أعترف أنني شمالي
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 15 سنة و 7 أشهر و 8 أيام
الأربعاء 15 إبريل-نيسان 2009 09:19 م

أعترف أنني شمالي. وهذا الانتماء عنصر ثانوي جدا، وطارئ جدا، وليس له وزن في هويتي المؤلفة لشخصيتي، الهوية التي تجعل من أحدنا غير متماثل مع أي شخص آخر. لكنه، وياللمفارقة، أحد الانتماءات التي لم أشارك في اختيارها عندما وجدت يوما على هذا الكوكب، مثل أشياء كثيرة تلتصق بالمرء لحظة ولادته دون استئذان، أشياء من قبيل النوع، اللون، العائلة، مكان الولادة. (وبوسعي أن أضيف العشيرة والطائفة الدينية أحيانا).

لذا يبدو لي، على الدوام، أن التباهي بمثل هذه الهويات، غير المكتسبة، سخيف، بقدر سخافة التنصل عنها. بكلمات أخرى: إذا كان يتعين على المرء عدم الانسلاخ عن الانتماءات التي تشكل هويته، فعليه كذلك تجنب اعتبارها مصدر فخر وتعالٍ أو مصدر خزي وعار. مثلا أستطيع الافتخار بكوني صحفي من طبقة اجتماعية فقيرة، أكثر من قدرتي على الافتخار بكوني شاب من قرية جبلية في حجة تزعم عائلته بأنها تتحدر من قبيلة حاشد.

لا أعرف معنى أن يكون المرء شماليا أو جنوبيا على حد سواء. ولقد نجحت في تحويل كلمة "دحباشي" إلى مجرد دعابة مع درجة من المكر والتخابث. تقريبا، لا أعلم ما إن كان الجنوبي مختلفاً بالفعل، وبماذا هو مختلف حقا؟ لن أجيب على هذا السؤال، وربما لا أستطيع. ثم إنني تذكرت أني لا أنوي هنا تقديم بحث في السيسيولوجيا، قدر محاولتي مخاطبة الجنوبيين ألا يكرهوا الشماليين بسبب أنهم أصبحوا شماليين ذات يوم. شخصيا، أحب الاعتقاد أن الفوارق، بيني وبين أي جنوبي، فوارق ضئيلة، وأنها ذات صبغة ثقافية غالبا، أمور تتعلق بنمط المعيشة وعادات التفكير. وربما شيء من خصوصية طفيفة وخبرة اجتماعية وسياسية، ترتبت على خضوع الجنوب للاستعمار أولا، ثم للإيديولوجية الماركسية لاحقا.

من شبه المؤكد أن اليمن لم يشهد، عبر التاريخ، صراع هويات بالمعنى الصارخ للعبارة. تلك الصراعات الطويلة الأمد، التي تندلع عادة لبلورة رموز وأفكار ومفاهيم جوهرية معقدة، حول تحديد إدراك المرء لنفسه وجماعته والعالم من حوله. كل الحروب القديمة في اليمن، دارت على أسس بدائية إجمالا، للسيطرة على الأرض وبسط النفوذ وكسر هيبة الآخر، ليس أكثر وليس أقل. تاريخيا، ربما وجد من يتلفع بهذه الهوية أو تلك، لتسوية حسابات سياسة محضة.

...

على أنني، ولسبب يصعب تحديده، ما يزال تأثير الحديث عن الانفصال في نفسي ذا طابع شخصي غالبا. أشعر وكأنني منبوذ بسبب من أنا، ذلك الإحساس الغريب بالوهن والقطيعة والحزن، عندما يدرك المرء إلى أي حد هو غير مرغوب فيه، لأنه فقط أبصر النور في مكان قريب من المكان الذي نشأ فيه علي عبدالله صالح. إحساس يجعلني أنسى لبرهة حديث المظلومية والخصوصية الجنوبية والشراكة المفقودة.

لست اللواء مهدي مقولة بالطبع. وانفراط الوحدة لن يمثل موتا لمصالح 19 عاما. بالكاد أعرف عدن، وتحلقنا حول الراديو على سطح بيتنا في القرية أثناء حرب 94 بمعية قريبنا مبارك الذي نزح وعائلته من صنعاء هربا من الصواريخ، هو المشهد الوحيد الذي علق بذاكرتي الصغيرة، ذاكرتي أنا الذي ولدت قبل العام الذي تمت فيه الوحدة بـ7 سنوات.

