لا يمكن للحياة أن تكون أقسى
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 13 سنة و شهرين و 27 يوماً
الأربعاء 29 ديسمبر-كانون الأول 2010 06:14 م

أعترف أنني أكتب الآن لكي أبرهن فقط لنفسي أنني لست امرأً عديم النفع وفاشلاً. عندما أشعر بنفسي منسياً أكثر، تتملكني الرغبة في قول شيء ما. لكن سرعان ما أتذكر أن ما أريد قوله قد قلته بطريقة أو بأخرى لأحدهم عبر شبكة الانترنت، أو في مقيل ما، أو أنني ناقشته في مقال سابق، أو قاله ما لا يحصى من الناس بما لا يحصى من الأشكال والكلمات.

في أوقات كثيرة تصبح الكتابة نشاطاً مفتعلاً يحول بين الإنسان وبين أن يغدو "نفاية اجتماعية" لا يؤبه له. وهي طريقة أخرى لمقاومة الشعور بـ"تهديدات العجز"، بحسب الروائي البوليفي يوسا، الحاصل على نوبل 2010، ذلك الشعور الموهن جدا الذي يتفق انه يعتري الكاتب في لحظة معينة من لحظات حياته.

الرغبة الدائمة في قول شيء! إنها آفة البشرية لكي لا أعتقد أنها آفتي الشخصية فحسب.

"ففي عالم من المخاطر غير المتوازية، المجهولية أمر بالغ الخطورة"، هكذا قال اريك شميدت رئيس شركة غوغل قبل بضعة أشهر. لهذا لا شيء يهزمني أكثر من المجهولية هذه التي أشار إليها شميدت. على الدوام، أرغب (الجميع يرغب) في فعل ما يمنحني الإحساس بالوجود، الوجود اللائق. أكره العزلة والصمت والنسيان وليل القرية، نباح الكلاب والغناء الكئيب للجداجد، أكره النعيق الذي يشرخ سكون الليالي الظلماء، أكره الظهيرة الميتة في حيد علي احسين، ذلك المنحدر المشرف على هاوية سحيقة، المليء بالأشباح، إنه الشاهد الأمين على براعة أمي في تسلق الجبال.

الآن عثرت على ما يمكنني الكتابة عنه: القرية وقسوة الطبيعة التي لا تقهر، المكان الذي زرته في العيد الماضي حيث كانت أمي تنتظرني بفارغ الصبر على التلة المجاورة للبيت. لقد كنت مدفوعا بالذكريات والحنين والواجب.

كنت خوفينال اوربينيو في رواية جارثيا ماركيز "الحب في زمن الكوليرا". خوفينال الطالب العائد من باريس وليس عوليس في الأوديسة، المحارب العائد إلى مسقط رأسه إيثاكا. تذكرت عودة خوفينال من باريس بشعر مفروق من وسطه و"سيطرة كافية لإخفاء عقدة الحنجرة التي لم يكن سببها الحزن، وإنما الرعب". كانت أمه وشقيقتاه وصديق قديم ينتظرونه، فوجدهم "شاحبين وبلا مستقل". إنه يشاهد أمه الآن وهي تذوي على نار هادئة وتعبق من ملابسها روائح الكافور.

الأم التي لا تلبث أن تدرك اضطراب ابنها؛ تسارع إلى سؤاله وكأنها تدافع عن نفسها: لماذا هو عائد بهذه البشرة الشفافة كالبارفان؟ "إنها الحياة يا أماه. فالمرء يتحول أخضر في باريس"، يرد خوفينال. كل شيء بدا لخوفينال أضأل مما كان عليه عند ذهابه، وبدا أشد فقرا وكآبة. جرذان ومزابل وقصور بالية على وشك الانهيار. "حينئذ فقط أدرك إلى أي حد كان ضحية سهلة لأحابيل الحنين الخادعة، رأى نفسه مهزوما، فأدار وجهه كي لا تراه أمه، وأطلق لبكائه الصامت العنان".

لا أجد طريقة أفضل من هذا للتعبير عن لحظة رهيبة تركت ثقبا في الذاكرة والروح، وحزناً لا يموت. كنت أعرف أن ثمة عذاباً وأن ثمة بؤساً وحرماناً، إلا أنني سمحت لنفسي بأن تنقاد لألاعيب الحنين، وربما لأنني رحت أنظر إلى الأمور بالوعي الانثروبولوجي للصحفي الذي أظن أنني أصبحت. ناهيك عن أن العام 2010 كان عاما خصبا في معظم الأرياف اليمنية، بعد سنوات من القحط والجفاف. لهذا السبب تخيلت أن الأشياء ستبدو أقل سوءا.

لكن لا شيء أقل سوءا. المواشي فقط ترعى في المضارب، والنساء ينجبن الكثير من الأطفال، والفتيان صاروا رجالا بآباط كثة ولحى وحبال صوتية مرتخية بأكثر مما يحتاجون إليه، وتساقط شعر ومني وياقات معروقة، وحكايات مريرة من جيزان والخميس وصامطة ومعسكر الأمن المركزي ومقوات الزعبلي.

