أشياء لهم فقط
سلوى الإرياني
سلوى الإرياني

يحب الأولاد الصغار الألعاب الالكترونية كثيراً. أما نحن فنحب كثيراَ أولادنا الصغار و نحبهم عندما يكبرون. نحبهم حين تصبح البنت الصغيرة "أم " و يصبح الولد الصغير "أب". يحاصرنا حبهم فلا يبرح مكانه في القلب و لو لجزء من الثانية و لا حتى يغفو من التعب. في صغرهم، تتعلق قلوبنا بأرواحهم،، بنظراتهم ، بخطاهم على الأرض و حتى بما يخرج من نطق محبب من أفواههم. نلقمهم اللقمة تلو اللقمة بأصابعنا الحانية و كأنما نطعم أفواهنا. نغطيهم بالأغطية شتاءً مما يشعرنا نحن بالدفء، يمرضون بالحمى فنتأوه نحن، يلعبون ، يضحكون فتخفق أجنحة السعادة داخل مسامعنا نحن. كأنما هم نحن، كأنما نحن هم! نتفحص الأصابع الصغيرة حين تكبر، و بؤبؤ العين العسلي حين يستقر، الثغر حين يتبسم و يسيل لعابه، الشعر حين يطول و الخطو حين يبدأ فيترنح،و غفوتهم مغمضين العيون كم ُتسحر،و نطق الحروف، بأخطائهم، كم يسبي. كأنما أنجبنا من صلبنا و من أرحامنا مخلوقات هي قطع منا ، فتأسرنا بحبها ونصبح كل صباح نحل نشيط يطير حول بستان إسعادهم. ربما لشعورنا بأننا نحيا و إياهم في آخر الزمان البشري و لذا ندرك تماما أن لا سند لنا فيه سواهم، لا فرح لنا فيه سواهم، لا أمل نرجوه فيه سوى عبرهم،و لا حتى سبب وجيه لحياتناـ من بعد عبادة الله سبحانه و تعالىـ سوى رؤيتهم في قمم النجاح ، السعادة و العافية. فتجد الأم المتعبة ، تمسح من جدول يومها أي استلقاء لكي تتيقن أن كل أمور ابنها في أحسن حال. ثيابه ، طعامه ، أسنانه ، حقيبته ، كتبه ، ألعابه،أظافره، باختصار كل متعلقاته. كذلك تجد الأب لا يبدل حذاءه المشقوق من الخلف بواحد جديد لكي يقدم لابنه دراجة جديدة. هكذا حب الأبناء لا خيار لنا فيه و لا حتى تحكم لنا به. فطرة من الله –سبحانه و تعالى- فما أحلى الله و ما أحلى فطرته. حاله حال الفطرة في الحاجة للأكل و الشرب و النوم. و هذا ببساطة الحاجة إلى حب الغير. لكن ليس حب الرجل للمرأة الذي دائماً ما ينقص و يذبل أو يختفي بمرور الوقت و الأحداث لكنة حب ثابت ثبوت السفن في ميناء الخلود لا ُتشرخ هياكل السفن و لا الميناء يبدل مكانه. الدليل على فطرة حب الأبناء ما يحدث في القارة الأفريقية من مجاعة بشعة. فتجد الأم تحتضن ابنها الوليد و هو عبارة عن بضعة عيدان لتجلسه فوق حجرها و هي عبارة عن كرسي من عصا ، و تبتسم له بفم برزت أسنانه و نتأت عظام فكية من شدة الجوع!

 

 بطلتنا في هذه القصة، لم يكن لديها هي و زوجها سوى ابن واحد. قرروا منذ البدء ألا ينجبوا إلا طفل واحد وحيد. قرروا منذ البدء ألا ينجبوا سواه لكي يتمكنوا في زمن الغلاء هذا أن يصرفوا علية بشكل جيد ، فينشأ نشأة سليمة و لا ُيحرم من مطالبه الماسة و لا يبخلون عليه بالوقت و الرعاية في زمن الغلاء هذا الذي يبدأ منذ لحظة دفع تكاليف مستشفى الولادة.

