|
بعد مرور الأسبوع الأول من ما أطلق عليه في وسائل الإعلام الرسمية الاعتداء الآثم ، ومع كشفت بعض المعلومات عبر وزارة الدفاع اليمنية فإن معطيات جديدة يمكن من خلالها التنبؤ بطبيعة هذا الحدث بمفهومه السياسي قبل الأمني ، لأننا حتى في حال كشفت الأيام عن وقوع الحدث والإصابات فعلاً، ستضل الأسباب السياسية هي الدافع الأول والمحتمل لتلك الواقعة سوى كانت تلك الأسباب مرتبطة بالأحداث الراهنة أو تصفية حسابات قديمة ، كون الملف السياسي اليمني المعاصر مليء بالغموض وعلى وجه الخصوص منذ ما يقرب من(35)سنة مضت ، وبالتالي تضل كل الرؤى والسيناريوهات محتملة سواء بمضمونها الداخلي أو الخارجي ، ويدعم فرضية البعد التاريخي في أحداث جمعة القصر الرئاسي محطات سياسية هامة مرت بها اليمن خلال ثلث قرن من الزمن يمكن إجمالها في المشاهد التالية :
المشهد الأول : هو المشهد الأطول إذ يمر عبر ذاكرتنا مجموعة من الأحداث الدامية بداية بأحداث السبعينيات وهي عديدة حيث تبرز فيها جريمة اغتيال الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي ، مروراً بأحداث تعز والناصريين ، ومع دخول الثمانينات أخذ المشهد صورة أخرى من الصراع بما أسمي مرحلة الجبهة في المناطق الوسطى ، ثم بصورة عابرة ننتقل إلى مشهد آخر لازالت توابعه السياسية والأمنية قائمة حتى الآن ذلك الحدث في منتصف التسعينيات تمثله حرب صيف (1994م) والذي أشعل توتراً سياسياً وأمنياً في جنوب الوطن ، ومع إطلالة القرن الواحد والعشرين ينقلنا المشهد إلى أقصى الشمال في محافظة صعدة وما جاورها لتدخل اليمن في حرب استنزاف استمرت لست جولات خسرت فيها اليمن مليارات الدولارات وعشرات الآلاف من خيرة شباب هذه الأمة سواء من أبناء القوات المسلحة أو الحوثيين فكلهم يمنيين والعجيب أن تلك الحروب الطاحنة لم يقدم تفسير مقنع لها حتى الآن.
المشهد الثاني : عراك سياسي بين المؤتمر الشعبي العام وحلفاؤه في مواجهة اللقاء المشترك وحلفاؤه ، وعلى الرغم جلسات الحوار التي استمرت لسنين إلاَّ أنها في آخر المطاف وبالتحديد في نهاية شهر أكتوبر وصلت إلى طريق مسدود وأعلن رئيس الجمهورية شخصياً توقيف الحوار والدعوة لانتخابات بموافقة أو بدون موافقة المعارضة مستلهماً نجاح الرئيس المصري حسني مبارك خلال تلك الفترة في تجاوز المعارضة وتحقيق الأغلبية المطلقة التي كان يهدف من خلالها حسني مبارك التهيئة لتوريث نجله جمال ، ولكن فجأة ودون مقدمات تندلع الثورة التونسية ويهرب (زين العابدين بن علي) وتندلع الثورة المصرية وتطيح بمبارك ، في هذه اللحظة يطالب صالح بضرورة العودة للحوار ويطرح المبادرات ويسحب مشروع تعديل مادة الدستور الخاصة بالتأبيد ، ومع كل ذلك كانت كل المبادرات تأتي متأخرة عن مطالب المعارضة ووصل الحوار الداخلي إلى طريق مسدود.