الزمن في القرية بطيء لكنه متلاف، غول قاهر. إنه ينخر بلا هوادة: الأجساد والحيوات وكذلك الأحلام. الأشياء تبدو اصغر أو أكبر مما كانت عليه، أجساد تتشكل كيفما اتفق ثم تضمحل وتموت كيفما اتفق أيضا. وعلى عكس صديقي محمود ياسين، الكاتب الكبير، لا أتذكر أنني عشقت يوما الظهيرة ولا العطش ولا الشموس.

تقترح الحياة هناك مصائر قاسية و"غوط" في كل مكان وآلام. مصائر تفتقر لروح الخفة لدرجة يتعذر معها تحويلها إلى نصوص أو مقالات مدهشة. ضفع وبراغيث وروائح عطنة وأوساخ. مرض جلدي يفتك بكلب عجوز لطالما عهدته ذليلا وأحمق. لا أعرف كم يزن ذلك الكلب، لكنه ضخم بقوائم مرتفعة وعيون حزينة. إنه ينام كثيرا ويحدق، يحدق بلا توقف وينسى أنه كلب! وفي مواسم السفاد تجيء إليه أجمل الكلبات البرية وعن طيب خاطر.

عرفته منذ جراوته. كان كلب العائلة الكبير، لكنه لا يمتلك شجرة نسب، بحيث أستطيع الكتابة عنه على طريقة جاك لندن، مؤلف الرواية العظيمة "نداء البداءة"، فأقول مثلا إن هذا الكلب ذا الشعر الضارب للحمرة، يتحدر من سلالة الاسكيمو أو مليموت أو خليج هدسون أو من فصيلة السان برنار. نحن نحتفظ بأنساب البشر، الشكر لله، لكن الكلاب تتمتع بفردانية مطلقة.

 ذباب في القرية: سوداء وخضراء ومذهبة. وتسمع حكاية دجاجة فقدت بصرها فجأة وكيف أنها لا تزال تطلق قوقأة مخنوقة وتبيض! بقرة حزينة ملدوغة في درتها وهي تحتضر الآن، قد تنجو. امرأة سقطت من علو شاهق وماتت لكن الناس يعتقدون أنها مخطوفة في مملكة الجن، وأنها تصادف الناس في الطرقات ليلا.

رجلان متقدمان في السن ومن كبار ملاك الأراضي يقتسمان حجرة مستطيلة واحدة، احدهما أقعده الجذام، والآخر قتل الشلل نصف جسده، وكان أحدهما في ما مضى لا يطيق الآخر. امرأة كانت جبارة في ما مضى ولم يتبق منها سوى صوتها المجلجل بعد أن فقدت السيطرة على مثانتها.

وأميل إلى التشكيك في حكاية عن فتاة مبتورة الرجل يقال إنها لا تزال تستعمل كزوجة وتنجب أطفالا بكفاءة مصنع ذخائر. لكني سمعت رجل مفتون بقبر متوف حديثا، قبر أؤكد لكم أنه قبر، قبر قال إنه متسق أنيق وخال من الصخور، ولا بد أنه كان يحلم بقبر كهذا عندما توافيه المنية.

لا يحدث كل هذا في قريتي بالضبط، لكن لا يبدو مستبعدا أن أمورا كهذه تحدث في قرية ما.

هناك، الألم ألم، والجهل جهل، والريف ريف، وأفواه هتماء لشيوخ يطلقون قهقهات عظيمة. تحمل الحياة هناك طابع بهائمياً ويحمل الناس بدورهم طابعا بهائميا. رغم أنني مقتنع أن الكتابة عن بهائمية الريف على هذا النحو بهائمية مضاعفة.

لا يمكن لدنيا الله أن تكون أقسى من هذا، إنها لقاسية. وحتى لو جازفت بوضع نفسي موضع السخرية، سأجرؤ على الجزم بأن البؤس أقل في روايات أمريكا اللاتينية التي تدور أحداثها في القرن التاسع عشر، وكذلك الخرافات. حتى الحياة في الكثير من كلاسيكيات الأدب الروسي عن أرياف روسيا القرن التاسع عشر، لا تتشابه إلا في مستوى بسيط للغاية مع أنماط العيش والتفكير والشقاء والجهالة في الريف اليمني الآن. ففي روايات غوغول وتشيخوف مثلا نستطيع العثور على عربات تجرها الأحصنة، وسهوب خضراء، وموسيقى وبارات وأنهار، وملاك أراض كبار وصالات قمار، ومسرح وكتب وحفلات راقصة ومرافق حكومية.

