الإثارة الإباحية تستفز الجمهور
بقلم/ محمد الحجلي
نشر منذ: 15 سنة
الجمعة 27 مارس - آذار 2009 06:10 م

نتمنى لو إستطعنا توقيف هذا الإستهتار بالإعلام، وهذه العربدة التلفزيونية، وكل هذا الإلهاء، والمجون، والإسفاف، وتمييع الذوق، والإثارة الغريزية الرخيصة، والمدمرة للملكات الذهنية، وصور الجسد الجريئة والوقحة التي تذهب إلى حد الإباحية.. وكل ما شئنا أن ننعتها به من نعوت، ونصفها من صفات سيئة وبذيئة. هذه الفضائيات التي دخلت بيوتنا ويشاهدها جمهورنا العربي. وتثير إستفزازنا وإشمئزازنا، ولا ترضينا بتاتا ولا نقبل بها. نتمنى لو أزيلت، وتبقى فقط القنوات الفضائية الراقية والمسؤولة، والهادفة إلى تنوير المشاهد وإمتاعه وتسليته بالمواد التثقيفية والفقرات والبرامج الجادة والمفيدة، والمغذية للفكر..

لاشك أن أي قارئ لهذه السطور ـ ودون أن يطيل التفكير ـ سيتفق مع ما جاء فيها كليا، أو على الأقل جزئيا. ولاشك أيضا أن بإمكاننا كتابة الكثير من المقالات، لننتقد الفضائيات الهابطة على طول الخط، ونكشف فيها عيوبها أو سمومها المغلفة بـ(الشوكولاته)، وكذلك الأبعاد الإجتماعية التي تترتب عن هذه السموم. وهذا سهل جدا.

لكن من يطيل التفكير والتأمل في تلك السطور، سيسأل: أليس البحث عن إمكانية القضاء نهائيا على الفضائيات الهابطة والإبقاء فقط على الفضائيات الراقية والمسؤولة، كالبحث عن مدينة إعلامية فاضلة؟ أو كمحاولة قطع رأس الشيطان، والقضاء عليه. حتى لا يحول دون الوصول إلى هذه المدينة الفاضلة؟ أليس القضاء نهائيا على هذه القنوات، غاية لا تدرك؟ أليست كل مجتمعات وكل ثقافات العالم تتضمن فضائيات راقية ومسؤولة، وأخرى هابطة؟ ثم هذه الكتابات التي نعبر فيها عن حنقنا وسخطنا من هذه الفضائيات، ما هو أفقها المستقبلي ؟ وما مدى قدرتها على التأثير في هذه الفضائيات؟ وما مدى تأثير هذه الكتابات على الجمهور العريض المستهلك لما تعرضه هذه الفضائيات؟ وما مدى قدرتها على تنبيهه وتوجيهه؟ وما نسبة المطلعين على هذه الكتابات من جمهور المشاهدين لهذه الفضائيات؟ وأليس جمهور النخبة فقط، هو الجمهور القارئ لهذه المقالات، وهو الوحيد الذي يطلع عليها، وبالتالي يبقى الجمهور العريض بعيدا عنها؟ أليس الغارق في ملاهي هذه الفضائيات بعيد جدا عن المطالعة وقراءة الكتابات النقدية والتحليلية؟ وما يزيد الطين بلة، أن نسبة القراءة في الوطن العربي متدنية جدا. وبالتالي ما هي أنجع السبل لمواجهة هذه الفضائيات؟

أتمنى أن لا يعيد التاريخ نفسه!.. فعندما بدأ الإنتاج السينمائي ينمو في الوطن العربي قبل عقود خلت، (في مصر تحديدا) بدأ إستغلال هذا الفن من بعض ذوي رؤوس الأموال، لإستقطاب الجمهور واستغلاله عاطفيا وغريزيا بأعمال رخيصة، من أجل الوصول إلى جيوبه، وسميت تلك السينما مند ذلك الحين بعدة تسميات، سينما المقاولات حينا، وسينما شباك التذاكر حينا آخر، والسينما التجارية حينا آخر. وعندما وجهت الإنتقادات إلى أصحاب هذه السينما وصناعها، على أنهم يبتزون الجمهور ويخدرونه، كان ردهم ـ وإن كان غير مقنع، وغير مقبول، من زاوية أن السينما أداة تثقيف وتوجيه وتربية ـ كان ردهم منطقيا لأنه ينظر إلى السينما من بمنطق إحدى خاصيات السينما.. المنطق التجاري الصرف.. الربح والخسارة.. كان ردهم كالتالي: (الجمهور عايز كدة). ولا يزال هذا الرد مأثورا إلى الآن.. هذا الشيطان الذي دخل السينما العربية، لم يقض عليه ولم يمت. لكن هذا لم يمنع قط من ومواجهته بخلق سينما بديلة لإنتاج أفلام طليعية.

