية والقومية من قفزات شبه نوعية ونسبية حركت جزء من مياه البركة الراكدة، وشدت باتجاهها الجزء الأكبر والمهم من أبناء الشعب بصورة متباينة ومتفاوتة، سيما في مجال الموارد البشرية وسيلة التنمية الرئيسية وغايتها، والذي بلغ حد الذروة على سبيل المثال لا الحصر في قرارها التاريخي الذي وضع حاضر ومستقبل اليمن دولة وشعبا بين أيدي أبنائها قاطبة، عندما دعي إلى تشكيل كيان سياسي جديد \" المؤتمر الشعبي العام\" تؤكل له مهام الانتقال باليمن دولة وشعبا إلى عتبة دولة النظام والقانون، والتمهيد من خلالها لدخول مرحلة التنمية المنشودة، وهذا ما سوف نتطرق إليه في مقالة لاحقة.
-وهو الأمر الذي يمكن إعادة بلورة بعض أهم المعالم الرئيسة له في أحد جوانبه الرئيسة والمهمة التي يغلب عليها الطابع المعنوي أكثر منه المادي في اتجاهين أساسين متضادين ومتلازمين على جانب كبير من الأهمية، الاتجاه الأول له علاقة وثيقة الصلة بوجود إرادة سياسية قوية تقف وراء قراره السير قدما في خط مستقيم وبدون تردد نحو تجسيد المصلحة الوطنية العليا للأمة شكلا ومضمونا، وهو ما فرض عليه تبني سياسة استباقية وقائية؛ تقوم على تغليب مبدأ المواجهة ومن ثم الاصطدام المباشر بالقوى التقليدية المحافظة والمتطرفة الهائجة؛ ممثلة بالتيارات القبلية والدينية والعسكرية على مبدأ المهادنة، من خلال ما حققه من نجاحات نسبية ومهمة في تقليص سريع ومنظم لأهم مظاهر ودوائر نفوذها في واقع الحياة الرسمية وغير الرسمية لصالح مشاريع الحياة المدنية المنشودة، بصورة أفسحت المجال واسعا لملء الفراغ الناشئ بالقوى التحديثية والتحررية الجديدة القادرة على التجاوب مع متطلبات المرحلة على المستوين الداخلي والخارجي، والبديل الأفضل المتاح لإعادة صياغة وبلورة صيغ التوازنات القائمة؛ بما يتناسب مع طبيعة ومستوى ومن ثم حجم الواقع الجديد الحالي والمنشود وقواه الوطنية الفاعلة، باعتبارها الجهة الأساسية التي عقد النية والقدرة على المراهنة عليها ابتداء بالتحالف معها وصولا إلى الشراكة الحقيقة معها.
-في حين أن الاتجاه الثاني له علاقة وثيقة الصلة بانخراطه السريع في أتون الحركة القومية بشقيها الناصري (وكذا البعثي إلى حد ما)، في محاولة منه الاقتراب كثيرا منها كي تصبح الوعاء الحاضن لمشروعه الوطني المنشود ضمن إطار إستراتيجية للتعاون والتنسيق ومن ثم الشراكة مع القوى المحلية والإقليمية (العراق)، باعتبارها القوى المستنيرة فكرا ومنهاجا وأفرادا التي يستطيع من خلالها وبها ملء هذا الفراغ بسرعة وكفاءة عاليتين، والانطلاق قدما نحو مشروعه الوطني في بناء الدولة المدنية الحديثة والإنسان اليمني الجديد بدون إبطاء أو تردد.
-وهو الأمر الذي أفضى في أحد أهم جوانبه الرئيسة إلى اضطراره الاعتماد شبه الكامل- نسبيا- على أبناء محافظات الإقليم الأوسط ومحافظة تعز خاصة، الذين شكلوا محور الارتكاز الأساسي له منذ ذاك الحين- استنادا- إلى نسب التعليم والثقافة والتحزب وروح المدنية،.....الخ، بالمقارنة بباقي المحافظات التي كانت تغوص في بحر شبه هائج من التخلف والأمية والقبلية...، وتصطدم شكلا ومضمونا مع مفردات مشروعه الوطني، بصورة انعكست مباشرة على تبؤ أبنائها للجزء الأكبر والمهم من المستويات القيادية وما دونها في السلك المدني والعسكري والأمني والسياسي والحزبي.
والله ولي التوفيق
d.tat2010@gmail.com
في الخميس 11 أكتوبر-تشرين الأول 2012 04:15:53 م