انتفاضة الشعوب وأصحاب المشاريع الصغيرة
الخضر بن عبد الملك الشيباني
الخضر بن عبد الملك الشيباني

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وحجة على الخلق أجمعين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد :

يقول الله عز وجل : (لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ)().

كانت هذه الآيات درساً ربانياً إلهياً ، وجهه الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحابته الكرام في حادثة الإفك التي تولى كبرها المنافقون بقيادة عبد الله بن أبي بن سلول .

وقد جاءت هذه الحادثة ، التي نزل بها القرآن من فوق سبع سموات ، مبرِّئة لأم المؤمنين الثقة الطاهرة عائشة رضي الله عنها ، وجاءت أيضاً كاشفة للمؤمنين عن استمرار الطابور الخامس من المنافقين في بث الأراجيف والشائعات الكاذبة ، رغبة في خلخلة الصف المسلم ، وتمزيق وحدته ، وجعله يعيش في تيه وضياع ، صرفاً له عن المهمة الحقيقية التي وجد من أجلها ، ألا وهي تحقيق العبودية الحقة لله عز وجل.

إن الله - عز وجل - يريد أن يهدينا إلى صراطه المستقيم ، ولذا فإنه تبارك وتعالى يقدم لنا الدروس تلو الدروس والآيات تلو الآيات ؛ ليثبتنا على الطريق ، ويعيدنا إليه إذا حصل الانحراف أو الغفلة ، قال تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ . وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً)( ).

إن ما حصل ويحصل في العالم العربي اليوم - في سوريا ومصر واليمن - من القتل والتشريد للأبرياء والعزل ، الذين لم يخرجوا إلا دفاعاً عن حقهم ، في أن يُحكموا بالعدل ، وأن تكون بلادهم حرة بين الأمم ، إنما هو دليل على أن الباطل قد بلغ ذروة كبرى من الطغيان والجبروت ، فشاء الله عز وجل أن يقيظ لهذه الأمة شبابها ، الذين هم عماد قوتها وذخيرتها المدخرة؛ ليعلنوها مرحلة جديدة ، وروحاً وثابة تسري في جسد الأمة ، من المغرب العربي إلى شماله ، إلى جنوبه ، إلى شرقه ، ولم تترك موقفاً ولا قلباً حياً يقظاً إلا دخلته بتوفيق الله .

إن هذه الأحداث والابتلاءات - بعون الله – مقدمة للفرج والنصر والتمكين .

لقد ظن جيل من الآباء والأجداد أن الساعة قد توقفت ، فلن يكون هناك حال أفضل مما هو كائن ، لكن سنة الله جارية وحكمته عالية بديعة .

إننا نؤكد في هذا المقام أن صولة الباطل ساعة وصولة الحق إلى قيام الساعة ، ولذلك فكما كشفت هذه الثورات والانتفاضات الشعبية عن مكامن القوة لدى الشعوب ، ومدى قدرتها على إقامة العدل في مجتمعاتها ، فإنها كشفت عن أمراض القلوب وأمراض الجسد المختلفة تحت أقنعة شتى . ولعلنا -نحن في اليمن - لسنا بعيدين عن ذلك ، فإن نجاح الثورة وانتفاضة الشعب قد فتح شهية بعض الجماعات المنحرفة وأصحاب المشاريع الضيقة ، فظنوا أنها لحظتهم الذهبية وفرصتهم السانحة التي فاتت عليهم قبل ذلك .

لقد استعجل هؤلاء قطف الثمار ، فكشفوا عن حقدهم الدفين على الأمة ، بل ومحاولة احتكار جهد الأمة والشعب لصالح فئة محددة وجماعة تعلن نصرتها لآل البيت ، وهي لم تسلك مسلكهم ، ولا اقتدت بأخلاق خيارهم . إننا نعني بهذه الإشارات جماعة الحوثي في صعدة ، التي أظهرت أنها مع الشعب اليمني ومع خياره ، ولم تلبث بها الشهور إلا قليلاً حتى أعلنت برنامجها بعد توقيع المبادرة الخليجية، فحصار في دماج وقتل وتعذيب في حجة ، وتعدٍّ وسيطرة في الجوف وغيرها من المناطق ، كل هذا من باب فرض سياسة الأمر الواقع .

