هاشم علي الذي علمنا وهذب أرواحنا وأضاء قلوبنا
مصطفى راجح
مصطفى راجح

عن المنقوش في قلوبنا قبل الجدران..

لن يكون بإمكان أي مراقب ان يتحدث عن لوحات هاشم علي دون ربطها بشخصيته الفريدة وفلسفته التصوفية عبر الفن والتأمل الوجودي في مرسمه الذي كان خلوته التي يجد فيها ذاته متأملا في حقيقة الكون ، ومحاولاً ترجمة إشراقاته بلغة الألوان والخطوط والظِلال والضوء والوجوه البسيطة لبشر يعرفهم ويغوص عميقاً فيما لا تفصح عنه ملامحهم وما حفرته خبرتهم وزمنهم على تضاريس الوجه ومكنون العيون كصورة تعكس تضاريس اليمن ومكنونها على وجوه ناسها وبسطائها . 

ولا أقرب الى التصوف من لغة اللوحة التشكيلية التي تتجاوز الإطار اللغوي المألوف الى لغة الرمز والإيحاء بالمعنى ، إيحاء عن معنى احتمالي متعدد يحتاج الى عين القلب وأفق الخيال والوجدان لا مشاهدة النظرة الاعتيادية وتحديق المتلقي السلبي الذي يتصور مكنون اللوحة الفنية وأسرارها في مكان خارج ذاته ووجدانه ، وقائماً على سطح اللوحة ويتوهمه معنى وحيد يدركه الجميع بنفس الطريقة ، بينما هو معنى متعدد ومتنوع واكتشاف أسراره مشروط بمتلقي ذو بصيرة كاشفة لا بصر جامد .

كان هاشم علي يعلمنا بصمته مثلما يعلمنا بمنجزه الإبداعي الذي تعبر عنه ثروته الفنية المتضمنة مئات اللوحات التي لم تكشف أسرارها ومكوناتها بعد ، ويعلمنا هنا تحمل معنى التربية الروحية التي تنقي الذات وتدربها على إدراك كنه الوجود وسر الكون وعظمة الله والكون بمجمله ككل متحد ومتعاضد ومترابط بكل مافيه من بشر وحجر وكواكب وأكوان وسماوات . 

طوال أيام شهر رمضان وصورة هاشم علي حاضرة أمامي مع كل كلمة أقرأها في كتاب الفيلسوف والعالم في فيزياء الطاقة فريتجوف كابرا الذي يدرس في ثلاث مائة صفحة التشابهات بين الفيزياء الحديثة ( النظريتين النسبية والكمومية ) والتصوف الشرقي وتحديدا في جنوب شرق اسيا . 

الكتاب بعنوان الفيزياء والتصوف ، وكلا المجالين يبحثان عن سر الكون والوجود وكلاهما لا يمكن التعبير عنهما وفق الكلام العادي والإطارات النظرية للفيزياء العادية ، كلاهما يصل الى حالة يقول عنها الصوفيين ؛ ما لا ينقال ؟ وأوجه الدراسة التي قام به متخصص في الفيزياء لا متطفل عليه تتناول أوجه للتشابهات في نظرة مجالين يظهرا للناس كانهما متناقضين بينما هما يصلان الى نفس النتائج في نظرتهما للمادة والكون ، الفيزياء الحديثة تصل عبر التجربة العملية المعقدة بواسطة الأطر النظرية والتجارب العملية ، والمتصوفون الأوائل وصلوا الى نفس النتائج بواسطة التأمل والتخلي والتحلي والتجلي والاتحاد بالحركة الدائبة للكون الذي سمته الأساسية والجوهرية هي التغير الدائم والحركة والتدفق دونما ثبات او انقطاع