فمنتدى 'الفضائيات والتحدي القيمي والأخلاقي للشباب العربي' الذي أطلق حملة 'من أجل فضاء إعلامي مسؤول'، وأطلق موقع fadakom.com . كل هذه المبادرات، لا يمكنني إلا أن أشيد بها كامل الإشادة. لكن بالكتابات النقدية مادا يمكن أن نحقق على أرض الواقع الذي يضج بالعربدة التلفزيونية؟ بعبارة أخرى، ماذا باستطاعة الخطاب النقدي أن يحققه، عندما تكون الأذن مغيبة؟ أو عندما يحول بين الأذن والخطاب، الكثير من ضوضاء وضجيج الفضائيات؟

إن ما نراه أمام أعيننا من عروض هذه الفضائيات، لم ينطلق من فراغ، أو بمحض الصدفة. وإنما جاء بفعل تأثيرات ثقافية خارجية. ذات أبعاد تاريخية تم التجاوب والتفاعل معها بسذاجة كبيرة، وبجهل فادح لخصوصيات الثقافة العربية. وهكذا أنتجت هذه الصور والأصوات، وفرضتها علينا فرضا، باسم ليبرالية التلفزيون وحرية العرض.

إن الإكتفاء بالوقوف أمام هذه الفضائيات موقف الإنتقاد، لا يعدو في أحسن الحالات، سوى إعادة إنتاج خطاب تم إستهلاكه وبلا جدوى، مند تزايد انتشار هذه الفضائيات. وأخشى أن نكتشف هذه اللا جدوى بعد ضياع وقت طويل. وأخشى أن يكون هذا، كمن يريد كسر صخرة صماء بقطعة خشب رخوة.

إن عدم طرح البديل، ترك الساحة خالية، ليس فقط أمام الفضائيات العربية الهابطة، بل أمام المنتوج التلفزيوني الأجنبي، وأخص بالذكر، المنتوج الأمريكي الذي ينافس بشدة ـ حسب بعض إستطلاعات الرأي ـ القنوات العربية الطليعية كـ 'الجزيرة'. رغم أن 'الجزيرة' قناة إخبارية، بينما القنوات الأمريكية هي قنوات أفلام ومسلسلات. والتفكير في مواجهة هذا الغزو الأجنبي في نظري هو الأهم.

فبعد أن أطلق السعوديون قناة 'إم بي سي 2' وخصصوها لعرض الأفلام الأمريكية، أتبعوها بقنوات أخرى لنفس الغرض (الأفلام والمسلسلات الأمريكية). تلتها قناة 'فوكس' الأمريكية للأفلام، ثم فوكس للمسلسلات. وذلك بإتفاق بين السعوديين والأمريكان. وهده القنوات كلها تحضى بانتشار واسع جدا.

هذا المد الكاسح للمنتوج التلفزيوني الأمريكي، الذي وجد لمساعدته، أياد عربية طيعة وغبية للأسف الشديد.. أياد لا تفهم شيئا عن الخطاب الإعلامي وتقدم للأمريكان خدمة كبيرة، بحيث أن قنوات 'إم ب سي' السعودية المذكورة، تقدم خطابا إعلاميا وثقافيا أمريكيا خالصا، لا وجود فيه للعروبة بتاتا. هذا المنتوج الذي يملك من عناصر القوة والقدرة، ما يؤهله لمنافسة فضائياتنا منافسة شديدة. هو الذي سيصعب علينا كعرب مهمة إنجاح أي مشروع تلفزيوني عربي بديل. وهو الذي يستحق منا التفكير مليا عند طرح هذا البديل. وهنا يأتي دور المتابعة النقدية التي تظهر في الصحف وفي موقع fadakom.com ، لدعم هذا المشروع البديل توضيح خطابه. ومد ما يمكن من جسور التواصل بين هذا الخطاب العربي، والأذن العربية. وعندما ننجح ـ وأنا متفائل في ذلك، وأراه ممكنا جدا ـ فإن الفضائيات العربية الماجنة والهابطة، ستسقط تباعا كأوراق الخريف.

* محمد الحجلي

ناقد سينمائي وتلفزيوني من المغرب.