على هامش الثورة
طارق السكري
طارق السكري

1

من رسالة أبي الطيب الثائرة , وكلماته الغاضبة , وروحه الوثـَّابةِ إلى كافور مصر:

من أيةِ الطُرْقِ يأتي مثلكَ الكرمُ؟!!

إلى إسحاق بن الأعور , والذي كان محافظا على طرابلس , وهو على ما فيه من بغي وجهل , يطلب من شاعر العربية مدحة سنيةً يرفع بها خسيسته , ويكمل بها نقصه , ويستر بها عيوبه وحين يعتذر شاعرنا بأنه قد أقسم أن لا يمدح ملكا ولا وزيرا ولا محافظا , يقطع عليه الطريق , وكأنه يريد خلعةً أو هديةً بفرض السلاح:

ومن البليةِ عذلُ من لا يرعوي

عن جهلهِ وخطابُ من لا يفهمُ

وتراهُ أصغرُ ما تراهُ ناطقاً

ويكونُ أكذبُ ما يكونُ ويـُـقسمُ

إلى ميدان التحرير, ووقفةٌ مع التاريخ أذهلت العالم, وصيحةٌ في وجه الجلاد أذابت السوط واقتلعت أبواب السجن وحطمت أسطورة الملك, فتلاشت سلاطين الحروب, وليت لسلطان اليمن اليومَ كياسة كافور, فما كان هذا السلطان في حضرة المتنبي الغضوب إلا صديقا متبسطا وصفيا متوددا يعطي الجزيل, ويعتذر اعتذار من أحاطت به خطيئته , وقصرت به عن السداد همته, فما يلبث القلب الحديد إلا أن يلين, ولا الدماء الفائرة إلا أن تسكن. لقد تحرك الناس في تونس, وتحرك الشباب في مصر, وثارت الدنيا في اليمن, والعين تتطلع مشهدا مهيبا في جلال, وحشدا غفيرا في جمال.. قلت لنفسي: أغلقي يا نفسُ كل موسيقى في داخلك, وأوقفي كل حركة في عالمك, ودعيني أنصتُ لهذا الهدير المتوالي, وهذا الهتاف المتصاعدُ. كأن في السيل الجرار منه خلقةً, وكأن في البرق المجلجل منه صبغةً!

2

قلنا لهم أصلحوا التعليم وأحسنوا توظيف السينما وأطلقوا مجالات الفنون إن الشباب قد أدى ما عليه تجاه نفسه ووطنه , أكمل تعليمه واختار تخصصه فأين منكم مقعده ؟! وأين عنكم تبطله وتألمه ؟! فقالوا لنا: كل ذلك في الدستور.

قلنا لهم : هذه ثروات البلاد سحابةٌ سحَّاء ويد ٌبيضاء , ثروات سمكية تفيض بالربح من مختلف الأصناف الممتازة وهذه السواحل الذهبية الممتدة على طول البلاد , ربيع أزرق طوال العام , يموج بالآلئ والأصداف , ويسطع بالسحر والفتنة , منتجع السائحين , ومتنزه الزائرين ,ومندوحة المستثمرين ! تدر على خزينة الدولة من درها الكثير من مال الله ! لتقوى الشوكة , وتعز الأمة ! فأبوا إلا أن يغشوا على الأبصار , وأن يذهبوا دون الناس بخيراتها , وأن يقذفوا بالأموال في الهواء فماسقط على الأرض فهو من نصيبهم , وماعلق في الهواء فهو من نصيب الشعب ! ثم قلتم لنا : كل هذا في الدستور !

وكنتم على حال يشابه حال صاحبي إذ كان يوما يتراشق هو وأحد المخربين على الجهاز اللاسلكي في جبهة من الجبهات أيام الحرب الأهلية في اليمن عام الثمانينات وكان كلما رمى صاحبي بشتيمة رد عليه بضعفها إلى أن قال له صاحبي : إن كل مافي الجبال ومافي الوديان ومافي الأرض ومافي السماء من لعنة في كيس وهذا الكيس كله على ظهرك ! فاستشاط ذلك غضبا ! فكان أن رماه بسبة أكبر ! فضحك صاحبي قائلا : تلك السبة في الكيس ! وصار كلما ابتكر شتيمة قال له صاحبي : في الكيس !