كانت هي معلمة في مدرسة خاصة معروفة بسمعتها الممتازة. كانت تدرس أربع مستويات مختلفة. أيضاً كانت تسارع بالدخول بدلاً من أي معلمة غائبة لكي تنال أجر التغطية. في الحصة التي تكون فيها في وقت فراغ ، تأكل ساندوتش صغير و تشرب كوبا من شاي أثناء التصحيح أو الإعداد لدرس الغد. ما أن تجد تمرين جيد و قوي حتى تقوم بنقلة إلى الدفتر الذي تذاكر لابنها منه في المنزل. كانت ترص التمارين من نوعية رتب الجملة ، استخرج الخطأ، عبي الفراغات و غير ذلك.كان ابنها من الأوائل. أولياء الأمور في المدرسة يثنون عليها على مسمع من المديرة فتقفز فرحا و معلمات ابنها يمدحنها كولية أمر تعطي ابنها الوقت الكافي في المنزل للمراجعة و الفهم. كان ابنها من رضا الله عليها مهذب و مطيع لكن الكمال لله. كان عيبه، إن جاز لي أن أصفه بالعيب أنة كثير التطلع لما في أيدي غيره. لا تذكر أن والده قد اشترى له لعبه من تلقاء نفسه سوى سيارة و كرة منذ كان عمره عامين. أما منذ ذلك الأمد فكل اللعب التي كان يحصل عليها كانت بناءً على طلبه، و إلحاحه الشديد. كانت طلبات الابن تتدرج من دراجة ثلاثية العجلات ببوق ، إلى دراجة بعجلتين فقط و فيها بوق و أضواء و حقيبة لحفظ الأشياء في الخلف. دخل الولد الصف السادس ابتدائي. كان كل أصدقائه بدون استثناء من عائلات ثرية أو ميسورة مادياً. أما هو فلم يستطع الالتحاق بهذه المدرسة إلا لكون والدته معلمة فيها ، فتتلقى خصم و تدفع الرسوم بالتقسيط.

بدأت المعاناة من هذا الابن في الصف السادس ، حين بدأ بعض الطلاب إحضار موبايلاتهم سراً إلى المدرسة و قد كان ذلك ممنوعا. كان بعضها مزود بكاميرا تصوروا بها، و بعضها تحتوي على ألعاب رائعة تناوبوا اللعب بها و بعضها شاشته تعمل باللمس و بعضها فيه خدمة الانترنت. سمعت ابنها يتكلم مع والده قائلا : ـ "بابا ، أمجد و سهيل و محمد لديهم موبايلات فظيعة!" أجابه والده :ـ" إدارة المدرسة ما أن تعلم بأنهم يحضرون موبايلات إلى المدرسة حتى تصادرها منهم. أن الأولاد في مثل عمركم لا يحتاجون إلى موبايل ، كما أنة يتسبب في حالات سرطان الأذن." ترك الابن والده بصمت . راح في أذن أمة يبث توسلاته :ـ "ماما ، موبايل ضخم جداً. أرسل منه نكت لأصدقائي و أتصل بكم عند أي طارئ. أنه صغيراً بحجم كفي! " أجابت الأم :ـ "نحن دائماً معك ، متى ستحتاج للاتصال بنا؟ ثم أنه غالي الثمن و إن ضاع ، ضاعت معه قيمته." توسل الابن دون فائدة فخرج حزينا من الغرفة. كانت هي تشارك زوجها رأيه الحكيم لكنها تضعف أمام رغبة ابنها العارمة فتتمنى تلبيتها إكراما لابنها. كانت تراه في المدرسة يرمق أصدقائه يخرجون خلسة موبايلاتهم و يستخدمونها فما كان منها إلا أن أبلغت المشرفة التي سارعت بسحب الأجهزة من الطلاب و هددتهم أنها لن تعيدها لأولياء أمورهم إذا ما رأتها مرة أخرى في المدرسة. عند انتهاء الدوام المدرسي سارع ابنها يحكي لها عن مصادرة المشرفة لأجهزة أصدقائه، كانت هي تكتم كونها المتسببة في هذه المصادرة لأنها من أبلغ المشرفة، كان هو يكتم فرحة خجولة لكونه لن يتحسس مرة أخرى حين يلعبون و هو المتفرج.