مناهضة الظلم قيمة عالية الشأن، لكن الوحدة والصداقة قيمتان عظيمتان أيضا. كان جان مارك، وهو أحد الشخصيات المركزية في رواية "الهوية" لميلان كونديرا، يحب أن يقول لنفسه: بين الحقيقة والصديق أختار الصديق دائما. ذات يوم أخذ مارك يشرح لعشيقته كيف أن الصداقة كانت في نظره هي البرهان على وجود شي أقوى من الإيديولوجية ومن الدين ومن الأمة، مستشهدا بقصة الأصدقاء الأربعة في رواية الكسندر دوماس الشهيرة: "الفرسان الثلاثة"، الذين تقاطعت مصائرهم بين معسكرين متعارضين غالبا، ووجدوا أنفسهم مرغمين على أن يقاتلوا بعضهم بعضا، وكيف أن ذلك لم يعكر صفو صداقتهم. ولم يتوقفوا قط عن مساعدة بعضهم سرا، بدهاء، ساخرين من حقيقة معسكر كل منهم. "لقد وضعوا الصداقة، فوق الحقيقة، فوق القضية، فوق أوامر الرؤساء، فوق الملك، وفوق الملكة، وفوق كل شيء" بتعبير كونديرا على لسان جان مارك.

لدي أصدقاء كثر من الجنوب. ولطالما ظلت الوحدة في نظري شيئا يتخطى السياسة. إنها نموذج واسع للالتقاء الإنساني الخلاق، شكل أكبر للصداقة والألفة والمصير المشترك. أعترف أنني لا أحب هذا الأسلوب الوعظي الممل والساذج. ذلك أنني واقع في شراك ما بعد الحداثة، إذ تغريني فكرة موت الخطابات المهيمنة والغنائية المبتذلة، وفكرة حق كل الجماعات في التحدث عن نفسها كأمر حقيقي ومشروع، وفرص العيش خارج النظريات الكلية والحتميات التاريخية.

غير أن صمت عوض كشميم وباسم الشعبي، على سبيل المثال، عند الحديث عن الانفصال يصيبني بألم في المعدة. لا أدري لماذا، ربما لأن الوحدة بالنسبة لي أصبحت تعني شيئا بعد أن عرفتهم، وبعد أن أحببت رجالاً كباراً على غرار فيصل بن شملان، وياسين سعيد نعمان، وعبدالناصر باحبيب، وبافضل، ومقبل، وعشقت أنغام عمالقة مثل أبو بكر سالم بالفقيه، وفيصل علوي، ومحمد بن أحمد قاسم، ومحمد سعد عبدالله.

الشيء الغريب، أنني أكره كلمة "الانفصال" كرهي لسياسات علي عبدالله صالح الخرقاء. نريد أن نبقى معا رغم كل الصعوبات. ليس خوفا على شيء، ولا طمعا وتهافتا وراء شيء، لكن غريزيا، ولأسباب لم أجد لها تفسيراً منطقياً حتى الآن، لا أزال أجد أن الوحدة تمتلك قدرة فائقة على إغوائي. صحيح أنا أؤمن بالفردانية، وأنبذ الولاءات العشائرية الحمقاء، وأتمنى أن أغمض عيني يوما وافتحها فأجد التراتبية الاجتماعية وتفاوت الفرص قد تلاشت من عالمي إلى الأبد. لكنني، مهما يكن، لا أجد الانفصال خيارا محببا، إنه أحد أكثر الأشياء التي تكدرني وتصيبني بالإحباط.

يقول باراك أوباما، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، في كتابه جرأة الأمل :"إذا كنا نحن الأمريكيين فردانيين في الصميم، فقد ارتبطت فردانيتنا على الدوام بمجموعة من القيم الجماعية. نحن نقدر قيمة المجتمع والجيرة، نقدر قيمة المشاعر الوطنية والتزامات وواجبات المواطنية، والإحساس بالواجب والتضحية في سبيل الأمة. نحن نقدر الإيمان بشيء أكبر من أنفسنا. نحن نقدر قيمة مجموعة السلوكيات التي تعبر عن احترامنا المتبادل تجاه بعضنا بعضا: الصدق الأمانة، العدل والنزاهة، والدماثة واللباقة، والتواضع واللطف، والتراحم والإحسان".

