الثور.....
ياسر عبد الباقي
ياسر عبد الباقي

"فصل من رواية القوى والرمح والحب"

حوادث غريبة حدثت في عمارتنا منذ أن سكن فيها رجل غريب , والغريب أننا لم نشاهده يصعد شقته أو ينزل منها , أخبرني صاحب العمارة بأن الساكن الجديد استأجر الشقتين الأخيرتين مع سطح العمارة , ودفع الإيجار مقدما لخمس سنوات قادمة , تضايقت جدا بشأن سطح العمارة , كان المكان الوحيد الذي أستطيع فيه المراجعة بعيدا عن ضوضأة أخوتي.

بدأ سكان العمارة يتهامسون فيما بينهم في أنهم لم يروا الساكن الجديد في العمارة , رغم مرور ثلاثة أشهر من إقامته فيها. حتى أن البعض شكك بعدم وجوده في العمارة , إلا أن الأنوار التي تضأ كل مساء من الشقتين بدد شكوكهم.

 ذات يوم تسربت إلى غرفتي رائحة غريبة تبعث على الاشمئزاز , كانت الساعة الثانية ليلاً ,خرجت من غرفتي وأنا أشعر بالغثيان , ووجدت أمي وإخوتي الصغار جالسين في صالة الغرفة , وأخبرتني أمي بأن الرائحة تأتي من خارج البيت.

فتحت باب شقتنا وتفاجأت أن سكان العمارة تجمهروا أمام شققهم , وقد وضع معظمهم المناديل على أنوفهم.

نزلت خالة حسنة وهي تسكن تحت شقة الغريب , لتخبرنا أن الرائحة تأتي من شقته , وساد الهرج والمرج في العمارة , حتى تدخل الحاج بونيف واستطاع يقنع الجميع قائلا " ليس من المعقول أن يأتي فجأة من شقة الغريب , ونحن خلال أقامته لم نشاهده ولا مرة واحدة " وذكر الجميع بأن هناك حوتا كبيراً لفظه البحر وهذه رائحة الجيفة.

ساد الهدوء فجأة في العمارة , فبدأ السكان يتراجعون إلى شققهم , نظرية الحاج لم تعجبني , نظرت إلى شقة الغريب , شعرت أن شخصاً ما كان يراقبنا.

لم أنم , بقيت طوال الليل مخنوقة بالرائحة , كانت الساعة الرابعة فجراً , لم أصلِّ بعد ,لكني قررت فجأة أن أعرف سبب أن يستأجر الغريب سطح العمارة كاملاً, خرجت من شقتي دون أن تحس بي أمي وإخوتي.

كان الظلام يهيمن على العمارة , صعدت السلم ببطء وحذر , وقفت أمام شقة الغريب , المكان هادئ جدا , وكان الضوء يتسرب خلسة من تحت الباب . فكرت أن أصعد إلى سطح العمارة , لم أتردد كثيرا , وجدت نفسي أصعد إلى السطح , وجدت بابه مفتوحا , ودفعته قليلا , ودخلت , ووقفت مرتعبة في مكاني . أحسست أن قدميّ مصلوبتان , وبقي فمي فاغرا لفترة طويلة , كان الأمر يدعو إلى الدهشة وإلى الخوف معاً , وجدت نفسي أمام غابة , لم يكن حلما وان بدء الأمر وكأنه حلما , أشجار عملاقة , وحيوانات كثيرة لا تجدها إلا في الغابة تركض هنا وهناك , شعرت فجأة وكأن جسمي يختلج في مكانه , لمحت خيال رجل , يقترب مني , تراجعت قليلا إلى الوراء , وقد كتمت أنفاسي , وركضت عائدة إلى شقتي , وشعرت كأنه يلاحقني , دسست نفسي في فراشي , ورحت أبكي خائفة.

لم أخبر أحداً من سكان العمارة , لن يصدقني أحد , فعلاقتي مع أغلبهم سيئة , فلزمت الصمت.

تم التخلص من جثة الحوت , لكن الرائحة مازالت تزعجنا , ضج سكان العمارة مرة أخرى من الرائحة , وزادت شكوكهم مرة ثانية نحو الساكن الغريب , حاولت أن ألمح للبعض بأنها رائحة زريبة لعله يربي حيوانات على السطح , ذهب اثنان من الرجال لشقة الغريب ولم يجدا شيئاً , وصعدا إلى السطح ووجدا باب السطح مغلقاً , قال احدهم بأنه مغلق بقفل كبير لم يرَ مثله في حياته , ففكرت أن أكتب شكوى لصاحب العمارة وللشرطة معا , وكتبت عشرات الرسائل ولم يبالِ بنا أحد.

اخبرني الطبيب بأنني أعاني من ضيق تنفس , عندما أخبرته عن الرائحة , طلب مني أن أغير السكن . كان من الصعب أن تحزم أغراضك وتبحث عن سكن جديد وبيئة جديدة , ولدت في هذه العمارة وسأموت فيها.