في اليوم التالي سألت زميلاتها في العمل عن لعبة الكترونية مسلية و معقولة السعر. اخبرنها عن لعبة اسمها جيم بوي. ما أن استلمت راتبها حتى ذهبت و اشترتها لابنها. عادت إلى المنزل و قدمتها له. قفز من شدة الفرح، لم تخبره أنها بدلا من الموبايل و لكنها قالت له أنها مكافأة له لأن الجميع في المدرسة يمدح أخلاقة و يثني على أداءه الدراسي.في الواقع هي ترحمه كثيراً كونه وحيد. يلعب معه والده ما استطاع و تلعب هي معه ما أمكنها ، لكن بمجرد عودتها إلى المطبخ و عودة الأب إلى الورق يهرع الولد إلي الجيم بوي.

في العيد جاء الابن و قد جمع في حصالة قرابة الثمانية آلاف ريال. طلب من والدته أن تحتفظ بها لديها لأنه يريد أن يشتري بها لعبه رائعة. سألته والدته ما هي هذه اللعبة الرائعة فشرح لها أن اسمها سوني( بلاي ستيشن). شرح لها بإسهاب أنها لعبه لا يحتاج فيها لرفقة أحد. لأنه يلعب مع الكمبيوتر الذي بداخلها. قد يلعب مع فريق كرة قدم كامل، و قد يشارك في سباقا للسيارات. قد يفوز و قد ُيهزم. الكمبيوتر لا يجامل. استمعت إليه بإعجاب ثم تساءلت :ـ "كم سعرها؟" أجاب الابن :ـ" أكثر قليلاً من مائتين دولار." صرخت الأم :ـ" كم؟؟؟؟ أنت لا تملك سوى ثمانية آلاف و تحتاج إلى قرابة ستة و خمسين ألف ريال. كم ستجمع و متى ستشتريها؟؟ عند تخرجك من الجامعة؟" صمت الولد و خرج بحزن ظاهر. لعله أسترجع ذكريات الموبايل. حطت في غرفتها كالطائرة فكرة رائعة!! اتصلت ببعض صديقاتها ، عرضت عليهن فكرة الجمعية. تسع من صديقاتها وافقن، كانت كل واحدة ستقدم خمسة آلاف ريال فقط و تستلم من سيكون دورها في الاستلام خمسين ألف.تم اختيار الدور وفقا لقرعة، و كانت المفاجأة التي أذهلتها هي أنها ستكون أول من سيستلم. كادت تبكي و هي تعد خمسون ألفاً بالتمام و الكمال. خرجت و اشترت السوني( بلاي ستيشن). عادت من السوق مسرعة إلى المنزل ، قدمتها لابنها الذي قبلها حتى آلم عظمة خدها. أعادت إليه حصالته فما كان منه في غمرة سعادته إلا أن صرفها كلها في شراء سي دي للألعاب المختلفة. اشترى لعبة ملاكمة ، لعبة سباق سيارات، لعبة تنس و ألعاب أخرى رائعة. كانت كثيرا ما تكرر على مسمعه أن سعر هذا الجهاز يضاهي سعر أحدث موبايل لكن الموبايل مضر و لذا فهي لم تشتره له. ظل السوني صديق ابنها الحميم .

ذات يوم دعي صفوان زميل ابنها في الصف، و ابن المسئول الحكومي ، و بطبيعة الحال السارق الكبير، كل زملائه لحفل عيد ميلاده. حين عودته من الحفل أسرع إلى حضن أمه هامساً:ـ "كنت الوحيد الذي ليس لديه موبايل." سكتت بضيق. ثم حكي لها عن اللعبة التي أهداها والد صفوان له.أمسك بوجه أمه الحلو بين يديه و قال:ـ" ماما ، ألا تعترضين دائماً على كون لعبة السوني تقعد الأولاد بالساعات أمام شاشة التلفزيون فلا يتحركون و لا يمارسون الرياضة؟" هزت رأسها بإيجاب. أضاف الابن قائلاً :ـ" اللعبة التي أهداها والد صفوان له اسمها "وي" ، عبارة عن كاميرا يا ماما ، توضع فوق جهاز التلفزيون ، تصورني و أنا ألعب و يتحرك أحد اللاعبين في الشاشة الذي هو أنا و يقوم بنفس حركاتي في الركل، و المصارعة؟" هتفت الأم :ـ" كيف يعني؟ أعوذ بالله؟" نفخ في الجو متذمراً من تأخرها في فهم التكنولوجيا الحديثة!! ثم شرح:ـ" يعني مثلا إذا لعبت كرة قدم، و شباك الهدف على يميني يجب أن أقوم و افعل برجلي حركة الركل في الاتجاه اليمين و إلا ركلها اللاعب في الاتجاه الخطأ. لعبة ، فيها كاميرا تصورك و تحرك اللاعب وفقاً لحركتك. تستطيعين أن تلعبين بها يا ماما ، ستعجبك كثيراً، إذا قطعت بصل أمام الكاميرا قطع اللاعب البصل في الشاشة!!" ضحكت من أساطير الأطفال عند الوصف . سألته عن سعرها. أبلغها أنه لا يعرف سعرها لكنة سمع الأولاد في عيد الميلاد يتكلمون بأنهم سمعوا أنها بقرابة الخمس مائة دولار. قاطعته قائلة :ـ " خمسمائة دولار؟؟؟ لااااا هذا ليس في مقدرتنا يا بني. لا تحلم بها مجرد حلم." نظر إلى والدته بحنق متوقع و هتف:ـ"هي، أصلاً، لا ُتباع في اليمن." و خرج ! ليته يفهم بان أشياء كثيرة ليست لنا بل لهم، لهم فقط. لاحظ والديه أنه لم يعد يلعب بالسوني, حتى كساه الغبار. كان يبدو الولد في حالة اكتئاب حتى وقت المذاكرة كان شارد الذهن و بلا حافز.