كانت صورة هاشم علي تظهر كخليفة وراء كل كلمة وسطر وصفحة في مؤلف كبير لم يكتب لإثبات تصورات جامدة مسبقة بقدر ما كتب بصرامة ذهن الفيزيائي الذي يعرض اخر ما توصلت إليه الفيزياء من وحدة الكون التي تقول بان كل شيء يرتبط مع كل شيء ولا يمكن فهم اي جزء فيه دون النظر لترابطه مع الكون بمجمله ، وان لا وجود لكتلة ثابتة نهائياً وكل مافي الوجود عبارة عن طاقة ولا يمكن إدراك اي مادة بمعزل عن حركتها ونشاطها ، ويعرض المؤلف لنفس النتائج في كتب الصوفيين من الصين والهند الى ابن عربي الى مجمل التصوف الشرقي الذي نظر للوجود والكون نظرة روحية وليس نظرة ميكانيكية جافة ومادية كالنظرة التي ترسخت في الغرب

كان هاشم علي يقول دائماً أن اللوحة الأولى أو القصيدة الأولى أو المنجز الأول لأي مبدع هي شخصيته وتكوينها الإبداعي المتميز كذات وحساسية ووجدان وبصيرة ووجود إنساني قبل ان يكون تكوين ثقافي وخبرة نفسية قبل ان تكون خبرة موضوعية.

وكان هاشم علي مستوعبا للبعد الفلسفي لشخصيته وطريقة حياته التي عاش خلالها عصاميا زاهداً متخلياً عن الدنيا وثقالاتها عن قناعة ورضى ، عاش في شقة بالإيجار في العقبة حتى مات وهو الذي أنجز كوناً فنياً فريدا لليمن ، لوحات فنية وفنانين تتلمذوا على يديه وفي مدرسته / شقته ، ولم يمتعض يوماً من فاقة أو عوز فمثله يملك الكون بمجمله برووحة الفائضة الجمال وبهاء وجدانه وسمو نظرته ، وطوال حياته كان الحبور والرضى والجمال والمعنى الرفيع عنواناً لوجهه ونطقه الهادئ المترفق بالكلمات وريشته التي تمر بخفة وأناقة ولمسة حكيم كبير على قماشة الرسم .

الجاهلية الجديدة هي التي ترى في ملامح هاشم علي تحدياً جمالياً ووجودياً ينبغي أن يمحى ويشوه .

غير أن الجاهلية الجديدة ستكون هي المدنية المدعاة فيما لو تبين أن من يقف وراء هذا الفعل الهمجي القبيح هو كائن مستهتر لا ينطلق من تبرير ديني ، أو أحد المدنيين الجدد لاستثمار الفعل القبيح في معزوفة المدنية الصورية الرائجة هذه الأيام على أفواه الشجاع وغلاب والجندي والبركاني والشايف وحتى صالح الذي بشرنا أمس انه سيبني لنا مستقبلاً الدولة المدنية التي لم يبنيها طوال ثلاثة وثلاثين سنة حكم فيها اليمن وكان خلالها عقبة كؤود أمام تطلعات بناء الدولة أبتداءاً ناهيك عن مدنيتها التي تلاك الآن على الألسن كمصطلح حديث يتخفى وراءه مستبدون ومنافحون عن الطغيان ومذهبيون وعنصريون وإماميون .... وليبرالييون أيضاً

على الشباب الرائع الذي نقش صورة حبيبنا هاشم علي على الجدران أن يحرص على الوقوف على الحقيقة التي توضح من يقف فعلاً وراء هذا الفعل الهمجي ، معرفتهم بالملموس لا بالموقف المسبق ، فالسماح باستخدام اسم هاشم علي في معركة سياسية مبتذلة ، لا يقل عن السكوت عن ثقافة الجاهلية لو صح أنها لا زال لديها أدوات همجية لديها استعداد لاقتراف مثل هكذا فعل شنيع وحماقة تثير القرف والشفقة معاً.


في الخميس 06 سبتمبر-أيلول 2012 04:09:14 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=17154