الرجل الغريب وحيواناته الجيفة هو من عليه أن يغادر العمارة.

حتى ذات يوم فاض بي الغضب , وبدأت الرائحة كأنها تتلبسني , كانت الساعة الثانية ليلا , أخدت قارورة الجاز من المطبخ وخرجت من الشقة , صعدت سطح العمارة بخفة , وكان الباب مغلقاً من الداخل , ورحت أسكب الجاز من تحته , ثم أشعلت الثقاب ورميته على الجاز , اشتعلت النار بسرعة فائقة وشعرت بالذعر وتعترث وسقطت على درجات السلم وتناثرت قطع زجاج القارورة , سمعت صوتاً أخافني , صوت رجل يتألم , ونهضت مسرعة , وجرحت قدمي بالزجاج , ورحت أركض مخلفة الدماء من جرحي.

دخلت شقتي , وغرفتي , واندسست في بفراشي .. وحاولت أن أنام.

في الصباح كان الجرح قد شفى تماما إلى درجة الدهشة , منذ ذلك اليوم اختفت الرائحة , وأخبرني صاحب العمارة بأن الساكن الغريب , قد غادر الشقتين والسطح , وأصبحت الشقة مهجورة لأكثر من سنة , لم يشعر أحد بالحريق , وكأنه لم يكن , لكني أصبحت أعيش في قلق دائم.

حتى صباح يوم السبت عادت أختي مرتعبة إلى البيت , وفي وجهها بلاهة عجيبة:

- أمي هناك ثور نائم في مدخل باب العمارة.

نظرت إلى أمي بدهشة, كنت في ذلك الوقت ألملم أغراضي للذهاب إلى الثانوية . ركضنا معا أنا وأمي وإخوتي , وجدنا سكان العمارة في دهشة كبيرة , سمعت احدهم يردد : " لمن هذا الثور .. ولمَ وضعه أمام الباب , لدينا أعمال , ومدارس و ..

كان الثور ضخماً بشكل لا يصدق , بجلد أسود لامع , وقرنين كبيرين , بدا أمامنا نائماً غير مبالي بجلبه السكان من حوله , لأول مرة أشاهد ثوراً , كنت اعرف شكل الثور من خلال التلفزيون أو من خلال المجلات العلمية , هاهو الآن أمامي نائم بسكون , كنت أعرف أن ما يثير الثور هو اللون الأحمر . لم أكن أرتديه وبالصدفة لا أحد في العمارة كان يرتديه في ذلك الوقت , كنت أفكر , وأخطو بحذر إلى الأمام .

حرك الثور رأسه , فأرتبك الجميع . وركض الأطفال والأمهات نحو الشقق , وبقي الرجال في أماكنهم بحذر وريبة .

سمعت أحدهم يعلق ساخرا : هل نحن في أسبانيا .

فجأة فتح الثور نصف عينيه , لعينيه وميض مخيف , بقي يحدق إلى الأمام نحو نقطه ما .. بتحد , تراجع سكان العمارة إلى الخلف , ثم راح جميعهم يحدقون نحو هذه النقطة التي أثارت الثور , كانت النقطة هي أنا , بقيت وحدي أمامه , صرخت أمي بي وطلبت مني أن أركض .

خانتني قدماي , أحست كأنها مكهربة في مكانها , وقف الثور , ونفض جسده , ثم أنزل رأسه قليلا إلى أسفل , وبعد نفخه الهواء من أنفه , وراح يحرك رأسه وقرنيه يمينا وشمالاً , وعيناه مصوبتان نحوي .

سمعت أحدهم يصيح بصوت متهتك : " سيهجم عليك .. اهربــ .... "

ركض الثور .. وركض الجميع .. والتف أحدهم حول الثور وركض نحو باب العمارة .. ثم صرخة : باب العمارة مغلق بقفل كبير.

وأمي تصرخ و تطلب مني الركض والركض , ارتعبت وارتعبت العمارة , أمي من شدة خوفها ركضت وأغلقت باب الشقة عليه , كنت مازلت واقفة . والثور يركض نحوي , وتزحلق الثور بسبب بلاط الأرضية , تشجعت وركضت إلى أعلى السلم , وبقي الثور واقفا في أسفله , وبدأ يصعد درجات السلم ببطء , وكان قرنه الأيسر يخدش الجدار كلما صعد ويصبني بالقشعريرة .

أخرجت قلمي من جيبي ورميته به , وأصبت رأسه , مما أغضبه وجعله يصعد السلم بسرعة أكثر . فركضت , ورحت أصيح وكنت أدق أبواب الشقق , ولم يفتح لي أحد , وجدت نفسي وحدي مع الثور في ممر الدور الخامس , تبولت من شدة الخوف , وشعرت بحرارة البول في ملابسي وأصابع قدمي . كان يقف أمامي ويبعد عني نحو ثلاثين متراُ .