حتى ثار المارد على النظام فأسقط النظام ,وهاج العفريت على الدستور, فهوت شرعية الدستور ,وتتداعت قطع الشطرنج قطعة قطعة فلامجلس شعب ولامجلس شورى ولاحزبا وطنيا ولاهم يحزنون ! هكذا بين عشية وضحاها ! لم يكن لهذه الدولة من نظام إداري منضبط يحفظ لها بقائها , ويمد من عمرها ,حتى إذا أوهت الظروف من حبالها, وأضعفت النكبات من سطوتها, كان على الأقل سقوطها بالتدرج والتدريج ! لكن هذه الأنظمة فيما يبدو للناس , وبعد أن هتكت صيحة الشباب من عورتها تبدو كالكراتين والزنابيل والقراطيس والأوراق الملقاة على الرصيف البارد , متى هبت غضبة مظلوم ,وصيحة ثكلى تطايرات في الهواء !

3

عانى الناس من سلطة الحكم الفرد قرونا ! ومن سلطة الفقيه قرونا ! وأخذت سائر الفنون تنحسر عن الناس إلى قصر السلطان , وأخذت شمعة الحرية في شريان العربيّ تنطفئ , وماكان لها قبل المأجورين أن تنطفئ ! واستبدل العربي في أدبياته :

ألا هبي بصحنك فاصبحينا , ولاتبقي خمور الكندرينا

بـ :

جائتك الخلافة على قدرِ

وما كان العربيُّ قبل بطش السفّاح بمدّاح !

كان هواء الصحراء كله يدخل في رئة العربيّ ثم تزفره غضبة مضرية تضج لها السماء, ويصفر بها وجه الأرض! فصار الهواء كله منحبسا في الصدر , مخددا في الجوف , محتقنا في الحلق ! وكيف لا ؟ وقد كان جزاء أبو مسلم الخراساني الغدر والتنكيل بدلا من المكافأة بالمعروف ورد الجميل ! فقد وطد بنفسه أركان الدولة العباسية , وأهدف نحره في قمع المتظاهرين , ومظاهرة الخارجين , فأدب البغاة , وأسكت الثورات حتى إذا قدم العرش للمنصور تخطفته السيوف , وتنازعته الرماح !

ولقد كان المنصور على جوره , شديد الذكاء ,قوي الحاضرة ,سريع البديهة خطب يوما الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس اتقوا الله .. فقام إليه رجل من عرض الناس فقال : أذكرك الذي ذكرتنا به ! فأجابه المنصور على الفور : سمعا سمعا لمن ذكرنا بالله , وأعوذ بالله أن أذكرك به وأنساه , فتأخذني العزة بالإثم , لقد ضللت ُ إذن وما أنا من المهتدين ! وأما أنت فوالله مالله َ أردت َ بهذا , ولكن ليقال قام فقال فعوقب فصبر .. وأهون بها لو كانت !! وأنا أنذركم أيها الناس أختها , فإن الموعظة علينا نزلت , وفينا أنبتت , ثم رجع إلى موضعه من الخطبة ! فدان له الناس لما كان يشع من وراء كلامه من جلال البيان ومخايل الذكاء وسلطان الحجة وغلبة المحجة !

أما الرئيس صالح اليوم , لما رأى الحشود تسد عليه الأفق , وسمع صيحات الشباب الغضوب , تصم عليه الآذان ,طاحت الورقة من يديه ونسي ماحضّر في ذهنه من كلام , وشرد عنه ماكان في يوم من الأيام ذلولا طيـّعا , فزاد الطين بلة , وصب على النار الزيت فقال : لن أرحل قبل موعد الانتخابات , وقبل أن يستتب الأمن ! فقطع خطبته لهاثُ الشباب في ميدان الشهداء , فأرسل البلطجية وبدأت ثورة الحمير !