المشهد الثالث : رئيس الجمهورية يرسل بعض أركان نظامه إلى دول الخليج للتوسط لدى المعارضة ، فتبادر دول الخليج وتحاور المعارضة ، وبعد نقاشات مع الحكومة والمعارضة تأتي النتيجة بصدور المبادرة الخليجية التي تؤكد على مبدأ رحيل الرئيس خلال شهر ، لكن صالح رفض تلك المبادرة وأرسل بعض معاونيه لإقناع دول الخليج بإعادة صياغة المبادرة ، وفعلاً أعلنت دول الخليج صيغة معدلة مليئة بالغموض وهو ما أدى لرفضها من المعارضة ، واستمر التعديل بالحذف والإضافة حتى استجاب الرئيس صالح لإحدى نسخ المبادرة بعد أن أوهمته المعارضة برفضها لهذه النسخة ، ومن ثم حشر صالح نفسه في زاوية من الصعب الخروج منها إلاَّ برفض المبادرة بشكل كلي ولذلك عواقب إقليمية ودولية لا قبل له بها.
المشهد الرابع : يعتبر من أخطر المشاهد التي أدت لتصاعد الموقف بشكل غير مسبوق فبعد أن حشر صالح في زاوية المبادرة الخليجية بدأ يلوح بالموافقة حيناً والرفض حيناً آخر مستنداً إلى عدد من المبررات الشكلية ، وتصاعد هذا المشهد بحدة عندما وعد بالتوقيع يوم الثاني والعشرين من مايو 2011م ، فبادر الوسيط الخليجي الزياني بإقناع المعارضة بالتوقيع مسبقاً وتم ذلك فعلاً ، ثم ذهب لصالح لإتمام التوقيع فرفض صالح بحجة عدم حضور قيادات المعارضة إلى القصر -وفي مناسبة لاحقة برر عدم التوقيع لأسلوب الزياني المستفز له – ومن الأخطاء السياسية خلال تلك الفترة محاصرة السفارة الإماراتية من قبل أنصار الحزب الحاكم بغرض توجيه رسالة سياسية لدول الخليج ، وبالتالي دخل صالح فيما يعرف قبلياً بالعيب الأسود ، وفي خطأ فادح بالعرف الدبلوماسي وموقف معادي لدول الخليج العربي ، مما أدى لتعليق المبادرة الخليجية والتلويح برفع الملف اليمني إلى مجلس الأمن.
المشهد الخامس: صالح يحاول الخروج من المأزق بأحداث كبرى تدفع المجتمع الدولي ودول الخليج على وجه الخصوص إلى التغاضي عن الأخطاء الجسيمة التي ارتكبت في الثاني والعشرين من مايو 2011م، ولن يكون ذلك إلاَّ بأحداث كبرى، وكان ذلك باشتعال المواجهات في منطقة الحصبة التي تهدد بحرب أهلية ، مروراً بحرق ساحة الحرية بتعز ،إلى زنجبار بأبين ، ثم قصف مناطق في أرحب ونهم والحيمة ، وفي كل تلك الأحداث حاول صالح تقديم رسائل خارجية بأنه لازال ممسك بزمام المبادرة السياسية والأمنية في الداخل ، ومازال اليد الضاربة للعدو الكبير تنظيم القاعدة ، في هذه الأثناء بدأت الوساطات الداخلية والخارجية تدور حول إنهاء صراع صالح مع آل الأحمر ، ولسؤ الحظ يقع صالح في عيب أسود آخر عندما قصفت قواته منزل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر بوجود وساطة جزء منها من طرفه هو، مما أدى ببعض القبائل إلى إهدار دمه ، وهو ما نتج عنه غيابه لأول مرة عن جمهوره في جمعة السبعين ، وأصبح صالح في وضع لا يحسد عليه داخلياً، خاصة بعد سيطرة قوات صادق الأحمر على عدد من الدوائر الحكومية ، يلي ذلك تبعات العدوان الآثم على ساحة الحرية بتعز والذي زاد من عداوة أبناء تعز بشكل خاص لسلطة على صالح وقد برز ذلك بتداعي قبائل تعز بالأسلحة لحماية المعتصمين ، إذن فالصورة تزيد تعقيداً على المستويين الداخلي والخارجي.