في اجتماع أولياء أمور الطلاب تقابلت الأم مع والدة صفوان فوجدتها فرصة للسؤال عن اللعبة. أخبرتها أم صفوان أن سعرها أربع مائه و خمسون دولار و أنها من دبي. طلبت منها إحضار ابنها متى ما أراد أن يلعب بهذه اللعبة عند صفوان، رحبت به كثيراً.

 جاء الابن لوالده يطلب منه بيع السوني و اخبر والده أنه سيجمع قيمة "الوي" بنفسه. نفذ له والده طلبه فقط ليتعلم بأن هناك أشياء ليست لنا.

 حان وقت اجتماع أولياء الأمور الثاني، كانت الأم قد رتبت خطة. ما أن رأت أم صفوان حتى صافحتها و كلمتها عن أداء ابنها الدراسي. استجمعت قواها و جرأتها و قالت لأم صفوان :ـ" هل بالإمكان شراء هذه اللعبة لابني على أن أسدد قيمتها في أقساط شهرية بمعدل مائة دولار في الشهر، ممكن؟" اتسعت عيني أم صفوان في استغراب. ردت :ـ"طيب سأفاتح أبو صفوان في الأمر. إذا وافق سيشتريها في السفرة القادمة، و كلما حان وقت تسديدك للمائة دولار سيأتي صفوان ليأخذها من منزلكم و تشرحي له و لو لمدة ساعة واحدة فقط ما استعصى علية من دروس." صمتت المعلمة بذهول. هل ستستثمر أم صفوان طلبها الذي ستدفع ثمنه كاملاً، و تجمع منه مكاسب ربا؟ ربا يا ربي ربا. في عقولهم يتورم الربا، في تفكيرهم يصول و يجول الربا، في أخلاقهم يبث الربا إرساله، إنهم ربا في ربا، لكنها قبلت أن يتم استغلالها مقابل حصول ولدها على لعبة الوي.