أليس هو ذات المنطق ؟! منطق السيف والقمع ؟!

قيل أن يعقوب بن ليث الصفّار كان يطمع بدولة مستقلة عن الدولة العباسية فتمرد على الخليفة , واستولى على خراسان, وعندما وصل إلى نيسابور سمع من يقول : ( من ليس معه عهد من الخليفة فهو عاص ٍ ) فدعا يعقوب الناس إلى الساحة , ووقف في مكان مرتفع , وإلى جانبه عدد كبير من الرجال المسلحين , فقال لعبده : هات عهد أمير المؤمنين لنعرضه عليهم ) ذهب العبد ثم عاد ووضع أمام سيده سيفا مجردا من غمده ملفوفا بخرقة , فشهر الصفار ُ السيف , وقال للناس وهو يهزه في الهواء : ( أمير المؤمنين في بغداد , وهل غير هذا السيف أجلسه هناك ؟ وهذا السيف نفسه أجلسنا هنا . إذن عهدي وعهد أمير المؤمنين واحد ) . أهناك دهاء كهذا ؟

لكن ثورة الفيس بوك اليوم تبدأ سنّة من سنن التاريخ المجيد ! وهاهي أدهى , وأشد نباهة ! وكأن شيئا فيها يفقد النار خاصيتها فلاتحرق , ويفقد الدبابة طبيعتها فلا تجلب ! وينزل الجيش على رغبة الناس في تونس فيفر الحاكم , وتحاكم الحاشية , وتجمد الأرصدة ! وينزل الجيش في مصر على مشارف ميدان الشهداء , لتحرس عينه الشرفاء ,وتصون كتائبه المتظاهرين من الدخلاء !

اليوم يطل فجر جديد من أيام الله ! وتجد الحرية وهي من أعظم مقاصد الديانات , ومن أهم مطالب الناس وهي من أكبر المصالح الضرورية لكل أحد , ومن أجلّ مظاهر تكريم الله لبني البشر ! تجد اليوم في تونس ومصر متنفسا تجد فيه ذاتها , وتنظر في مرآته حقيقتها , وتستعيد به عافيتها , فيبسم الميدان, ويفتر الزمان ! وتجد على توالي الأحداث في تلكم الميادين الغاضبة , مشعرا من مشاعر الحق, يؤدي فيها الناس إلى الله شعيرة الحرية ! فيختلط بالناس الرصاص والكرباج , وتختلف فيهم المطارق والسكاكين , وهم قائمون قائمون ! صابرون صابرون ! فيستشهد الشهداء , ويسقط الجرحى .

ولقد كان الناس يرون في الحاكم هيبة وجلالا ووقارا من الله, لا من السيف, وملاحقة الناس ,وقطع الرواتب ,وفرض الجبايات . بل بمايقسم فيهم الوالي بالسوية , ومايقيم فيهم من سلطان العدل , وما يطلق فيهم من حريات وطاقات ! خطب في الناس عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال أيها الناس : إن رأيتم فيّ اعوجاجا فقوّموني ! فقام واحد من الناس فقال : والله لو رأينا فيك اعوجاجا لقوّمناه بحد سيوفنا ! فقال إمام الناس : لاخير فيكم إن لم تقولوها ولاخير فينا إن لم نسمعها ! هكذا كانوا يفهمون البيعة فهما عميقا , ولها لديهم بعدا سياسيا كبيرا ! وهي المشاركة في إدارة شؤون الحكم ! أما اليوم فهي طاعة سلبية من طرف واحد ! وهكذا ومع مرور الأيام تجذرت سياسة الغلبة بعيد الثورات الدموية , وانقلب الحكم حكما وراثيا , وملكا عضوضا , وحرم الشعب من تحقيق مصيره السياسي !

(وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج..)

taruik@hotmail.com

*المملكة العربية السعودية – الدمام.


في الأحد 17 يوليو-تموز 2011 11:42:23 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=11052