...

ولقائل أن يقول: اعطنا وطنا كأمريكا نعطيك حسا وطنيا مرهفا. والحق أنها ملاحظة ذكية وبالغة الدقة، لكنها لن تكون كذلك، حينما نعرف أن ابراهام لينكولن، الرئيس الـ14 للولايات المتحدة، حين أكد على مثل هذه القيم في خطبه، التي وصفت بأنها لا تفقد بريقها مع التكرار- في وقت كانت العبودية في ولايات، كفرجينيا وكارولينا، مرتبطة عضويا بتدين المسيحيين البيض في الجنوب- كان يواجه بمزيج من السخرية والازدراء وعدم التصديق.

حارب لينكولن ببسالة في سبيل التخلص من الرق والحفاظ على الاتحاد. بدأت الحرب الأهلية الأمريكية في 12 أبريل 1861 عندما هاجمت فرقة جنوبية موقع فورت سمتر العسكري في تشارلستون، واستمرت الحرب 4 سنوات كاملة. كسب لينكولن الحرب التي انتهت باستسلام الجيش الجنوبي بقيادة روبرت لي للقوات الشمالية..

عُرفت الحرب الأهلية باسمي الحرب بين الولايات وحرب الانفصال أيضًا. وانقسمت أمريكا حينها إلى قسمين. ففي حين كانت الولايات الجنوبية المعروفة بالجنوب، أو الكونفدرالية، تحارب لأجل المحافظة على استرقاق السود، وعلى نمط الحياة الزراعية، فقد عارضت الولايات الشمالية، المعروفة باسم الشمال أو الاتحاد، نظام الرق في الجنوب وسعت للمحافظة على اتحاد الولايات كافة داخل الولايات المتحدة الكبيرة. أزهقت هذه الحرب 620 ألف شخص، من بينهم 360 ألفًا من الشمال و260 ألفًا من الجنوب. وقد مات أكثر من نصف هؤلاء نتيجة الإصابة بالأمراض. وكلفت الحرب الأمريكيين ثمنًا باهظًا في الممتلكات والمزارع والصناعة والتجارة، وهلك الكثيرون من المدنيين من رجال ونساء وأطفال. (تصفية آثار الحرب، وإعادة الوحدة الكاملة لجميع الولايات المتحدة، احتاجتا عملاً وجهداً مضنيا، ضمن عملية عرفت بـ (إعادة التأسيس).

خلفت تلك الحرب مرارة كبيرة. وشكلت لدى الجنوبيين الأمريكيين إدراكا خاصا للتاريخ والمأساة، وعززت شعور المرء بهشاشة الحياة، على حد وصف الصحفي الأمريكي جون ميشام. حتى إن الصحفي كريستوفر ديكي، هو الآخر، لاحظ، أثناء زيارته للجنوب الأمريكي في أغسطس 2008، أن الحرب الأهلية، بعد مضي أكثر من 150 عاما، كانت ما تزال تتربص، بطريقة ما، في ظلال ناطحات السحاب، ذات الواجهات المصنوعة من المرايا، وشرح ديكي كيف أن الناس هناك "لم ينسوا الماضي ولم يغفروا له، بل وضعوه جانبا ومضوا قدما في حياتهم وأعمالهم".

تعافى الأمريكيون من إرث الحرب الأهلية. وشيئا فشيئا أزاحوا عن كاهلهم عبء التمييز العنصري المقيت، وتمكنت حركة الحقوق المدنية، في الخمسينات والستينات، من إرساء مبادئ العدل والمواطنة والمساواة، دون أن تضطر إلى المساس بالاتحاد الفيدرالي الأسطوري، المؤلف من مزيج غير متجانس من الأقليات.

...