" هل هي لحظة الموت " .. لا مكان للهروب , واستسلمت له .. كنت أنتظر الطعنة , تمنيتها طعنة مميتة من دون ألم , كتمت خوفي , وإن كان صدري يلهث ويلهث , أغمضت عيني , وفتحت ذراعي إلى آخرهما , وبدأ الثور يركض نحوي بقوة شديدة وفجأة تزحلق الثور وأخذ ت جثته الضخمة تدور حول نفسها نحوي , انتهزت الفرصة وركضت من أمامه لكنه جرحني بطرف قرنه وأصاب ساقي , سقطت متألمة, فتحت خالة حسنة باب شقتها وراحت تشير بيدها نحوي مرتعبة .

فرحت أركض متعرجة, ويركض الثور خلفي , وخالة حسنة تصيح وتحثني على الركض أكثر وأكثر , قذفت نفسي إلى الشقة , وأسرعت خالة حسنة بإغلاق الباب خلفي , والثور الغاضب راح يضرب الباب بقوة , حتى كاد يخلعه من مكانه .

سألتني خالة حسنة : ماذا يريد منك الثور .. ماذا عملتِ .

لم أجب , كانت ساقي تؤلمني , توقف الثور عن دك الباب , لعله يستريح , استراحة المحارب , نظرت من عدسة الباب , وجدته جالساً ومحدقاً نحو بابنا .

- ماذا سنفعل ؟!! كان صوت حسنة خائفاً.

وجلست أفكر , مازال عقلي يعمل , نظرت إلى البلكونة , وعنّت لي فكرة مجنونة , صحت :

- خالة حسنة , سوف نقتل هذا الثور اللعين .

بهتت حسنة :

- نقتله !!

وطلبت منها أن تجلب لي حبلا متينا قادراً على حملي , أسرعت إلى المطبخ , أحضرت لي حبلا , قمت أولا بربط الحبل على دولاب كبير في الصالة , ثم قمت بعقد الحبل حول خصري بقوة , كانت الخالة تراقبني بدهشة.

ابتسمت لها وأخبرتها بأننا سوف نشترك في قتله , شاهدتها ترتجف , ذهبت إلى البلكونة , ونظرت إلى الشارع , ثم تنفست , أخرجت سيجارة , ووضعتها بفمي دون أن أشعلها , ووجدت حسنة تبتسم لي , ثم صعدت على حافة البلكونة , ووقفت عليه .

صاحت خالة حسنة :

- ماذا تفعلين .. سوف تسقطين .

فصرخت بها : اخرسي .. انك توترينني .. إلا تشاهدين الحبل يمسك بي .. سوف نجعل الثور يسقط ويتحطم .

وصمت , وتسقط السيجارة من فمي , راقبتها وهي تسقط إلى الشارع , رفعت رأسي عاليا , أن التحديق نحو الأسفل يجعلني أرتعب .

فكرة الموت راودتني كثيراً.. لتكن هذه إحداها , طلبت منها أن تفتح الباب إلى آخره .

كان الثور جالسا .. وعندما شاهدني أمامه واقفة . انتصب فرحاً , ثم أخد يركض بقوة نحوي , وقبضتي تشتد كلما اقترب على الحبل , قفز الثور نحوي , رأيته وكأنه يطير , وقبل أن يصل إلي بثوان قليلة , قفزت إلى خارج البلكونه , فالتف الحبل بأحد قرنيه , وجعلني أدور حول نفسي بسرعة , وكاد الحبل يقطع خصري , وهوى الثور إلى أسفل الشارع , كان الأمر لا يصدق , لقد هزمت الثور والخوف .

فالتفت إلى أعلى , وجدت رجلاً أسود .. دون ملامح ينظر ألي من سطح العمارة , اعتقدت بأني أحلم , مسحت عيني من العرق ووجدته كأنه يبتسم لي واختفى بعد ذلك.

* * *

وصمتت مليكة طويلا , ثم راحت تحدق نحو الكرسي الفارغ الذي بجانبي .. وسألتها :

- ومن هو الرجل الأسود دون ملامح .

 قالت من دون أن تلتفت إليّ : صاحب الغابة التي أحرقتها , وأحرقته .

صمتت قليلا وتابعت : إنه الآن يلازمني في كل مكان .

- يلازمك .

كان صوتها هادئاً ومخيفا : نعم .. إنه قريب منك .

نظرت بريبة نحو الكرسي الفارغ , وسألتها بشك :

- وماذا يفعل ؟!

قالت دون أن تنظر إلي : يراقبك .. ويبتسم .

تراجعت قليلا إلى الخلف مذعورا , وتعترث , ولملمت أوراقي , وغادرت مسرعاً من دون أن أتفوه بكلمة. وتذكرت الجنية التي كانت تتبعني حيثما أذهب قبل أن أغادر القرية وتختفي.


في السبت 02 يوليو-تموز 2011 04:59:48 م

تجد هذا المقال في مأرب برس | موقع الأخبار الأول
https://marebpress.net
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
https://marebpress.net/articles.php?id=10883