لقد ظنت هذه الجماعة أن الشعب اليمني ستنطلي عليه هذه المناورات وأساليب الخداع ، تحت دعاوى المد الوهابي والهجوم على الزيدية ومحاربة القاعدة ، وغاب عنها أن الشعب اليمني اليوم ، وبقية أبناء الأمة العربية ، يشاركون في أكبر دورة تدريبية أقيمت على وجه الأرض حتى اليوم .

لقد تعلمت الشعوب في هذه الدورات كيف تدافع عن حقها ، وكيف تناصر المظلوم ، وكيف تتعامل مع الظالم أياً كان شكله أو لونه أو قوته أو مستوى مكره ، ولذلك فهي تدرك أن من يرفع شعار (الموت لأمريكا الموت لإسرائيل) وهو يقتل أبناء بلده والمنتسبين إلى دينه ، ليس جديراً بأن يصدّق ولا يتّبع .

إن الإمام عليّاً رضي الله عنه وأبناءه الحسن والحسين رضي الله عنهما ، سيِّدَي شباب أهل الجنة ، وبقيةَ الأئمة الأعلام من أهل بيته رضي الله عنهم وأرضاهم، هم سادةُ الأحرار ، وهم النموذج المحتذى بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، فهل يعقل أن هؤلاء يقولون بحصار جائر ظالم ، يطال الصغير والكبير والذكر والأنثى والطفل الصغير والنساء في الخدور بدون جرم ولا تعدٍّ؟! إن انكشاف المشروع الحوثي في اليمن يوجب على جميع العقلاء مراجعة أساليب التعامل مع هذه الفئة المخادعة ، وعدم الركون إلى وعودها ، والتي ثبت زيفها .

كما ينبغي للعقلاء أن يدركوا أن أصحاب المشاريع الصغيرة سيحاولون التحالف والاجتماع على حساب مشروع التغيير المنشود في هذه البلاد الفتية ، ولذا فينبغي تفويت الفرصة عليهم ، وعدم الانجرار إلى ما يريدونه من الفرقة والحرب ، لأن هذا هو مفتاح حركتهم وزاد فتنتهم .

إن معرفة الظالم من المظلوم ، والجلاد من الضحية ، والمعتدي من المسالم ؛ هي الفقه العظيم الذي قدمته انتفاضة الشعوب ضد الظلم والطغيان ، ولذا فإن تسوية أصحاب تلك الأوصاف بما يضادها هو من أعظم الظلم الذي يؤدي إلى ضياع الحقوق وإهدارها.

فعلى القادة العقلاء ، من مشايخ القبائل وأهل العلم والساسة ، أن يتنادوا لوضع النقاط على الحروف ، ويعيدوا الأمر إلى نصابه ، فبهذا فقط تبرأ الأمة وتقام الحجة على الحق .

وإذا كان هذا الأمر لمعالجة القضية في الدنيا ، فإننا نثق بوعد الله الصادق ونصره التام لأوليائه في محكمة الآخرة ، التي لا يظلم فيها أحد ولا يحابى فيها أحد ، وليتأمل الظالمون وأتباعهم هذه الآيات قبل ألا يكون ساعة مندم ، قال الله عز وجل في سورة البروج : (وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ . وَالْيَوْمِ الْمَوْعُود ِ. وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ . قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ . النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ . وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ . وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ . الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ . إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ . إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ . إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ . وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ . ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ . فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ . هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ . فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ . بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ . وَاللهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ . بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ . فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ)( ).

إن من عادة أهل الإجرام وأعوانهم أنهم يتغامزون ويضحكون من المؤمنين ، لكن العبرة في النهاية لمن يضحك أخيراً ، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ . وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ . وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ . وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ . وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ. فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ . عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ . هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)( ).

إننا نرجو الهداية لجميع الخلق ، وندعوهم إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعدم الركون إلى المخلوقين الضعفاء ، الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً ، فإن هذه هي الحرية الحقيقية ، وهذه هي العقيدة الحقة التي ستقف في وجه أمريكا وإسرائيل وكل المعتدين ، أما الشعارات الزائفة والأبواق الكاذبة ، فحري بها أن تفضح نفسها إن عاجلاً أو آجلاً .

والعاقل من اتعظ بغيره لا بنفسه .

والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون .


في الإثنين 20 فبراير-شباط 2012 04:21:52 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=13917