على الدوام للحروب عواقب مأساوية. وما من شك، فمعارك صيف 94 تركت جرحا في الذاكرة الجنوبية، غائر صحيح، لكن إمكانية أن يندمل لم تضمحل بعد، مع التسليم بأنها تزداد صعوبة مع مرور الوقت. بالتأكيد، كنا وما نزال، بحاجة إلى قائد بنصف تواضع وحكمة ودهاء لينكولن. "التواضع نفسه الذي أتاح له، حالما انقطع الحوار بين الشمال والجنوب، وأصبحت الحرب أمرا حتميا يتعذر تجنبه، مقاومة إغراء أبلسة الآباء والأبناء الذين قاتلوا في المعسكر الآخر، أو التقليل من فضائع الحرب، مهما بلغت عدالتها وضروراتها"، بحسب أوباما.

لا شيء أسوأ ولا أخطر من "السماح للتاريخ بإدارة حياتنا". ثمة طريقة دائما لتخطي شروخ الزمن، طريقة ترتكز على الشعور بالتضامن الوطني، ولا تنطوي بالضرورة على شعارات كالانفصال وتقرير المصير، والجهر بالتمايز العرقي والمذهبي. إلى جانب ما هو بديهي، هناك أيضا تشابه غير مدرك يجمعني بالجنوبيين. مثلا أحببت الأب في حيدر العطاس، وهو يحتضن ويقبل أحفاده في برنامج زيارة خاصة. لقد تذكرت جدي الذي أحبني كما لم يفعل أحد. وفي انتخابات 2006، وجدت نفسي متحمسا لمرشح الرئاسة فيصل بن شملان بجنون مستميت. وراودني شعور لذيذ بالتفاؤل، عندما تيقنت أن بن شملان حصد فوزا كبيرا في مركزي الانتخابي.

أعترف أن الجنوبيين جماعة جريحة. وأن تمثيلهم في السلطة غير عادل تماما. وأتفهم مشاعر السخط والارتياب السائدة في ربوع الجنوب. وبوسعي أن أتخيل إلى أي مدى ترعب العدنيين، ذوي المزاج المعتدل والأعصاب الباردة كقطعة ثلج، فكرة بقاء الوحدة مع قبيلة مثل بني ضبيان، أو حرف سفيان والعصيمات، وقيفة ومراد وادهم، حيث ما يزال في صفوف هذه القبائل المحاربة من يتسابق على وصف نفسه بـ"شراب الدم". لكن كيف يمكن ألا ننزلق من التعاطف إلى المحاباة، على حد تعبير أمين معلوف في "الهويات القاتلة". وكيف أنه يجب الموازنة بين التأثر لآلام الذين ذاقوا صلف التمييز والاضطهاد ورهاب الآخر، وبين عدم التسامح مع إفراطهم في كبريائهم الوطني والتمركز الشوفيني حول الذات، والأنانية، واحتقار الآخر، والشعور بالفوقية ونقاء العرق.

سأكتفي بإلقاء اللوم على نظام الرئيس صالح. إلا أنني لست على يقين ما إن كانت لهجة باعوم ستساعدني على الاحتفاظ بانحيازي لصالح الجنوبيين، أو على الأقل، الوقوف على الحياد. صحيح تصرفات الرئيس هي الأكثر خطرا على الوحدة، لكن بالمقابل نبرة باعوم العدوانية تجعل شعوري بالذنب إزاء الجنوب يستنفد زخمه وتلقائيته. وفي المحصلة، كلا الرجلان يثيران فيَّ القرف والاشمئزاز واليأس.

 لا أريد أن أبدو كواعظ عجوز لأقول إنه علينا الانخراط في حلم مشترك، يضع نصب عينيه أمرين متلازمين: الأول، التحلي بالصبر ريثما تمتلك الأدوات الديمقراطية السلمية القدرة الكافية للإطاحة بنظام الرئيس صالح، دون تكرار دورات العنف، التي لن تفعل سوى مراكمة مزيد من الصدوع الاجتماعية والأحقاد التاريخية، وانبعاث قاتل للانتماءات العتيقة. الثاني، ادخار ما تبقى من الوحدة ليغدو في صلب الصيغة التي سيكون شأنها إدارة حياتنا مستقبلا، بحيث تستحيل معها الهويات الصغيرة إلى مصدر ثراء وتنوع وقوة.

alalaiy@yahoo.com