في اليوم التالي جاء لمحادثتها والد صفوان. رجل وسيم ، طويل القامة و تشع من وجهه ابتسامة من لم يعرف الخسارة يوماً. قال لها :ـ" أهلاً يا أستاذة. إذاً تريدين لعبة "وي" لابنك مثل تلك التي أهديت صفوان في عيد ميلاده؟" همست بحياء بدا واضحاً على محياها :ـ"إن أمكن ، و سأقسط الأربع مائه و خمسين دولار بمعدل مائة دولار شهرياً." أجاب :ـ" حسناً متفقين. لدي رحلة بعد حوالي أسبوعين ." شكرت والد صفوان ، و قبضت على عينية متلبسة بالتمعن في ثغرها. في اليوم التالي حضر والد صفوان و توجه مباشرة إليها :ـ" نسيت أن أخبرك يا أستاذة، أن هناك أجيال من هذه اللعبة تتمثل في ألوان ثلاثة. الأقدم بمائتين دولار و الأحدث هو الذي مع صفوان ابني وقيمته أربـ...." قاطعته قائلة :ـ" لا يا أبا صفوان ، أريد الأحدث نفس التي مع صفوان، إن أمكن." في اليوم الثالث حضر أبو صفوان و في يده كتيبات عن اللعبة، سلمها لها و قال لها أن تتفحصها و تنتقي منها هي و ابنها ما تشاء من ألوان و مواصفات.فأعادت الكتيبات قائلة أن ابنها يريد ذات المواصفات و اللون الذي مع صفوان. في اليوم التالي مباشرة جاء أبو صفوان و قد سكب على نفسه زجاجة عطر فاح ريحها . لم تفهم لماذا يتعطر هذا الأبله ، أمن أجلها؟؟ أقبل إليها و كأنه يعرفها منذ أمد طويل تسبقه ابتسامته الحلوة، قال:ـ" سامحيني يا أستاذة ، أحيانا يكون الإنسان المشغول مثلي، غائب الذهن. يا لقلة أدبي مع أستاذة فاضلة و حلوة، حين أقول لك انتظري حتى يأتي موعد رحلتي بعد أسبوعين. لم أفكر، سامحيني. بإمكانك أستاذتي الفاضلة ، المرور علي في المكتب مساء اليوم لتختاري اللعبة و نشتريها عبر الإنترنت و تصل غداً بخدمة البريد السريع الدي أتش أل."فرحت جداً لفكرة أن تكون اللعبة بين يدي ولدها غداً أو بعد غد. أبلغته أن زوجها سيزوره غداً مع ابنهم لاستكمال الطلب و تحديد اللون و المواصفات. فامسك بطرف أصابعه ذقنه و هتف :ـ"الله المستعان ، و لماذا لا يكون أنت؟؟و هل نحن في المكتب لا نعرف حدود الأدب؟" عضت شفتيها حرجاً و حياءً من جرأته في الحديث. لكن فكرة ذهابها إلى مكتبة كانت بكل بساطة غير واردة. اعتذرت بصوت خافت عن هذه الفكرة. في آخر الأسبوع جاء والد صفوان تتقدمه ابتسامته التي هي للأمانة مبهجة تشع بالثقة في النفس، أعطاها هدية مغلفة بورق لامع قائلاً :ـ" صممت ألا يقضي ابنك إجازة نهاية الأسبوع، إلا برفقة لعبة الوي. لقد اشتريتها و مجاناً يا أستاذة. أقسم بالله ما أخذ منك قرش، صفوان يحب ابنك جداً، و الحب معدي!" معدي؟ هل جن الرجل؟ماذا يقول كلب الشوارع هذا؟ ألا يرى صفوان و ابنها يقفان هناك قامتهما تكاد تقارب قامته؟ ألا يتحرج من الشعر الأبيض في سوالفه؟ ألا يخاف من الله يوم العقاب؟ شكرته رافضة العرض المجاني هذا. ألح بقولة:ـ"النبي قبل الهدية." أجابت:ـ "النبي رجل و من كان يهديه ليس أنت." في تلك الليلة رن موبايلها ليلاً، كان أبو صفوان ، ارتعشت خيفة من شدة ما فاجأها نفوذه ، تمتمت :ـ" كيف حصلت على رقمي يا أبو صفوان؟" قهقه حتى يبس ريقها هي في حلقها من الخوف. تجاهل السؤال قائلاً :ـ" خشيت أن تفهمي القصد من الهدية غلط، ليست أكثر من هدية لصديق ابني. طفل و تمنى لعبة بشدة فلماذا تحرمينه؟" قالت بحدة :ـ" أبو صفوان ، كيف حصلت على رقم موبايلي، أرجوك لا تثير مشاكل في بيتي." أجاب :ـ" قلت للإدارة أنني أريدك مدرسة خصوصية في البيت لصفوان. " ردت بنزق :ـ" أنا لا أدرس في البيوت. الإدارة تعلم هذا جيداً." ضحك بوساخة غانية من الغواني قائلاً :ـ" و هل يرفض لي طلب؟ ثم هل صدقتي؟؟ ما هو إلا عذر حتى اسمع صوتك. الصراحة فقدت صوابي ،جننت،خرفت،سكرت، فماذا أنت فاعلة؟" كأن الوحوش و خزائن المال لهم صواب حتى يفقدونه! أنهت المكالمة و قلبها يدق بشدة، حتى ضغطت على قلبها بقاع كفها كي لا يهوي أرضاً. أخافها هذا الرجل ، أخافها. جريء و غير آبه بأي أحد. الناس عنده رعاع! قد يخرب بيتها. نهضت تتأمل وجهها في المرآة ، فوجدته مصفراً و مرتاع. قامت الصباح شاعرة بأوجاع في مفاصلها. كأنها تلقت ضرب مبرح. ذهبت إلى مدرستها مع ابنها و هي مشوشة الذهن و مضطربة. قالت لها المديرة حال رؤيتها، بنبرة قلقة :ـ" أستاذة ، سيأتي أبو صفوان بعد قليل، قال أن هناك مشكلة مقلقة بين صفوان و ابنك. أنة يريد التحدث معك بشأنها على إنفراد." هكذا؟؟ لا يمهلها وقت كي تلتقط أنفاسها الهاربة بعد مكالمة الأمس. جاء بعد ربع ساعة مرت كعمر غالبية الناس في اليمن. جاء و طلب من المديرة المغادرة لخصوصية التفاصيل التي سيتكلمون فيها. خرجت بانصياع و قلق. كرر مد يده لتقديم الهدية ، نفخت في الجو و دفعتها بلطف بعيداً عنها. قال :ـ" أنا معترف بأنني معجب بك. ماذا أفعل؟" قاطعته بحدة و صوت مرتفع:ـ" و المطلوب يا أبا صفوان؟"سكت فقد كان مطلبه فاحشة حرام. كررت سؤالها و استمر صمته، فصرخت :ـ" يا أبا صفوان ، قد أكون فقيرة ، أحاول إسعاد ابني بلعبة وي من دبي لكني شريفة. هل تفهم مما تتكون الكلمة؟ من "شر" لمن يخاطر بمس شرفي و "ـيفه" مشتقة من"جيفة" تطلي من يقاربني.فهل تفهم؟ لماذا تتوهم بأن الفقراء لا شرف لديهم؟ أو أنك بمالك تشتريهم ، و برخص يا أبا صفوان ،برخص، بلعبة وي!" أجابها :" أنت شريفة و أنا لا أحب سوى الشريفات، العفيفات. ثمني نفسك كيفما شئتِ." صاحت بصوت صار يتهدج منذراً بالبكاء:ـ "هل جننت يا أبا صفوان؟ ماذا تريد؟ ما هذا الذي تقوله؟" أمعن التحديق في عينيها بوله ظاهر. لم تستطع المقاومة ، فانفجرت باكية. عندها دخلت المديرة مسرعة و تلصصت خلف الباب زميلات لها، صاح هو حال رؤية المديرة :ـ" يا مديرتنا الفاضلة ، أنجدينا من هذه الأسرة- الله يرحم والديك- ابن الأستاذة أصبح يسرق كل أدوات صفوان. حتى بتنا نشتري قلمين ، مساحتين، مسطرتين، شوكلاتتين، لنتقي شره." لم تتمالك نفسها في غمرة ذهولها و دموعها المتساقطة، فأسرعت يدها للدباسة فوق مكتب المديرة و قذفته بها، صرخت:ـ "تحكم على الناس بأنهم، جميعهم لصوص مثلك، لا يا سافل!" أنقضت عليها المديرة تمسك معصميها و هي تتوسل:ـ"أرجوك، أبو صفوان ، لا أريد فضائح في الإدارة." كانت هي ترتعد من شدة البكاء. لم تقدر على ضبط يديها فأخذت تلطم ركبتيها من شدة الانفعال. انتهى الأمر! فضيحة بمعنى الكلمة. ستصيب ابنها و تصيبها. من ُيظهر الحق في بلاد تتوج فيها الظلم و يمشي في الأرض مرحا. نهضت و هي ترتعد ، قالت للمديرة :ـ" أنا مستقيلة، قبل أن تنطقي بالاستغناء عني." غادرت المكتب. راحت إلى صف ابنها و أخذته. قال لها :ـ"ماما قال لي صفوان أن والده قد اشترى لي اللعبة و انه سيحضرها اليوم." صرخت في وجه ابنها:ـ" يكفي يا ابني. من ألان فصاعدا يجب أن تفهم بأن هناك أشياء ليست لنا. و أنها لهم، لهم فقط."


في الخميس 01 سبتمبر-أيلول 2011 07:07:31 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=11476