أطماع استعمارية في قالب التسامح
بقلم/ إحسان الفقيه
نشر منذ: سنتين و 7 أشهر و 11 يوماً
الإثنين 16 أغسطس-آب 2021 08:35 م
 

التاريخ يكتبه الأقوياء ليقرأه الضعفاء، والفاعل في الجملة الفعلية تراه على الدوام مرفوعاً والمفعول منصوباً كمرمى سهام، والناس إما يدٌ عليا أو سفلى تُبسط لجمع الفتات، وبمثله صح المعنى لقائله: من لم يكن لديه مشروع صار ضحية لمشاريع الآخرين، وهكذا نحن، نعيش منذ السقوط نكتفي بالإشارة إلى كيد الآخرين، نعد خطوات الخصم إلينا ولا نبرح مربع السكون.

ضمن إحدى غفواتنا الطويلة، لمع في الأفق مشروع صهيوني جديد، نردد عنوانه ونحن نتثاءب على نحو قرائتنا لخبر يروج لحفلة أوبرا. «الديانة الإبراهيمية» ذلك هو عنوان المشروع الأخطر في ألفيتنا السعيدة، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه ضياع الهوية والدين والأرض، القائم عليه الكيان الإسرائيلي والصهيونية المسيحية، التي تقود أمريكا، وحلفاؤها من الاتحاد الأوروبي، والمنظمات العالمية التي أنشئت من أجل تحقيق مصالح الأقوياء.

الدين الإبراهيمي الذي يراد للمنطقة، يتألف من القيم المشتركة لأصحاب الكتب السماوية الثلاثة من أبناء إبراهيم عليه السلام: اليهود والمسيحيين والمسلمين، ليصبح دينا عالميا قائما على معاني المحبة والتسامح والعدل والرحمة، تصبح له قدسيته التي تغطي على قدسية الكتب المنزلة، وأما المختلف فيه، فيتم تنحيته، سواء كان عقائد أو تصورات أو تشريعات أو معاملات، وذلك بإعادة تأويل النصوص وتكييفها مع متطلبات التوافق، ومن ثم ـ وفق هذه الرؤية – يصبح العالم محكوما بسياسة دينية واحدة، على أرضيتها تزول الخلافات وتذوب الفوارق وتُحل الصراعات. هذا المشروع رغم خطورته وذيوع اسمه، لا يجد اهتماما كافيا يليق به من قبل الساسة والباحثين والنخب الثقافية والدينية، إلا أنه انبرت لفضح ذلك المخطط وبيان أبعاده ومساراته، الدكتورة هبة جمال الدين، مدرسة العلوم السياسية في معهد التخطيط القومي، وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، من خلال كتاب عنوانه: «الدبلوماسية الروحية والمشترك الإبراهيمي: المخطط الاستعماري للقرن الجديد» وقد اعتمدتْ فيه على الوثائق والتقارير الغربية لعدم وجود مراجع عربية تخدم البحث، بما يعكس الإهمال البحثي المتفاقم في العالم العربي، بل الأدهى من ذلك أن هذا البحث خاضت غماره بسبب تناول أحد الباحثين له في أحد المؤتمرات بالثناء والإطراء، والمفاجأة أنها سألته عن المراجع التي اعتمد عليها، فأجابها بأنه ليس لديه مراجع بهذا الشأن، بمعنى أن الرجل ردد ما يقوله أرباب المشروع فحسب. والحق أن هذا العمل الذي قامت به الدكتورة هبة جمال، يعد أول ما كتب في هذه القضية، وغدا المرجع الأبرز لكل باحث يسعى لجمع أطراف الموضوع، أو على الأقل اعتباره منطلقا للبحث فيه.

لم تكن مصادفة أن يطلق ترامب على اتفاقية التطبيع بين الإمارات والكيان الإسرائيلي ـ وتلتها الاتفاقية ذاتها بين البحرين والكيان – اسم «اتفاقية إبراهيم» رغم أن الأعراف السياسية جرت على أن تتم تسمية الاتفاقية السياسية باسم الدولة الوسيط، مثل اتفاقية كامب ديفيد أو جنيف… لكن تسمية ترامب أظهرت أنها اتفاقيات ذات صبغة دينية، فإن التطبيع بجميع أشكاله هو أبرز مفردات مشروع الديانة الإبراهيمية، ولم تقصر حكومة الإمارات في هذا الشأن، حيث أعلن أحد مسؤوليها البارزين في الشهر الذي أعقب الاتفاق، اعتزام بلاده افتتاح معبد الديانات الإبراهيمية الثلاثة في أبو ظبي. مشروع الديانة الإبراهيمية في ظاهره يُطرح ضمن مفهوم الدبلوماسية الروحية لفض النزاعات ذات الخلفية الدينية، وتحظى مراكز الدبلوماسية الروحية، بتمويل من قبل أمريكا ودول أوروبا ومنظمات دولية ضخمة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تقدم هذه المراكز نفسها في قوالب تنموية وطبية وإغاثية، ويمتد أثرها إلى المناهج التعليمية، خاصة في مدارس الإنترناشونال الرافضة لتدريس مادة الدين، ليحل محلها كتاب للقيم، ونوقشت هذه الفكرة بالفعل في بعض من الدول العربية لتعميمها في المدارس المحلية. يصدمنا مشروع الديانة الإبراهيمية بأصل مهم لدى القائمين عليه، وهو إعطاء الشعوب الأصلية الحق على الخريطة السياسية، بما يعني قبول الادعاءات الإسرائيلية بالحق التاريخي في دول عربية، والمطالبة بتعويضات من الدول العربية التي كانت تضم اليهود قبل هجرتهم منها، وهو ما يفتح المجال كذلك لتقديم خرائط إسرائيلية تبحث عن حقوق لها في الجزيرة العربية. يعتمد المشروع على عدة أدوات، منها القيادات الروحية التي تحظى بأتباع كثر، وفضّلت المراكز البحثية الأمريكية أن تكون قيادات صوفية، لقربها من الصوفية العالمية التي تؤمن بالمسار المفتوح للتدين، بالمشاركة مع دبلوماسيين وسياسيين، يضعون المشتركات التي يتفق عليها رجال الدين من الأطراف الثلاثة على الخريطة السياسية، لتكون صياغتها هي أساس الحكم في العالم.

توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، له جمعيتان للشرق الأوسط وافريقيا، للاهتمام بدعم الحوار الإبراهيمي، أي تعزيز فكرة الديانة الإبراهيمية، وتناول أمر آخر يعد تطبيقا وتنفيذا للمشروع، وهو الحوار الشعائري، أي نقل المشترك بين الأديان إلى شكل شعائر مشتركة. مدخل المشروع روحي قيمي، وأما مساراته فهي سياسية بامتياز، تمثل صورة جديدة للهيمنة الاستعمارية، ويراد منها تصفية القضية الفلسطينية التي هي أم القضايا، عن طريق تغييب التناقض الوجودي بين الحق الفلسطيني والمشروع الاستيطاني الصهيوني، فلا تبقى هوية ولا أرض ولا حدود.

الآن وبعد مرور ثلاثة عقود تقريبا تراجعت أمريكا عن فكرة فرض النموذج الخاص بها من خلال أطروحة فوكوياما المعروفة بـ»نهاية التاريخ» واستبدلته بفكرة أن فرض ذلك النموذج الأمريكي لن يتأتى إلا من خلال انصهار الأديان. لقد انبعثت من داخل أروقة جامعة هارفرد الأمريكية، بروتستانتينية النشأة والمسار، أبحاث لدعم فكرة المسار الإبراهيمي الذي يتتبع رحلة سيدنا إبراهيم في المعتقدات الثلاثة، على بعض الاختلاف بينها، التي تبدأ من تركيا وتنتهي في مكة، وتدويل هذه الأماكن بحيث لا تصبح ملكا لساكنيها، والخرائط الخاصة بذلك المسار تتفق مع خريطة أرض إسرائيل الكبرى، ولعل هذا ما عناه كوشنر عندما تحدث عن أن هدف صفقة القرن هو إزالة الحدود السياسية.

في المعتقد الإسلامي يؤمن المسلمون بأنهم على ملة إبراهيم كما جاء في القرآن الكريم «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ» بل أمروا أمراً باتباع ملة إبراهيم «قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» فملة محمد صلى الله عليه وسلم هي ملة إبراهيم، وهي الحنيفية السمحة، وعلى ذلك فالقضية منتهية لدى المسلمين، فليسوا بحاجة لاستحداث دين جديد يدخلونه بموجبه في ملة الإبراهيمية. أما اليهود والمسيحيون، فكل من يتمسك منهم بمعتقده على وجه الديانة لا السياسة، فسوف يرفض حتما هذه المشروع الذي يسلبه ما عقد قلبه عليه، فلن يقبل به سوى أصحاب الأطماع الاستعمارية، ولذا يتبناه من اليهود والمسيحيين فقط الصهاينة (والفرق حتما واضح) وكذلك يقبله من المسلمين فقط المتصهينون وأذناب الصهاينة.

إنني ككاتبة مسلمة، أقول إننا كمسلمين نعيش تحت ظلال ملة إبراهيم الحنيفية السمحة، ولا نحتاج من أجل إقرار السلام العالمي والسلم المجتمعي لأن نقبل باستحداث اختراع صهيوني يختزل هويتنا، وليست المشكلة في الإسلام، إنما في ثلة المنحرفين المنتسبين للإسلام المارقين عن تعاليمه، والمشكلة كذلك في الخصوم الذين يصورون الإسلام على أنه دين تخريب وقتل، مع أن الحرب العالمية التي قتل فيها ما يزيد عن خمسين مليون إنسان، كانت بين دول العالم المسيحي. مشروع الدين الإبراهيمي أكبر بكثير من أن يحيط به مقال، فقط أردت الإشارة إلى مدى خطورته، لتكون دعوة لتناوله بجدية وتوسع من قبل الباحثين والمثقفين والنخب السياسية والفكرية والدينية، والطرْق على هذه القضية لتحصين وعي الجماهير، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.

*كاتبة أردنية