ليس في الأمر مبالغة من أي نوع. ولا يبدو أنني كتبت ما لم يكتب. كل ما هنالك أنني وصفت ما يفترض أنه معلوم لمعظم الحضريين المتحدرين من الأرياف، مع تفاوت في درجات البؤس والبداءة.

على أنني لا أعرف حتى هذه اللحظة ما الذي كنت أرمي إليه من خلال سردي لما هي عليه الحياة في القرية. البؤس؟ هذه من أكثر الكلمات تداولا في الصحافة اليمنية والنقاشات العامة. الدولة إذن؟ لا أظن، فهذا استنتاج لا يقل بؤسا. ففي قريتي الصغيرة مدرسة من ثلاثة فصول تم تشييدها قبل بضع سنوات. وتقريبا كل القرى الصغيرة المجاورة باتت تمتلك مدارسها الخاصة، وهي مبان جيدة جدا، والحق يقال، تستعمل للمناسبات الاجتماعية ويتفق أن ينسى الأهالي فيها المتافل والمتاكي والأسلاك الكهربائية والبطانيات.

لا أزعم أنني كنت انوي من البداية الخروج بخلاصات ذكية عن غياب الدولة، والتعبير عن استيائي من العزوف التام للطبقة السياسية عن كل ما هو ضروري، الطبقة السياسية التي تصوغ خطابها السياسي وبرامجها وأولوياتها طبقا لاحتياجات الحضريين وأنصاف الحضريين.

صحيح بودي لو أولينا مسائل مثل التوزيع السكاني (130 ألف تجمع سكاني)، والتخطيط الحضري، السياسة التعليمية، الاندماج الاجتماعي، اهتماما أكبر. وأشدد هنا على فوضى التذرر السكاني التاريخية، هذه المعضلة الجوهرية التي تساهم في صناعة الفجوة الهائلة على صعيد الخدمات وأساليب الحياة والتعليم والعزلة الاجتماعية.

لا يشكو الناس في بعض الأرياف من غياب الدولة ولا من حضورها. ولقد وجدت تفسيرا جيدا في تلك العلاقة، التي ناقشها جمال حمدان، وقبله مونتسكيو وماتويتزي، بين الظروف الجغرافية والملامح الاجتماعية والسياسية. وكيف يجد الحكم المطلق والطغيان مكانه الملائم في البيئة الفيضية المعتمدة على الأنهار في الري والزراعة مثل مصر والعراق وفارس، بينما تتقلص إمكانية نشوء نظام حكم مطلق في البيئات المطرية مثل اليمن.

في البيئة المطرية، يقول جمال حمدان، تكون الزراعة عرضة لذبذبات المناخ، وفلاحها تحت رحمته. ثم إن المطر لا يحتاج إلى تخطيط، هذا يعني أن الطبيعة هنا هي سيدة الفلاح، والفلاح بالتالي سيد نفسه، الأمر الذي يعطي الفلاح فرصة للفردية بدرجة أو بأخرى، بحسب حمدان.

لكن لا ينطبق بالضرورة على المجتمعات الريفية في اليمن ما ينطبق على "المجتمعات البدائية"، الهمج والآباش البريين مثلا، التي تناولها عالم الإناسة الفرنسي بيار كلاستر، تلك المجتمعات المضادة للدولة "ليس نتيجة عجز أو تأخر تاريخي بقدر ما هو نتيجة قرار واع اتخذه المجتمع من أجل منعها من الظهور".

من وجهة نظر كلاستر، فالمجتمعات البدائية هي كل ما هو صغير ومحدود ومختصَر، وهي مجتمعات الانقسام المتواصل، مجتمعات تقع في جهة المتعدّد؛ في حين تقع مجتمعات الدّولة في الجهة المعاكسة تماما، أي جهة النّموّ والاندماج، جهة التوحّد.

بالتأكيد، غالبية الريف اليمني يتألف من وحدات اجتماعية متناثرة على مساحات جغرافية مترامية الإطراف، وهذه الوحدات تنتج قوانينها الخاصة وتقوم ذاتيا بتنظيم مصالحها وحمايتها، لكنها تاريخيا تتمتع بقابلية حقيقية لتواجد دولة، وسجل هذه المجتمعات يحتوي على بروفات ونماذج أولية تثير الإعجاب. باختصار، ليست هذه المجتمعات ضد الدولة تماما نتيجة اختيار ثقافي واعٍ، غير أنها أقل اكتراثا بالدولة عندما لا تجيء.

عدت إلى صنعاء أغذ الخطى، (أكره الصمت والنسيان، وليل القرية الموحش، والظهيرة الميتة، وأكره أغذ الخطى).

عدت إلى صنعاء. وفي الواقع كان يجب أن أعود على الفور. ذلك أن المقال راح يأخذ منحى تخصصي لا طائل منه، وربما لا يسعني الخوض في الجزء التخصصي أكثر دون أن أبدو رجلا غبيا يقاوم إحساسه بالمجهولية، بالجهالة غير الهيابة.

alalaiy@yahoo.com