المشهد السادس : مع تأزم الوضع السياسي والأمني الداخلي والخارجي يأتي الحديث عن تفجير مسجد القصر الرئاسي الذي تباينت الآراء حول مصدره ومنفذيه ، وتبدأ الروايات والتحليلات التي سبق وأن أشرنا إلى بعضها في موضوع سابق بعنوان(جمعة القصر الرئاسي ..حقائق وأوهام) ومع إقرارنا بكل الاحتمالات لفك اللغز الكبير ، فإنه ومن المؤكد أن ذلك اللغز فك الضغوط الدولية التي كانت تحاصر سلطة الرئيس صالح ، ورفعت مرة أخرى من مستوى تعاطف أنصار صالح ، بعد أن تراجعت شعبيته بشكل كبير وخاصة بعد القصف الذي نال منزل الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر -حتى أن الكثير من قواعد المؤتمر على المستوى الشعبي بدأت تطرح مبدأ تسليم صالح للسلطة بحجة عدم قدرته على حسم المعارك الدائرة في منطقة الحصبة - وبالتالي كان ذلك التفجير المنقذ الذي أعطى مادة إعلامية جديدة لاستعادة جمهور الرئيس وفعلاً حدث ذلك بشكل نسبي ، وتم التأكد من ذلك من خلال إمطار سماء عدد من المحافظات اليمنية بملايين الطلقات النارية بمبرر سلامة الرئيس وخروجه من غرفة العمليات ، بل وصل الأمر إلى إيهام بعض المذيعات للرأي العام بعودة الرئيس سالماً في ذلك اليوم ، وفعلاً أثرت تلك الخطوة في رفع معنويات أنصار الحزب الحاكم مرة أخرى خاصة بعد تزامن ذلك مع هدنة قوات صالح مع أنصار الشيخ صادق الأحمر .
المشهد السابع : المشهد الختامي لثلث قرن من السياسية ويشكل تقرير وزارة الدفاع الذي أشار لسقوط حوالي مائة وعشرين قتيل وجريح وفي مواقع مختلفة منها داخل القصر وخارجه وفي العرضي ، ومنهم أحفاد لصالح كل ذلك يمثل امتداداً للغز الكبير يضاف إلى ذلك تواتر الأنباء حول نقل بعض عوائل أركان السلطة إلى السعودية والإمارات ، ولكن وفي كل الأحوال إذا خرج صالح سليماً معافى فإن أنصاره حتما سيتسألون عن حقيقة ما جرى وكيف مات العشرات وجرح المئات ولم يصب هو بأذى وهنا يتوقع أن يخسر ما كسبه خلال أسابيع من المناصرين ،ومن ثم سيدخله ذلك في أزمة سياسية حادة مع أنصاره قبل معارضيه ، أما في الحالة الأخرى إذا تبين إصابته بإصابات بالغة كما كشفت عنه ما قيل أنها تقارير طبية ، فمن المؤكد أنه وصل إلى مرحلة العجز السياسي وهذا يستدعي نقل سلطته إلى نائبه حسب المواد الدستورية المعنية بذلك،وهذا الاحتمال يشكل خطورة شديدة على حياة النائب عبد ربه منصور هادي لأن هناك بعض الجهات قد تقوم بمغامرات توصل البلد إلى فراغ دستوري ثم تشكل مجلس عسكري من السلطة القائمة ، وفرض أمر واقع جديد.
أخيراً يمكن القول مهما اختلفت تفسيرات فك لغز جمعة القصر الرئاسي ، فما هو مؤكد أن اليمن ستدخل حقبة جديدة في تاريخها السياسي ستمتد لعقود قادمة ، تلك الحقبة ستبنى على معطيات سياسية وميدانية جديدة ، لا يمكن التنبؤ بها إلاَّ في ضوء وضوح المشهد السياسي ، وهو ما ستبينه الأسابيع القادمة بإذن الله .
في الثلاثاء 14 يونيو-حزيران 2011 05:30:08 م